يلعب على أسئلة أبدية لا تتقادم
مسلسل Dark Matter يجمع بين الإثارة والخيال العلمي والدراما
جميعنا تساءلنا في مرحلة ما من الحياة عمّا كان سيحدث لحياتنا لو اتّخذنا قراراً مختلفاً عن الذي اتّخذناه من قبل. يمكن أن يتعلَّق الأمر بأي قرار، ولكن ماذا لو كان القرار المعني مهماً حقاً: اختيار (أو رفض) وظيفة، أو شريك، أو رحلة، أو تكوين أسرة. هل سنكون الأشخاص أنفسهم اليوم؟ هل سنتصرف أو نتعامل أو نفكر بالطريقة نفسها؟ كما هو الحال مع هذه القرارات، فمن المستحيل أن نعرف الإجابة حقاً. "الطريق الذي لم يُسلك" سيظلّ لغزاً إلى الأبد. "ماذا لو" كبيرة ومعلّقة وبلا إجابة. عملَ الخيال الروائي كثيراً على هذه المحاور بطرق وأنواع مختلفة، من الخيال العلمي إلى الكوميديا الرومانسية، ومن الإثارة إلى الدراما.
يقدّم مسلسل Dark Matter مقاربة جديدة لتلك الإشكالية، تجمع بين الإثارة والخيال العلمي والدراما. يؤسس المسلسل، من تأليف بليك كراوتش (مؤلف الرواية الأصلية من عام 2016 المستند إليها الاقتباس التلفزيوني)، سرديته على الانهيار النفسي الذي يحدث عندما تتاح للمرء فرصة أن يعيش تلك الحياة الأخرى التي لم يعشها، أو عندما يمكن لشخصين تبادل حياتيهما. جويل إدغيرتون يلعب دور جيسون ديسن، عالم وأستاذ جامعي متزوج من دانييلا (جينيفر كونيلي)، ولديه ابن مراهق (أوكس فيغلي). وبينما يبدو محبطًا إلى حد ما من عمله، إلا أن الأمر يزداد سوءاً عندما يعلم أن زميله وصديقه رايان (جيمي سيمبسون) قد فاز بجائزة علمية مرموقة. يدعوه رايان إلى الاحتفال بالجائزة، وهناك يحدث شيء غير متوقع: يثمل جيسون، ولدى خروجه من الحانة، يختطفه رجل ملثم يبرحه ضرباً. يُلقي به الخاطف في مهجع معزول، ثم يخلع الرجل قناعه فإذا به... جيسون. أهلاً بكم في كون متعدد آخر، يختلف من حيث المبدأ عن كون مارفل، ولكن مع أساسٍ علمي، يلمّح إليه جيسون نفسه منذ البداية عندما يشرح لطلابه التجربة المعروفة باسم قطة شرودنغر، والتي يمكن تلخيصها من الفكرة النظرية لفيزياء الكمّ التي تقول، باختصار، إن أشياء كثيرة يمكن أن تحدث في الوقت نفسه من دون أن يلاحظها أحد.
الحقيقة هي أن جيسون 2 -دعونا نسمّيه هكذا- يعيش حياة جيسون 1، بينما يبدو الأخير محاصراً داخل مختبر علمي أو كونٍ آخر. ماذا يحدث؟ لتلخيص بداية الحبكة، من المهم معرفة أن جيسون 2 أجبر جيسون "الأصلي" على تبادل حياتيهما، حياتين مايزهما قرار رئيسي اتخذه أحدهما منذ سنوات عديدة، وآثر به الانشغال بحياته المهنية والتفوق العلمي على حساب سعادته الشخصية وحبّ حياته. بينما جيسون الآخر اتخذ قراراً مغايراً ومنذ ذلك الحين أصبح كل شيء بالنسبة له مختلفاً تماماً. لذلك، يتعيّن على جيسون 1، الشخص الذي لا يعرف ما يحدث في عالمٍ غير مألوف، أن يكتشف ما يفعله في ذلك المختبر حيث يُعامل كعبقري ولكن عليه الهروب منه لمعرفة الحقيقة. في موازاة ذلك، يعود جيسون 2، العالم بحقيقة ما يجري عبر تطويره طريقة للسفر إلى الأكوان الموازية وتبديل واقعه مع واقع النسخ الأخرى من نفسه، إلى المنزل، حيث دانييلا، متظاهراً بأنه الآخر، من دون إثارة الشكوك، على الرغم من أنه لا يعرف كثيراً عن تجارب وتاريخ حياة ذاته الأخرى.
يلعب إدغيرتون دور جيسون كشخصين مختلفين. الأول رجل مضطرب يعيش قصة تشويق ذات عناصر علمية، تمتزج فيها المطاردات مع محاولاته لفهم ما يحدث. وستلعب البرازيلية أليس براغا، التي تجسّد دور عالمة تتعاطف مع وضعه، دوراً مهماً. من ناحية أخرى، فإن جيسون الثاني سعيد وهادئ وراضٍ بوجوده مع دانييلا، وأن يعيش حياة الآخر، تلك الحياة التي يبدو أنه أرادها دائماً. أو بعبارة أخرى، أراد كل منهما الحياة التي عاشها الآخر. والآن يحصلان عليها. ولكن بأي ثمن؟ التأسيس الهادئ والمتأني للقصة سيستحيل حبكة مهرولة مبتلاة بمشاهد آكشن غير ضرورية، لن تؤدي إلا إلى مطّ ما هو مثير للاهتمام حقاً الذي يجب أن يقدّمه Dark Matter، أي الصراع النفسي بين نسختين من البطل.
كل ما في الأمر أن كراوتش مهتم للغاية بإضافة حبكات فرعية إلى شيء لا يحتاج إليه فعلاً، فمثلاً نعرف جيسون 2 كرجل عنيف ولا نعرف حقاً ما الذي ينوي فعله مع دانييلا. وكما يحدث عادةً في كثير من هذه الحالات، نحن أمام مسلسل جيد يحتوي على عدد زائد من الحلقات (تسع)، تتوسّع فيه الحبكة وترفد نفسها بتجوالات ضد التأثير المقصود. على الرغم من ذلك، فإن غموض المسلسل يستمر طوال حلقاته، ومنطقه ذو مصداقية نسبياً ضمن المعايير المُعرّف بها العمل الدرامي، ويمنحه الممثلون الثلاثة الرئيسيون حصّة إضافية من العاطفة والتوتر اللذين تحتاجهما الحبكة لتجنّب التكرار والملل. ولجعل المتفرّج يتساءل في كل لحظة عن القرارات التي اتخذها في حياته وما إذا كان سيجرؤ على تجربة طرق أخرى ممكنة. تتيح نظرية الكمّ هذه الاحتمالات، على الأقل هنا. وهذه لعبة مربكة وغير مريحة على الإطلاق. إجمالاً، تمزج ملحمة فيزياء الكمّ هذه بذكاء بين العوالم المتوازية والفلسفة الوجودية. وإذا كان العلم الموجود في قلبها يمكن أن يسبّب صداعاً نصفياً، فالمسلسل يعرف كيف يعطي معادلاً بصرياً لهذه المفاهيم، يدعمه تصميم الإنتاج والهندسة والخوف. عمل غير أصيل تماماً، لكنه في الوقت نفسه يلعب مع أسئلة أبدية لا تتقادم، عن وجودنا وعن هذه الحياة الأخرى التي كان من الممكن أن نعيشها.