محمد بن راشد: نسعى لتوفير أفضل نوعيات الحياة للمواطن والمقيم والزائر
وصفة فكرية تُشرّح حالة نفسية، وفقاً لسياقها المنطقي
A Love Song .. قصّة بسيطة عن العزلة والذكريات القديمة
شكّلت العزلة والبعد عن صخب المدن، والارتهان لذكريات الماضي، مُنطلقاً مهمّاً لأفلامٍ عدّة، نظراً إلى المحمول الفلسفي الذي يوفّره هذا الموضوع، إذْ يُترك الإنسان في مواجهة مباشرة مع هواجسه. كما يُمكن أن تُستقرأ عبره مواقف حياتية عدّة، ونيل أجوبةٍ عن أسئلةٍ تواجهه بشكل متكرّر. من جهة أخرى، هذا غير مُكلف إنتاجياً، ولا يحتاج إلى تفاصيل كثيرة تُمليها الأفلام والظروف المعقّدة لصناعتها، كما أنّها مُحبّبة لدى جمهورٍ يرى فيها نفسه بشكلٍ أو بآخر.
أفلامٌ كهذه تنال فرصاً في المهرجانات السينمائية والتناول النقدي، لأنّها صريحةٌ ومُشبعةٌ بالقيم الفنية والفكرية. لا تعقيد فيها ولا تذاكٍ، وكلّ ما تحتاج إليه سيناريو محبوك جيّداً، وممثّلين يملكون وعياً فكرياً، وموهبة خاصة لتأدية أدوار معقّدة، ومخرج يعرف كيفية خلق تميّز. هذه المعطيات وفّرها المخرج والسيناريست ماكس واكر ـ سيلفرمان، في "أغنية حبّ" (2022)، المعروض للمرة الأولى في الدورة الـ38 (20 ـ 30 يناير/ كانون الثاني 2022) لـ"مهرجان صندانس السينمائي"، قبل مشاركته في الدورة الـ72 (10 ـ 20 فبراير/ شباط 2022) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)".
إنّه أول تجربةٍ لماكس ووكر ـ سيلفرمان في الفيلم الروائي الطويل، راهن فيها على العزلة وتفاصيلها، ولم يُرهِق نفسه بمواضيع ذات قصص متعدّدة ومتشعّبة، تلزمها إمكانيات كبيرة، وممثلون كثر، ووقت واسع، وهذا يُمكنه أنْ يُعقّد أصحاب التجارب الإخراجية الأولى في الأفلام الطويلة. لذا، اختار سيلفرمان معالجة محدودة، تُفرز مشاعر كثيرة ذات أثر جيّد، وتبتكر خيارات فنية يُمكن أنْ يعالج بها عمله.
يُحيل "أغنية حبّ"، مباشرةً، الى "أرض الرّحل" (2020) لكلوي تْجَاو، لتشاركهما في تفاصيل كثيرة، مع اختلاف الغايات والأطر، كالعزلة والهرب من الفوضى التي تُثيرها الحياة، إضافةً إلى أنّ فاي (دَيْل ديكي)، بطلة "أغنية حبّ"، تتقاطع في السنّ والملامح والفراغ الروحي مع فيرن (فرنسيس مكدورماند)، بطلة "أرض الرّحل". لكنْ، هناك اختلاف في السببية، ففي الأول، بحثٌ عن الماضي، ومحاولة عيشه باستنطاق موجوداته عبر العزلة ومفاهيمها؛ أمّا الثاني، فهروب من الواقع المرير الذي أفرزته الرأسمالية المتوحشة. الإحالة، بشكل عام، تجعل المتلقي يتأكّد أنّ ووكر ـ سيلفرمان استحضر عمل تْجَاو، ليس كتناصل أو انتحال، بل كتكامل سينمائي وتلاقح فني وأثر إبداعي.
ينطلق "أغنية حبّ" من قصّة بسيطة، من دون تعقيد، بطلتها فاي الستينية، التي تعيش وحيدة في عربة متنقلة، تحيط بها جبال، كان يرعى فيها والدها الغنم، وتقابلها بحيرة ممتدة في فضاء خالٍ، تصطاد منها السلطعون لتقتات منها، إضافةً إلى المتعة البصرية التي توفّرها لها. في مكتبتها كتابان فقط، الأول عن أسماء الحيوانات، والثاني عن أسماء النجوم، تشغل بهما نفسها، وتدرّبها على معرفة الأشياء المحيطة بها. اختارت العزلة الإرادية، كي تنتظر حبيبها الذي أخبرها بأنّه سيحضر إلى المنطقة السابعة التي تقيم فيها أمام البحيرة، في سيارة فضية اللون، مع كلب أسود، من دون إخبارها عن تاريخ حضوره. لذا، لم تستطع مغادرة المكان، الذي يصنع جزءاً من ذاكرتها.
يحضر حبيبها ليتو (وَسْ ستودي)، الذي استذكرت معه أحداثاً مضى عليها نحو نصف قرن، عندما رافقا طلبة في رحلة مدرسية إلى البحيرة، وهما في العاشرة من العمر. أحدهما أحبّ الآخر حينها، لكنّ ظروف الحياة فرّقتهما، واختار كلّ واحد منهما طريقه وشريك حياته. بعد مدة، فَقَدت فاي زوجها، وفَقَد ليتو زوجته، فأرادا استعادة تلك الأحلام الطفولية، وعيشها بطريقة مختلفة. بعد اللقاء، عزفا على القيثارة، وغنّيا أغنيات عدّة كانا يحفظانها. في اليوم التالي، تركها ليتو وغادر المكان.هذا اللقاء حرَّر فاي، التي كانت تعيش حياة معقّدة، ما جعلها تذهب إلى الجبال المجاورة لتتأكّد بنفسها إنْ كان هناك من لا يزال يرعى الغنم، كما كان يفعل والدها. هذا أحد الأسئلة المهمّة بالنسبة إليها. نامت في أعلى الجبل، ورأت النجوم بشكل مختلف، وسمّت الكثير منها، كأنّها تتصالح مع نفسها، بعدما امتلكت مفاتيح أدخلتها إلى أبوابٍ أخرى للحياة، غير التي لازمتها أكثر من نصف قرن. حقّقت ما كانت تحلم به طوال حياتها. عرفت ليتو، الذي نام معها في العربة المتنقّلة، وشغل الوسادة الخالية التي تركتها له. أعاد لها ثقتها بنفسها وأحاسيسها، وشَحَن حاضرها بطاقة رهيبة، لتعيش حياتها بمعطيات الحاضر. كأنّه أعطاها إكسير الحياة، ثم غادر. إنّها الطاقة نفسها التي أعطتها له، هي أيضاً.
رغم بطء الأحداث، وغياب الخطوط الهامشية التي تساند البطلة الرئيسية، أجاب "أغنية حبّ" عن أسئلةٍ مُعلّقة، وقدّم فهماً شاملاً للحياة المتشابكة لفاي. استطاع سيلفرمان تقديم تصوّره الفني الخاص، بخلق فيلمٍ متماسك، يستند إلى لغة سينمائية قوية، تعتمد على الصُوَر والموقف الفني، بدلاً من الثرثرة والحشو ومَطّ الأحداث من دون فائدة فنية. كما قدّم بذكاء أسباب عزلة فاي وهمومها، رغم أنّها منطلقات بسيطة، محوّلاً إياها إلى هموم إنسانية، نقل عبرها مرتكزات حياتية يتم إهمالها، ما خلق مشاكل نفسية، لا يتحرّر المرء منها بسهولة، إلّا إذا واجهها.
خلق المخرج علاقة تكاملية بين قصة الفيلم والفضاء البصري. تحوّلت الكاميرا (مدير التصوير ألفونسو هِريرا سالثيدو) إلى عينيّ فاي في مشاهد كثيرة، وبات المتلقي يرى المناظر الطبيعية الآسرة عبرهما. كما خلق تنوّعاً واضحاً في أبعاد التصوير، المنعكسة على الصُوَر القريبة والبعيدة والمتوسطة، ويتخلّلها التدرّج اللوني الظاهر في الصورة الواحدة، بسبب اختلاف الموجودات، إذْ يمكن مثلاً رؤية لون اليابسة والماء والجبل والسماء في مشهد واحد، وهذا يجعله سالثيدو منطلقاً جمالياً قوياً. إضافة إلى تعدّد الزوايا، وتقريب الصورة من وجه فاي لخلق علاقة تكاملية بينهما وبين المتلقي، ليحسّ بها، ويتوحّد مع ما تمرّ به. تفنّن المُصوّر في نقل المشهد نفسه، في أوقات زمنية مختلفة، وهذا معطى يُنوّع البعد البصري.أكثر من هذا، ذهب سيلفرمان إلى البُعد الثالث، الذي لا يقلّ أهمية عن القصة وطريقتي الإخراج والتصوير، أي الموسيقى (رمزي بِشاوِر)، خالقة أحاسيس مناسبة في المتلقي، ليتفاعل مع الأحداث بشكل صحيح.أبانت الممثلة ديل ديكي مقدرة خاصة في التمثيل، بتأديتها دوراً مُقنعاً، عكست فيه الهواجس النفسية التي أملتها الشخصية، ما ساعد كثيراً في فهم أبعاد القصّة، ومَدّها بالقوّة الضرورية لخلق علاقة فهم وقبول بين الفيلم والمتلقّي، فيكون "أغنية حبّ" وصفة فكرية تُشرّح حالة نفسية، وفقاً لسياقها المنطقي.
أفلامٌ كهذه تنال فرصاً في المهرجانات السينمائية والتناول النقدي، لأنّها صريحةٌ ومُشبعةٌ بالقيم الفنية والفكرية. لا تعقيد فيها ولا تذاكٍ، وكلّ ما تحتاج إليه سيناريو محبوك جيّداً، وممثّلين يملكون وعياً فكرياً، وموهبة خاصة لتأدية أدوار معقّدة، ومخرج يعرف كيفية خلق تميّز. هذه المعطيات وفّرها المخرج والسيناريست ماكس واكر ـ سيلفرمان، في "أغنية حبّ" (2022)، المعروض للمرة الأولى في الدورة الـ38 (20 ـ 30 يناير/ كانون الثاني 2022) لـ"مهرجان صندانس السينمائي"، قبل مشاركته في الدورة الـ72 (10 ـ 20 فبراير/ شباط 2022) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)".
إنّه أول تجربةٍ لماكس ووكر ـ سيلفرمان في الفيلم الروائي الطويل، راهن فيها على العزلة وتفاصيلها، ولم يُرهِق نفسه بمواضيع ذات قصص متعدّدة ومتشعّبة، تلزمها إمكانيات كبيرة، وممثلون كثر، ووقت واسع، وهذا يُمكنه أنْ يُعقّد أصحاب التجارب الإخراجية الأولى في الأفلام الطويلة. لذا، اختار سيلفرمان معالجة محدودة، تُفرز مشاعر كثيرة ذات أثر جيّد، وتبتكر خيارات فنية يُمكن أنْ يعالج بها عمله.
يُحيل "أغنية حبّ"، مباشرةً، الى "أرض الرّحل" (2020) لكلوي تْجَاو، لتشاركهما في تفاصيل كثيرة، مع اختلاف الغايات والأطر، كالعزلة والهرب من الفوضى التي تُثيرها الحياة، إضافةً إلى أنّ فاي (دَيْل ديكي)، بطلة "أغنية حبّ"، تتقاطع في السنّ والملامح والفراغ الروحي مع فيرن (فرنسيس مكدورماند)، بطلة "أرض الرّحل". لكنْ، هناك اختلاف في السببية، ففي الأول، بحثٌ عن الماضي، ومحاولة عيشه باستنطاق موجوداته عبر العزلة ومفاهيمها؛ أمّا الثاني، فهروب من الواقع المرير الذي أفرزته الرأسمالية المتوحشة. الإحالة، بشكل عام، تجعل المتلقي يتأكّد أنّ ووكر ـ سيلفرمان استحضر عمل تْجَاو، ليس كتناصل أو انتحال، بل كتكامل سينمائي وتلاقح فني وأثر إبداعي.
ينطلق "أغنية حبّ" من قصّة بسيطة، من دون تعقيد، بطلتها فاي الستينية، التي تعيش وحيدة في عربة متنقلة، تحيط بها جبال، كان يرعى فيها والدها الغنم، وتقابلها بحيرة ممتدة في فضاء خالٍ، تصطاد منها السلطعون لتقتات منها، إضافةً إلى المتعة البصرية التي توفّرها لها. في مكتبتها كتابان فقط، الأول عن أسماء الحيوانات، والثاني عن أسماء النجوم، تشغل بهما نفسها، وتدرّبها على معرفة الأشياء المحيطة بها. اختارت العزلة الإرادية، كي تنتظر حبيبها الذي أخبرها بأنّه سيحضر إلى المنطقة السابعة التي تقيم فيها أمام البحيرة، في سيارة فضية اللون، مع كلب أسود، من دون إخبارها عن تاريخ حضوره. لذا، لم تستطع مغادرة المكان، الذي يصنع جزءاً من ذاكرتها.
يحضر حبيبها ليتو (وَسْ ستودي)، الذي استذكرت معه أحداثاً مضى عليها نحو نصف قرن، عندما رافقا طلبة في رحلة مدرسية إلى البحيرة، وهما في العاشرة من العمر. أحدهما أحبّ الآخر حينها، لكنّ ظروف الحياة فرّقتهما، واختار كلّ واحد منهما طريقه وشريك حياته. بعد مدة، فَقَدت فاي زوجها، وفَقَد ليتو زوجته، فأرادا استعادة تلك الأحلام الطفولية، وعيشها بطريقة مختلفة. بعد اللقاء، عزفا على القيثارة، وغنّيا أغنيات عدّة كانا يحفظانها. في اليوم التالي، تركها ليتو وغادر المكان.هذا اللقاء حرَّر فاي، التي كانت تعيش حياة معقّدة، ما جعلها تذهب إلى الجبال المجاورة لتتأكّد بنفسها إنْ كان هناك من لا يزال يرعى الغنم، كما كان يفعل والدها. هذا أحد الأسئلة المهمّة بالنسبة إليها. نامت في أعلى الجبل، ورأت النجوم بشكل مختلف، وسمّت الكثير منها، كأنّها تتصالح مع نفسها، بعدما امتلكت مفاتيح أدخلتها إلى أبوابٍ أخرى للحياة، غير التي لازمتها أكثر من نصف قرن. حقّقت ما كانت تحلم به طوال حياتها. عرفت ليتو، الذي نام معها في العربة المتنقّلة، وشغل الوسادة الخالية التي تركتها له. أعاد لها ثقتها بنفسها وأحاسيسها، وشَحَن حاضرها بطاقة رهيبة، لتعيش حياتها بمعطيات الحاضر. كأنّه أعطاها إكسير الحياة، ثم غادر. إنّها الطاقة نفسها التي أعطتها له، هي أيضاً.
رغم بطء الأحداث، وغياب الخطوط الهامشية التي تساند البطلة الرئيسية، أجاب "أغنية حبّ" عن أسئلةٍ مُعلّقة، وقدّم فهماً شاملاً للحياة المتشابكة لفاي. استطاع سيلفرمان تقديم تصوّره الفني الخاص، بخلق فيلمٍ متماسك، يستند إلى لغة سينمائية قوية، تعتمد على الصُوَر والموقف الفني، بدلاً من الثرثرة والحشو ومَطّ الأحداث من دون فائدة فنية. كما قدّم بذكاء أسباب عزلة فاي وهمومها، رغم أنّها منطلقات بسيطة، محوّلاً إياها إلى هموم إنسانية، نقل عبرها مرتكزات حياتية يتم إهمالها، ما خلق مشاكل نفسية، لا يتحرّر المرء منها بسهولة، إلّا إذا واجهها.
خلق المخرج علاقة تكاملية بين قصة الفيلم والفضاء البصري. تحوّلت الكاميرا (مدير التصوير ألفونسو هِريرا سالثيدو) إلى عينيّ فاي في مشاهد كثيرة، وبات المتلقي يرى المناظر الطبيعية الآسرة عبرهما. كما خلق تنوّعاً واضحاً في أبعاد التصوير، المنعكسة على الصُوَر القريبة والبعيدة والمتوسطة، ويتخلّلها التدرّج اللوني الظاهر في الصورة الواحدة، بسبب اختلاف الموجودات، إذْ يمكن مثلاً رؤية لون اليابسة والماء والجبل والسماء في مشهد واحد، وهذا يجعله سالثيدو منطلقاً جمالياً قوياً. إضافة إلى تعدّد الزوايا، وتقريب الصورة من وجه فاي لخلق علاقة تكاملية بينهما وبين المتلقي، ليحسّ بها، ويتوحّد مع ما تمرّ به. تفنّن المُصوّر في نقل المشهد نفسه، في أوقات زمنية مختلفة، وهذا معطى يُنوّع البعد البصري.أكثر من هذا، ذهب سيلفرمان إلى البُعد الثالث، الذي لا يقلّ أهمية عن القصة وطريقتي الإخراج والتصوير، أي الموسيقى (رمزي بِشاوِر)، خالقة أحاسيس مناسبة في المتلقي، ليتفاعل مع الأحداث بشكل صحيح.أبانت الممثلة ديل ديكي مقدرة خاصة في التمثيل، بتأديتها دوراً مُقنعاً، عكست فيه الهواجس النفسية التي أملتها الشخصية، ما ساعد كثيراً في فهم أبعاد القصّة، ومَدّها بالقوّة الضرورية لخلق علاقة فهم وقبول بين الفيلم والمتلقّي، فيكون "أغنية حبّ" وصفة فكرية تُشرّح حالة نفسية، وفقاً لسياقها المنطقي.