محمد بن راشد: نسعى لتوفير أفضل نوعيات الحياة للمواطن والمقيم والزائر
فيلم Ennio: The Glance of Music
وثائقي عن المايسترو الإيطالي الراحل إنيو موريكوني
هدأت العاصفة التي أحدثها رحيل المايسترو الإيطالي إنيو موريكوني (1928 - 2020 / Ennio Morricone)، لتبدأ التحليلات الموسيقية المتأنية بالظهور تباعاً، بعدما خُتِمت مسيرة حياة بمحاولة المخرج جوزيبيه تورناتوري (Giuseppe Tornatore)، للإحاطة -على امتداد خمس سنوات من التصوير- بالحقائق حول هذه الشخصية، ووضعها في سياق درامي واسع النطاق، في وثائقي يحمل عنوان Ennio: The Glance of Music.
تضمن الفيلم تعليقات لافتة لأهم المخرجين والمغنين والعازفين، لاستقصاء فرادة هذه الشخصية. لكن يبدو أن نجاح الشخصية درامياً وجماهيرياً، وظهور أهم القامات الفنية في المشهد العالمي الحديث، أبعد كثيرين عن تحليل القدرة والنظرة السينمائية الفذة لتورناتوري. وللمفارقة؛ فإن الحديث عن مسلسل Cinema Paradiso، الذي سيبدأ تورناتوري بالعمل عليه، سبب ضجة واسعة، واستدعى دراسات المقارنة ما بين المسلسل والسينما من جهة، وما بين الكاميرا المحلية والكاميرا العالمية من ناحية خصوصية الرؤية السينمائية للمخرج من جهة أخرى. وهذا ما لم يحدث للفيلم الوثائقي، وما سنطرحه هنا كمحاولة لتحليل العمل من ناحية جنسه الفيلمي.
امتلكت الشخصية الرئيسية كمية هائلة من التناقضات والصراعات عبر الزمن، واستطاع مونتاج الفيلم تقسيم هذه القصاصات الدرامية، ووضعها على شكل ذروات تفصل بينها مشاهد وصور أرشيفية، وشهادات ولحظات مكانية، مُمَثلة في مكتب إنيو موريكوني الشخصي. لقطات شبه روائية بألوانها الصقلّية، تعكس ما يوجد في عقل هذا العبقري من كتب وملاحظات وبيانو والنوتات الموسيقية المكدسة. لم يؤخذ المخرج بمدى انفتاح عاطفة موريكوني ودقته بالشرح والتوصيف الكلامي لذكرياته وصور المكتب ليردف جودة الوصف، ويصبح المشاهد ينظر إلى الموسيقي من داخل عقله، ما يُحسب للمخرج بأنه أدق اللقطات حرفةً وحميمية.
لا يمر زمن طويل -أقل من نصف ساعة- حتى تتوضح أمامنا المراحل الأولى لحياة موريكوني. وباستهداف المخرج لما يجذب الجمهور لكسر حاجز الترقب، ذَكَرَ إنيو الرحلة الأخيرة التي انطلق بها هو وأستاذه، Goffredo Petrassi -الملحن الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين- مشياً على الأقدام، بعد انتهاء دراسته في المعهد، ولحظة الوداع، حيث دموع إنيو تسقط على الشاشة، ما يضمن للمخرج بعد هذه الذروة عدم خروج أي مشاهد من صالة العرض.
إزالة التعليق الصوتي التقليدي والتنويع اللوني الذي حدث، واستمرار المونتاج الخفي على مشاهد طويلة، وإحاطة الواقع المحيط بالشخصية الرئيسية، كلها عوامل أظهرت هوية موريكوني بأوسع معانيها، وما تحتويه من تناقضات وتغيرات طرأت عليها بسبب التقلبات الهوياتية والتكنولوجية والانقسامات الحداثية التي حصلت في الفن ما بعد الحرب العالمية الثانية.
تجنب الفيلم وضع المشاهدين بحالة من الحماس، كما في هياكل الوثائقيات العامة، بل كان واضحاً منذ البداية بشاعريته والحديث المتأني والشهادات خفيفة الظل والوقع.
انتقلت الصورة بعد المقدمة إلى ذاكرة إيطاليا الموسيقية، بروابطها الأبدية ما بين الموسيقى والسينما والأسطورة، لندخل في طور وثائقي شعري يحاكي ذاكرتنا المتشكلة بأعمال موريكوني التي تجاوزت الـ 500 عمل على مدى سبعة عقود.
قد تكون فكرة عمل وثائقي عن موسيقي مهم مغرية من ناحية ضمان توافق الموسيقى مع الشخصية من جهة، وتوفير الوقت للعمل على زاوية مختلفة في الفيلم من جهة أخرى. لكن الحالة الوحيدة التي قد تخذلنا، هنا، هي فيلم عن إنيو.
نحن بحاجة إلى موسيقى تعطينا إحساساً بشخصية مستقلة للفيلم وبطله، وبنفس الوقت لا تضعنا في معنى هلامي ينتمي إلى الموسيقى وليس للفيلم. وهذا أيضاً ما يحسب للمخرج، فتقسيمه للمقاطع واللقطات الحساسة والقريبة لإنيو وهو يتحدث عن فكرة وطريقة تأليف قطعة ما، ومع عرض مقاطع أرشيفية للأفلام، وظهوره وهو يتمتم بالأصوات والألحان، نحصل على جرعة حسية مضافة على إحساس الموسيقى المنتمي أساساً للصورة، ليصبح لدنيا اللحن كاللقطة، والتوافق اللحني كمونتاج بين اللقطة الأرشيفية والبطل الذي يتمتم، والإيقاع كفواصل زمنية للموسيقى وللفيلم.
"سباغيتي ويسترن"، أفلام الغرب التي أخرجها الطليان، وعلى رأسهم سيرجيو ليوني (Sergio Leone)، صديق إنيو منذ الطفولة، صاحب ثلاثية الدولارات الشهيرة. هذه المرحلة من أعمال إنيو هي الباب التقليدي للحديث عن موسيقاه، ولكن الفرق الأساسي أن هذا التصنيف أساسه عنصري، من استنتاجات لمقالات ودراسات سينمائيين أميركيين، عن دخول الأساليب الأوروبية وتهجين سينماهم بطريقة سلبية على حد قولهم.
لم يتطرق تورناتوري لهذه الجزئية من ناحية التطور التاريخي لما قبل السباغيتي ويسترن، واستخدم الثلاثية بسبب ارتباط موسيقاها بذاكرة أجيال عديدة، كنقطة انطلاق تاريخية للمعان اسم إنيو عالمياً. وكان دقيقاً من الناحية الزمنية بعدم إعطاء هذه المرحلة أكثر من الضروري، كي لا تتحول إلى نقطة جذب استهلاكية. في حين أنه تراخى سلبياً بتظهير نقطتين، الأولى هي دور الأنثى في حياة إنيو، كزوجته التي احتضنت عبقريته، ولم تأخذ ملاحظة هانس زيمر بعين الاعتبار عندما أشار لخصوصية صوت الأنثى في أعمال إنيو. والثانية هي التدقيق على موضوع الأوسكار وخيبات إنيو المتتالية، التي قد تعتبر سياسية، لكن هذا يتوسع ليشمل كثيراً من المواضيع السينمائية غير الأميركية وحالة الأوسكار سياسياً.
قدرة السينما على التلاعب بالزمن عبر المونتاج، وهضمها للفنون رغم قصر عمرها، ساعدت على فتح أبواب لمجالات فكرية وفنية محلية عديدة، كمحاكاة الأساطير، ما أجبر الموسيقيين على ابتداع ألحان حديثة تُقَدم بصيغ موسيقية مستوحاة من مرحلة تاريخية. فيلم The Mission إصدار عام 1986 من إخراج Roland Joffé، أحد أهم الأمثلة التي ذكرت عن المساحات التي توسع بها إنيو موسيقياً -بعد مرحلة السباغيتي ويسترن- في الفيلم الذي يتحدث عن تجربة البعثات اليسوعية لأحد المبشرين في القرن الثامن عشر، وكيف قدم إنيو صوت صدى هذا المكان البدائي المنيع، مستنداً إلى خلفيته الذاتية الدينية، والتراكم السمعي لتجارب الفئات الفنية الحديثة في العالم.
يُضاف إلى هذا التزمُّت الكلاسيكي لزملاء دراسته، والنهاية ليست عند الضجة الفنية التي أحدثتها الواقعية الإيطالية الجديدة في منتصف الأربعينيات، كأعمال Luchino Visconti وVittorio De Sica، لينتج في النهاية موسيقى يستحيل أن تمر دون أثر واضح، والصدمة الثقافية التي تركها إنيو لن يزول أثرها من التاريخ وستبقى كإثراء للقواعد الفنية وأساساً لكل جديد.
حصل إنيو في النهاية على أحد أعظم أفلام السيرة الذاتية، بشهادات لأكثر من 70 شخصية، تعتبر القلة المختارة في الفن وكانوا محظوظين بالعمل مع إنيو كـ Kar-Wai Wong وBernardo Bertolucci وClint Eastwood وBruce Springsteen وTerrence Malick. حتى أن ظهور تورناتوري ليتحدث عن تجربته الندية الفريدة التي عاشها مع إنيو بتلحين العديد من أفلامه، لم تكن سوى شكر متواضع لتاريخ موسيقي حافل، ومزاج لحني يظهر بشكل جلي كلما كبح أكثر، لنحصل في نهاية الفيلم ذي المزاج السينمائي والتصنيع الحكائي المتين، على حالة فريدة لمخرج يحتفي ببطله ليسلب طغيان هالة البطل على الفيلم نفسه.
تضمن الفيلم تعليقات لافتة لأهم المخرجين والمغنين والعازفين، لاستقصاء فرادة هذه الشخصية. لكن يبدو أن نجاح الشخصية درامياً وجماهيرياً، وظهور أهم القامات الفنية في المشهد العالمي الحديث، أبعد كثيرين عن تحليل القدرة والنظرة السينمائية الفذة لتورناتوري. وللمفارقة؛ فإن الحديث عن مسلسل Cinema Paradiso، الذي سيبدأ تورناتوري بالعمل عليه، سبب ضجة واسعة، واستدعى دراسات المقارنة ما بين المسلسل والسينما من جهة، وما بين الكاميرا المحلية والكاميرا العالمية من ناحية خصوصية الرؤية السينمائية للمخرج من جهة أخرى. وهذا ما لم يحدث للفيلم الوثائقي، وما سنطرحه هنا كمحاولة لتحليل العمل من ناحية جنسه الفيلمي.
امتلكت الشخصية الرئيسية كمية هائلة من التناقضات والصراعات عبر الزمن، واستطاع مونتاج الفيلم تقسيم هذه القصاصات الدرامية، ووضعها على شكل ذروات تفصل بينها مشاهد وصور أرشيفية، وشهادات ولحظات مكانية، مُمَثلة في مكتب إنيو موريكوني الشخصي. لقطات شبه روائية بألوانها الصقلّية، تعكس ما يوجد في عقل هذا العبقري من كتب وملاحظات وبيانو والنوتات الموسيقية المكدسة. لم يؤخذ المخرج بمدى انفتاح عاطفة موريكوني ودقته بالشرح والتوصيف الكلامي لذكرياته وصور المكتب ليردف جودة الوصف، ويصبح المشاهد ينظر إلى الموسيقي من داخل عقله، ما يُحسب للمخرج بأنه أدق اللقطات حرفةً وحميمية.
لا يمر زمن طويل -أقل من نصف ساعة- حتى تتوضح أمامنا المراحل الأولى لحياة موريكوني. وباستهداف المخرج لما يجذب الجمهور لكسر حاجز الترقب، ذَكَرَ إنيو الرحلة الأخيرة التي انطلق بها هو وأستاذه، Goffredo Petrassi -الملحن الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين- مشياً على الأقدام، بعد انتهاء دراسته في المعهد، ولحظة الوداع، حيث دموع إنيو تسقط على الشاشة، ما يضمن للمخرج بعد هذه الذروة عدم خروج أي مشاهد من صالة العرض.
إزالة التعليق الصوتي التقليدي والتنويع اللوني الذي حدث، واستمرار المونتاج الخفي على مشاهد طويلة، وإحاطة الواقع المحيط بالشخصية الرئيسية، كلها عوامل أظهرت هوية موريكوني بأوسع معانيها، وما تحتويه من تناقضات وتغيرات طرأت عليها بسبب التقلبات الهوياتية والتكنولوجية والانقسامات الحداثية التي حصلت في الفن ما بعد الحرب العالمية الثانية.
تجنب الفيلم وضع المشاهدين بحالة من الحماس، كما في هياكل الوثائقيات العامة، بل كان واضحاً منذ البداية بشاعريته والحديث المتأني والشهادات خفيفة الظل والوقع.
انتقلت الصورة بعد المقدمة إلى ذاكرة إيطاليا الموسيقية، بروابطها الأبدية ما بين الموسيقى والسينما والأسطورة، لندخل في طور وثائقي شعري يحاكي ذاكرتنا المتشكلة بأعمال موريكوني التي تجاوزت الـ 500 عمل على مدى سبعة عقود.
قد تكون فكرة عمل وثائقي عن موسيقي مهم مغرية من ناحية ضمان توافق الموسيقى مع الشخصية من جهة، وتوفير الوقت للعمل على زاوية مختلفة في الفيلم من جهة أخرى. لكن الحالة الوحيدة التي قد تخذلنا، هنا، هي فيلم عن إنيو.
نحن بحاجة إلى موسيقى تعطينا إحساساً بشخصية مستقلة للفيلم وبطله، وبنفس الوقت لا تضعنا في معنى هلامي ينتمي إلى الموسيقى وليس للفيلم. وهذا أيضاً ما يحسب للمخرج، فتقسيمه للمقاطع واللقطات الحساسة والقريبة لإنيو وهو يتحدث عن فكرة وطريقة تأليف قطعة ما، ومع عرض مقاطع أرشيفية للأفلام، وظهوره وهو يتمتم بالأصوات والألحان، نحصل على جرعة حسية مضافة على إحساس الموسيقى المنتمي أساساً للصورة، ليصبح لدنيا اللحن كاللقطة، والتوافق اللحني كمونتاج بين اللقطة الأرشيفية والبطل الذي يتمتم، والإيقاع كفواصل زمنية للموسيقى وللفيلم.
"سباغيتي ويسترن"، أفلام الغرب التي أخرجها الطليان، وعلى رأسهم سيرجيو ليوني (Sergio Leone)، صديق إنيو منذ الطفولة، صاحب ثلاثية الدولارات الشهيرة. هذه المرحلة من أعمال إنيو هي الباب التقليدي للحديث عن موسيقاه، ولكن الفرق الأساسي أن هذا التصنيف أساسه عنصري، من استنتاجات لمقالات ودراسات سينمائيين أميركيين، عن دخول الأساليب الأوروبية وتهجين سينماهم بطريقة سلبية على حد قولهم.
لم يتطرق تورناتوري لهذه الجزئية من ناحية التطور التاريخي لما قبل السباغيتي ويسترن، واستخدم الثلاثية بسبب ارتباط موسيقاها بذاكرة أجيال عديدة، كنقطة انطلاق تاريخية للمعان اسم إنيو عالمياً. وكان دقيقاً من الناحية الزمنية بعدم إعطاء هذه المرحلة أكثر من الضروري، كي لا تتحول إلى نقطة جذب استهلاكية. في حين أنه تراخى سلبياً بتظهير نقطتين، الأولى هي دور الأنثى في حياة إنيو، كزوجته التي احتضنت عبقريته، ولم تأخذ ملاحظة هانس زيمر بعين الاعتبار عندما أشار لخصوصية صوت الأنثى في أعمال إنيو. والثانية هي التدقيق على موضوع الأوسكار وخيبات إنيو المتتالية، التي قد تعتبر سياسية، لكن هذا يتوسع ليشمل كثيراً من المواضيع السينمائية غير الأميركية وحالة الأوسكار سياسياً.
قدرة السينما على التلاعب بالزمن عبر المونتاج، وهضمها للفنون رغم قصر عمرها، ساعدت على فتح أبواب لمجالات فكرية وفنية محلية عديدة، كمحاكاة الأساطير، ما أجبر الموسيقيين على ابتداع ألحان حديثة تُقَدم بصيغ موسيقية مستوحاة من مرحلة تاريخية. فيلم The Mission إصدار عام 1986 من إخراج Roland Joffé، أحد أهم الأمثلة التي ذكرت عن المساحات التي توسع بها إنيو موسيقياً -بعد مرحلة السباغيتي ويسترن- في الفيلم الذي يتحدث عن تجربة البعثات اليسوعية لأحد المبشرين في القرن الثامن عشر، وكيف قدم إنيو صوت صدى هذا المكان البدائي المنيع، مستنداً إلى خلفيته الذاتية الدينية، والتراكم السمعي لتجارب الفئات الفنية الحديثة في العالم.
يُضاف إلى هذا التزمُّت الكلاسيكي لزملاء دراسته، والنهاية ليست عند الضجة الفنية التي أحدثتها الواقعية الإيطالية الجديدة في منتصف الأربعينيات، كأعمال Luchino Visconti وVittorio De Sica، لينتج في النهاية موسيقى يستحيل أن تمر دون أثر واضح، والصدمة الثقافية التي تركها إنيو لن يزول أثرها من التاريخ وستبقى كإثراء للقواعد الفنية وأساساً لكل جديد.
حصل إنيو في النهاية على أحد أعظم أفلام السيرة الذاتية، بشهادات لأكثر من 70 شخصية، تعتبر القلة المختارة في الفن وكانوا محظوظين بالعمل مع إنيو كـ Kar-Wai Wong وBernardo Bertolucci وClint Eastwood وBruce Springsteen وTerrence Malick. حتى أن ظهور تورناتوري ليتحدث عن تجربته الندية الفريدة التي عاشها مع إنيو بتلحين العديد من أفلامه، لم تكن سوى شكر متواضع لتاريخ موسيقي حافل، ومزاج لحني يظهر بشكل جلي كلما كبح أكثر، لنحصل في نهاية الفيلم ذي المزاج السينمائي والتصنيع الحكائي المتين، على حالة فريدة لمخرج يحتفي ببطله ليسلب طغيان هالة البطل على الفيلم نفسه.