بتكلفة 100 مليون دولار أميركي
فيلم "فيراري"... رحلة في حظيرة السيارات الشهيرة
مثل جُلّ أفلامه، اختمر مشروع "فيراري" طويلاً في ذهن مايكل مان، منذ اكتشافه، مطلع تسعينيات القرن الـ20، كتاب "إنزو فيراري: الرجل، السيارات، السباقات والآلة" لبروك ييتس، عن سيرة منشئ حظيرة السيارات الشهيرة، وعرّاب ماركة السيارات الرياضية الحمراء، رمز الفخر والسرعة. لم يكن ممكناً إنجاز الفيلم لولا توفير "أمازون" (يُعرض على برايم فيديو) نحو 100 مليون دولار أميركي لإنتاج هذه السيرة المكلفة، كونها تحيي حقبة خمسينيات القرن نفسه، في البلدة الإيطالية مودينا، مع ما يتطلّبه ذلك من تكاليف، للتصميم الفني والديكور والأزياء.
هذا أخرج مايكل مان من عزلته، التي دامت نحو عقدٍ، منذ تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر في متاهات رقمية وتجسسية، في "بلاك هات" (2015)، الذي لم يُحدِث إجماعاً على قيمته الفنية. بدوره، لا يُحلِّق "فيراري" عالياً، نظراً إلى الانتظار الكبير له، خاصة بعد الإعلان عن تأدية آدم درايفر الدور الرئيسي.
لكنّ الجيّد مع أفلام المؤلّفين، المهووسين بالتفاصيل والنزوع إلى الكمال أمثال مان، أنّها (الأفلام)، وإنْ لا تفي بكلّ وعودها، لا تفشل أبداً في أنْ تغمرنا بإحساس أنّنا بين أياد أمينة، وعالم مرتّب وفق رؤية وتناسق في الإيقاع والمسافة، والوفاء لتدابير جمالية وموضوعية، ما فتئت تتكرّر في منجز المُبدع الثمانينيّ. يتّضح هذا المعطى في نظرة كلاسيكية، ورهافة تناول لا يسقط أبداً في الإثارة السهلة، رغم أنّ بيئة القصة تغري بذلك، من دون أن يحرم نفسه من تشويق السباقات، وجرعة الأدرينالين المرتبطة بها، خاصة أنّ المخرج، المعروف بالعناية الفائقة التي يمنحها للمؤثّرات الصوتية، يجد هنا ضالته ليتحف الآذان بسمفونية من زمجرة المحرّكات القوية، وفرقعات إضاءة آلات التصوير القديمة، وهتافات الجماهير المتحمّسة. تبدأ القصة في مودينا عام 1957، أي بعد عشر سنوات على إنشاء "فيراري"، في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
يدير إنزو (درايفر) الشركة بشغف السائق السابق، الذي يخبر الخبايا الميكانيكية وأسرار عالم السباقات، بينما تتكفّل زوجته وشريكته لورا (بينيلوبي كروز) بالإدارة المالية. لكنّ الشركة تجتاز ظروفاً صعبة، في ظلّ تأثير ضعف المبيعات على الأداء المالي، فيضطرّ إنزو إلى التفكير في فتح رأسمالها لمستثمرين خارجين، كـ"فورد" و"فيات"، مع خطر فقدان خطّها، الذي يحاول التوفيق بين روح سيارة السباقات، والانصياع لمتطلبات السوق. فقط الفوز في سباق "ميلي ميليا" (Mille Miglia: من بريتشيا إلى روما ذهاباً وعودة)، في مواجهة حظيرة "مازيراتي" اللدودة، يُمكنه إنقاذ الشركة من الإفلاس في المدى القصير، خاصة أنّ شبح إحجام لورا عن الوفاء بتعهّدها، بالموافقة على فتح رأسمال الشركة، يلوح في الأفق، بعد اكتشافها أنّ العلاقة السرية بين زوجها وعشيقته أثمرت طفلاً.
منذ البداية، تُستخلَص لازمات معهودة في سرد مايكل مان: الانقسام بين خيارات مصيرية في شخص إنزو، الموزّع بين محاولات الحفاظ على الشركة العائلية، وتعارضها مع واجباته زوجا وعشيقا لأمّ طفله، وبين الإخلاص لشغفه بسيارات السباق، والتزامه ضمان مستقبل مالي آمن لشركته.
هناك أيضاً أفق التحدّي المقبل، الذي يتجلّى غالباً في عملية سطو أخيرة في أفلام بوليسية للمخرج، ويتجسّد هنا في السباق المرتقب، ودوره المصيري في حسم مآل الاختيارات الصعبة، التي يقدم عليها الـ"كومونداتوري". ولا يُنسى شبح الموت، الذي يحوم عادة فوق الشخصيات، ويحدّق هنا في المتسابقين الشباب عند كلّ منعطف، مع الأسئلة الأخلاقية المترتبة عن تطبيع فيراري معه.
مفتاحان أساسيان يُمثّلان تملّك شخصية من كان يوصف بأهمّ شخص في إيطاليا، إلى جانب البابا: مشهد تناول إنزو فيراري وجبة غداء مع موظّفي الشركة، من كلّ الاختصاصات (مع حمولته المتوسّطية المحيلة على التجمّع العائلي)، الذي يُسرّ فيه لهم بكيفية تعلّمه "وضع حائط" يحميه من ثقل الذنب بعد كلّ حادثة، منذ أنْ فَقَد صديقين له في سباق واحد. واللقطة التي يشرح فيها لمتسابقيه كيف أنّ الطبيعة لا تحتمل أن يشغل مكوّنان حيزاً واحداً، في إشارة إلى ضرورة أنْ يتنحّى أحد السائِقَين حين يطول أمد التحدّي، ويصلان إلى المنعطف، حتى يتجنّبا الاصطدام.
يكمن سحر "فيراري" أيضاً في قدرة المخرج على الانزياح من نسق أفلام السرعة، الذي ينبني غالباً على تشويق السباقات والتنافس الشخصي بين غريمين، مع خلق تماهي المُشاهد مع أحدهما. مفاتيح أنتجت أفضل ما في النوع، على غرار "سينا" (2010)، وثائقي أسيف كاباديا عن المتسابق البرازيلي الشهير، أو "فورد ضد فيراري" (2019) لجيمس مانغولد، وأسوأ ما فيه أيضاً، كـ"سباق الموت" (2008) لبول ويليام أندرسون.
في "فيراري"، لا يقع التنافس بين الشريكين في مركز الطرح، لأنّ المَشاهد التي تظهر أدولفو أورسي، مالك "مازيراتي"، أو متسابقيه في واجهة الصورة، معدودة على أصابع اليد الواحدة، ليظلّ جوهر الصراع، كما العادة عند مايكل مان، داخلياً أولاً، ومتبلوراً في مشاهد عزلة قصوى، يجد "البطل" نفسه فيها وحيداً مع مآل اختياراته، كما كان نيل ماكولي في "حرارة" (1995)، ومحمد علي كلاي في "علي" (2001) وحيدين، قبل حلول موعد الحسم.
ولعلّ اللحظات التي تؤطّر فيها الكاميرا فيراري من وراء رقبته، أو على طرف الصورة، تُذكّر بلقطات أثيرة من "المُطّلع" (1999)، عندما يقبع موظّف شركة التبغ وحيداً في شقّته، يجترّ عقبات اختياره فضح ممارسة الشركة، قبل أنْ يأخذ الحائط في التموّج، ليفصح عن الحياة العائلية الهنيئة التي كان يمكن أنْ يتمتّع بها، لو لم يتمسّك بموقفه.
يوظّف مان مقطعاً موسيقياً لليزا جيرارد، بعنوان "تضحية"، استعمله سابقاً في "المُطّلع"، في مشهد وقوف فيراري على الجانب المؤلم والمظلم لسباق السيارات. لا يفصح فيراري عن مشاعره إلا نادراً، كما في مشهد زيارة قبر ابنه من لورا، المتوفى إثر تداعيات المرض. شرخٌ في العلاقة بين الزوجين لا ينجحان أبداً في رأبه، فيختبئ إنزو في علاقة جديدة، بينما تنزوي لورا في مرارة، تتجلّى في طبعها الصارم ورفض إنجاز الحِداد، مُلقية اللوم على زوجها بسبب غيابه وتفضيله عالم السيارات على التفاني في علاج ابنهما، في ذروة مشاهد منزلية ليست أفضل ما في الفيلم.
على غرار شخصياته، يجد مايكل مان اليوم نفسه أمام معضلة، تسائلنا جميعاً: ما الأجدى اليوم، أنْ يتمسّك جهابذة الخلق السينمائي بشروط إنجاز أفلامهم بمنتهى الاستقلالية والوفاء لرؤيتهم،
مع احتمال توقّفهم عن العمل لعقود، بسبب تقليل الاستديوهات التقليدية في المجازفة بإنتاج أفلام متفرّدة بموازنات متوسطة أو كبيرة؟ أم أن ينصاعوا لنموذج إنتاج منصات العرض،
الذي يتيح لهم إمكانات مالية مريحة لإنجاز أعمالهم كما يتصوّرونها،
لكنّه يحرم المشاهدين من متابعتها على الشاشة الكبيرة، كما حدث مع "فيراري"؟ الاختيار صعب، ومستقبل السينما على المحكّ، بل ربما يكون موتها بما هي فنّ مُحدقاً في المنعطف.