يختتم هذا الفيلم سلسلة المخرج التشيلي بابلو لاراين
"ماريا".. أوبرا الحزن والجمال التي ستخلد أنجلينا جولي
قدمت أنجلينا جولي أداءً مميزاً في فيلم "ماريا"، إذ جسدت دور مغنيــــة الأوبرا ماريا كـــــــالاس في أيامهـــــــا الأخيرة.
الفيلم من إخراج بابلو لاراين، وهو عبارة عن استكشاف مؤثر للاضطرابات الداخلية التي تعيشها كالاس، ويمزج بين واقع المغنية وهلوساتها، ويركز على كفاحها من أجل استعادة ذاتها
يترك الحزن في فيلم "ماريا" Maria طعماً مختلفاً، فهو أعمق وأقل حدة من غيره. ويختتم هذا الفيلم سلسلة المخرج التشيلي بابلو لاراين التي تناولت المصائر المرعبة لنساء شهيرات بأسلوبه المميز، إذ يعرض صوراً من أحلامهن المدمرة في أكثر أروقة القرن الـ20 أبهة. في فيلم "جاكي" Jackie، انتهت القصة بمشهد صادم تتلطخ فيه البدلة الوردية الباهتة التي كانت ترتديها جاكي كينيدي، جسدتها نتالي بورتمان، بدماء زوجها الرئيس، بينما في "سبنسر" Spencer، رأينا كريستن ستيوارت في دور ديانا تتعثر أثناء سيرها في ممرات قصر ساندرينغهام، مختنقة برائحة الواجب الثقيلة التي لا تفارقها.
أما هنا، فينحسر العنف والسيطرة ليفسحا المجال للأرواح المقلقة. "ماريا" هو الفيلم الأكثر رقة واعتدالاً، وربما الأقل إثارة في البداية، لكنه يمتلك عمقاً عاطفياً يلامس الروح. يستحضر الفيلم الأيام الأخيرة للمغنية الأوبرالية ماريا كالاس، "لا ديفينا" (آلهة) الأوبرا، التي تجسدها أنجلينا جولي. كانت كالاس تتألق بجمالها اللافت وحضورها القوي على المسرح، وقادرة على السيطرة على عواطفها كما لو كانت كتيبة عسكرية، وتمتلك صوتاً بدا وكأنه ينبثق من أعماق الأرض.لكن على رغم عظمتها، كانت مسيرتها الفنية قصيرة نسبياً. في خمسينيات القرن الماضي، كانت من أبرز النساء في العالم، وشخصية محورية في إحياء أوبرات الـ"بيل كانتو" Bel canto (مصطلح موسيقي عنى أسلوب الغناء الجميل) من القرن الـ19، التي كتبها أمثال بيليني ودونيزتي وروسيني، والتي كان الأكاديميون الجادون في ذلك الوقت يعدونها مفرطة في الزخرفة والرومانسية. مع ذلك، وبحلول نهاية العقد، دخلت في شبه اعتزال مفاجئ بعد أن تضرر صوتها بصورة لا يمكن إصلاحها. وتوفيت سنة 1977، إذ كان الاهتمام العام منصباً على ذكريات علاقتها الفاشلة مع الملياردير أرسطو أوناسيس - الذي تزوج من جاكي كينيدي بدلاً منها - أكثر منه على إرث موهبتها.
في فيلمي "جاكي" و"سبنسر"، كانت البطلتان محطمتين بسبب القدر الهائل من المصائب التي واجهتهما. أما فيلم "ماريا"، فيغوص في الفراغ الذي يأتي بعد أي مصيبة. تدور أحداثه في المساحة التي خلفها أوناسيس وراءه، ذلك الرجل المتفاخر والمتعجرف (يجسده (الممثل التركي) خلوق بيلغينار)، وكذلك والدة كالاس التي زرعت في ابنتها مشاعر كراهية الذات وعدم الأمان مدى الحياة. غالباً ما صورت ماريا على أنها المرأة المهجورة التي تركها رجلها لتذبل، لكن بابلو لاراين يرفض هذا التصور، ويركز بدلاً من ذلك على علاقتها مع ذاتها، إذ تسعى كالاس لاستعادة سرديتها الخاصة، ليس لمصلحة العالم الخارجي، بل من أجل سلامها الداخلي.
يستخدم لاراين ما أراه إطاراً قد يثير الانقسام بعض الشيء: هلوسات تعيشها مقدمة لقاءات تلفزيونية تدعى ماندراكس، تجسدها كودي سميت-ماكفي، ناتجة من حبوب تدمن عليها، والتي من المفترض أنها تجهز أسئلة لسيرة ذاتية لكالاس لم تكتبها أبداً. قد يبدو هذا العنصر غريباً بعض الشيء، ويذكرنا بالمواجهة بين ديانا وروح آن بولين في فيلم "سبنسر". على أية حال، يمتلك لاراين قدرة مدهشة على تحويل ما يبدو عبثياً على الورق إلى مشاهد مؤثرة في الشاشة. بفضل التصوير السينمائي لإدوارد لاكمان، تتداخل حدود الواقع والخيال، والصور الملونة مع تلك بالأبيض والأسود، لتشكل حلماً جميلاً وحزيناً في آن واحد.
بالتأكيد جلبت كل من كريستن ستيوارت وناتالي بورتمان جزءاً من شخصيتيهما الحقيقيتين إلى دوريهما، لكن هناك تناغماً مذهلاً بين أنجلينا جولي وماريا كالاس، يشبه توأمة الروح. يعد هذا التلاقي الفريد من أبرز لحظات مسيرة جولي المهنية، مدعوماً بأداء استثنائي يعد من أفضل ما قدمته. كثيراً ما برعت جولي في السيطرة المثالية على وضعية جسدها وحركاته ونبرات صوتها، فهي التي كانت شخصية متلاعبة في فيلم "فتاة، قوطعت" Girl, Interrupted والمنحلة ولكن بحذر في فيلم "جيا" Gia الصادر عام 1998 ولعبت فيه دور عارضة الأزياء المضطربة جيا كارانيي. ومن أجل انتزاع يأس من كالاس شبيه بذلك الذي لدى ليدي ماكبث الشكسبيرية، أو ميديا الأسطورية اليونانية، أو تشو تشو سان اليابانية في أوبرا "مدام باترفلاي" Madama Butterfly، كانت جولي دقيقة في كل نفس وكل مقطع صوتي.
تبدو كالاس التي تؤديها جولي كملكة متوجة، وتتعزز إطلالتها المبهرة بفضل أزياء ماسيمو كانتيني باريني الرائعة من الأوشحة الحريرية، والمجوهرات الذهبية الضخمة، والقفازات الجلدية، والنظارات ذات العدسات الدائرية الكبيرة، لكن إنسانيتها تتجلى أيضاً بعمق هش في علاقتها مع خادميها المنزليين (يجسدهما بيير فرانشيسكو فافينو وألبا رورفاكر بطلة فيلم "لا خيميرا" La Chimera). تظهر العلاقة بين الثلاثي لمسة من الرقة، ولكنهم جميعاً يدركون تماماً ديناميات القوة التي تحكم تفاعلهم.
يتم استخدام صوت جولي الغنائي بصورة مقنعة ومؤثرة، بخاصة في المشاهد التي تظهر كالاس وهي لم تعد في قمة تألقها (لكن أداءها يظل متفوقاً على أي معيار بشري عادي). يتم دمج هذا الأداء الصوتي مع التسجيلات الأصلية الموظفة ببراعة. وتظل الموسيقى جوهر فيلم لاراين، إذ تتجلى في لحظات ذروتها عندما تلتقي كالاس بشقيقتها ياكينتي (تؤديها فاليريا غولينو)، التي تترجاها أن تغلق وراءها باب طفولتهما المضطربة، لكن كالاس تعترف: "إنه المنفذ الوحيد الذي يسمح للموسيقى بالدخول". صحيح أن "ماريا" هو فيلم تراجيديا، لكنها ليست ناجمة عن حدث مؤلم من أحداث الحياة، بل هي مأساة امرأة لم تتمكن من شفاء جروحها من خلال فنها.
إخراج: بابلو لاراين. بطولة: أنجلينا جولي، فاليريا غولينو، خلوق بيلغينار، ألبا رورفاكر، بييرفرانشيسكو فافينو، كودي سميت ماكفي، أليساندرو بريسانيلو. المدة: 124 دقيقة
عرض فيلم "ماريا" للمرة الأولى في مهرجان البندقية السينمائي وينتظر تحديد موعد عرضه في المملكة المتحدة