فن الأداء بين البساطة والتعقيد
عندما بدأت أتعمق أكثر في فن أداء الممثل، أدركت أن الأداء الطبيعي ليس مجرد مهارة، بل هو انعكاس لفهم الممثل للشخصية التي يجسدها. الأداء الصادق يأتي من الداخل ويمس قلب ووجدان المتلقي، يعيش اللحظة كما لو أنها حقيقية، وليس مجرد تظاهر أو تقليد. كنت أراقب أداء الممثلين العالميين وأقارن بينهم وبين ما أراه في المسرح العربي، وكنت أجد أن الفرق يكمن في التفاصيل الصغيرة التي تضفي على الأداء عمقاً أكبر.
في الأفلام الأجنبية تجد أن نظرة العين، حركة اليد، أو حتى لحظة الصمت تحمل الكثير من المعاني، بينما في بعض الأعمال العربية كان التركيز يميل أكثر على الصوت المرتفع والحركات الكبيرة والمبالغات، وبالأخص أن معظم ممثلين السينما والدراما هما في الأساس ممثلين مسرح فنجد المبالغة المسرحية على الشاشة _ هو يبالغ فوق المسرح فكيف خلف الكاميرا_ كنت أتساءل: لماذا لا نحاول كسر هذه القوالب التقليدية؟ لماذا لا نبحث عن أساليب تعكس إنسانيتنا بشكل أصدق وأبسط؟ من هنا، قررت أن أضع لنفسي قاعدة أساسية في تعاملي مع فن التمثيل وهي “البساطة في الأداء هي مفتاح الوصول إلى القلب.” بدأت أطبق هذا المبدأ في تجاربي الشخصية وفي رؤيتي لأي عمل فني، وكنت دائماً أسعى إلى أن يكون الأداء مرآة تعكس الحقيقة، لا أداة لاستعراض القدرات. لقد علمني هذا المبدأ أن الجمهور ليس بحاجة إلى الصراخ كي يشعر بالألم، أو إلى المبالغة كي يضحك، بل يكفي أن يرى صدق المشاعر ليعيش التجربة بكل تفاصيلها.
ومع مرور الوقت، بدأت أبحث عن مصادر تلهمني لتطوير هذا النهج. قرأت كتبًا عن مدارس التمثيل العالمية، واطلعت على نظريات ستانسلافسكي تحديدًا، التي تؤكد على أهمية أن يعيش الممثل الشخصية من الداخل قبل أن يظهرها على المسرح أو الشاشة. شعرت أن هذا الأسلوب قريب جدًا من قناعاتي؛ فهو يدعو الممثل إلى البحث عن دوافع الشخصية وأحاسيسها، والبحث في الذاكرة الانفعالية، ليصل إلى أداء بسيط، لكنه عميق وصادق.
في تجربتي الشخصية، لاحظت أن التحدي الأكبر يكمن في التوازن بين البساطة والتأثير. فالبساطة ليست سهولة، بل هي فن يتطلب مهارة كبيرة. كيف يمكن أن تعبّر عن الحزن العميق بنظرة واحدة، بدمعة واحدة، ؟ كيف يمكن أن تنقل الإحباط من خلال وقفة صامتة، من خلال بإيماءة ؟ هذه الأسئلة كانت تلاحقني دائمًا، وكانت تدفعني إلى التدريب المستمر والتأمل في تفاصيل الحياة اليومية، حيث تكمن الحقيقة في الأشياء البسيطة التي قد لا نلاحظها.
واليوم، وأنا أتأمل رحلتي مع هذا الفن، أشعر أن التحدي لم يكن في فهم الأداء الطبيعي فقط، بل في مقاومة القوالب التي فرضتها الممارسات القديمة المسرحية في بعض الأعمال والتي يُقدسها الأغلبية. إن التغيير ليس سهلًا، لكنه ضروري، وإذا أردنا أن نرتقي بمسرحنا وفننا بشكل عام، فعلينا أن نبدأ من حيث يبدأ الصدق، الذي يقابله السهل الممتنع المقنع.