للمُخرجة والكاتبة والمديرة الفنية آنا غوتو
Paradise Highway قصة مُمتعة، تستحقّ التأمّل
لا تعطي جولييت بينوش، في "طريق سريعة إلى الفردوس" (Paradise Highway - 2022)، للمُخرجة والكاتبة والمديرة الفنية آنا غوتو (نروجية مُقيمة بين لوس أنجيليس وأوسلو)، إلا نظرات ألمٍ ومُعاناة. على الرغم من كِبَر سنّ الممثّلة المخضرمة (1964)، فلا يزال أداؤها مُتماسكاً وقويّاً، وقادراً على تحقيق مُتعة سينمائية، لمُشاهدٍ اعتاد مُرافقتها في الصور والإبداع.
وعلى الرغم من هشاشة النصّ (سيناريو غوتو)، في الحوارات وخطّها وتصاعد الحكاية، فإن القصة مُمتعة، وتستحقّ التأمّل، منذ بدايات مَشاهدها، لممارستها سحراً لا يجعلها تكشُف صُوَرها بطريقة ميكانيكية، باستعراض سرد الحكاية، بل تدفعها الأحداث الدرامية إلى الكشف عن بعضها، فيظلّ مسار الصوَر مُلغّزاً، ومُحمّلاً بالأسرار، ومُشوّقاً بسلاسة سرده إلى النهاية.
هذا يجعله فيلماً سينمائياً يستحقّ المُشاهدة، لا لأنّ بينوش ومورغان فريمان وفرانك غريلو يمثّلون فيه فقط، بل بفضل ما يُقدّمه من حكاية إنسانية مُذهلة، على أرضٍ تزداد عنفاً وتصدّعاً وتوحّشاً.
في كلّ عملٍ سينمائيّ جديدٍ لها، تخلق الفرنسية جولييت بينوش الدهشة في عُشّاق الفن السابع. تجربة سينمائية أصيلة، يُدرك المرء، مع مرور الوقت، مكانتها وقيمتها في أيّ فيلمٍ. تصنع من جسدها المُتماسك، وهدوئها الرهيب، ونظراتها الساكنة، مادة أدائية قوية، تجعلها دائماً تُحقّق المطلوب، جمالياً وسينمائياً.
هذا ليس سهلاً لأيّ مُمثّل، طالما أنّ ذائقتها النفسيّة قادرة على إنجاح مشهدٍ سينمائيّ، من دون جملة حوارية واحدة، أو حتى كليشيه بصري. هذا النمط من الأداء السينمائي يرتبط بالموهبة، ولا علاقة له بدراسة أكاديميّة، أو بإمكانية صقلها بتجارب أدائية، في المسرح وفنّه، كما في جماليات السينما.
لذلك، تبدو بينوش أكثر حزماً في دورها الجديد، حيث تتعمّد أحياناً اللجوء إلى كلّ ما هو نفسي ـ داخلي، لإعطاء الشخصية ثقلها الدرامي، والاعتماد على نوعٍ من النظرة النوستالجية، التي تنظر إلى العالم بعين امرأة بريئة ومُتعَبة من الجُرح، ومُتطلّعة أكثر إلى مُستقبل قريب، تعمّ فيه السكينة على الذات، وتتخلّص تدريجياً من كلّ ألمٍ أو شرخٍ أو جرحٍ لم يندمل بعد.
قصة "طريق سريعة إلى الفردوس" عن سجين يُدعى دينيس (غريلو)، يُكلِّف أخته سالي (بينوش)، سائقة عربة كبيرة، بتنفيذ مُهمّة له، قبل خروجه قريباً من السجن. ليست البضاعة مُخدّرات أو رسالة، كما جرت العادة، بل طفلة صغيرة، يتقاطع تهريبها مع لحظة مساعدة سالي شقيقها. تقبل سالي، في مشقّة، بأخذ الطفلة وتهريبها إلى خارج الولاية، ولقاء رجل يُدعى بول. لكنّ حادثاً مُفجعاً يقع، فيتغيّر نمط الحكاية ومسارها. تهرب برفقة الطفلة بعد رفضها تسليمها، فتدخل الطفلة حياة سالي، وتتبدّل الأمور كلّها، إذْ تبدو لها خيطاً مُضيئاً، يُحرّرها من قرفها، بعد أنْ بدأت تتطلّع إلى حياة جديدة، بعيداً عن ماضيها المُتقلّب والحزين.
في هذه اللحظة، تفرد آنا غوتو مساحة جماليّة لسالي، في استعادتها بعض هواجسها ومشاعرها إزاء ماضيها البعيد. لحظاتٌ إنسانية قوية ومُدهشة، وقادرة على قهر الماضي، وتعطيل الحاضر، وفتح أبواب المستقبل على حافة الحلم. رغبة سالي في التحرّر والانبعاث تتبدّى في ضحكاتها المُفعمة بالفرح، ونظراتها المُثقلة بالمرارة إزاء الطفلة، وهي تستعيد ماضياً جريحاً مع عائلتها. لكنّها تبقى مجرّد مشاهد سينمائية قليلة، تتخلّلها صورٌ عدّة، تُضمر مَكراً وعنفاً.
بعض ذلك عائدٌ، أساساً، إلى طبيعة الأحداث الدرامية للنصّ، مع حرص غوتو على مُمارسة نوعٍ من التستّر على الحكاية بكاملها. فالصورة لا تقول شيئاً، منذ بداية الفيلم، بل تترك المشاعر تلتقط هسيس صُوَره، بما يجعلها طرفاً في صنع التلقّي الجمالي لها.
منذ المشاهد الأولى، تصنع غوتو حيّزاً جمالياً للغموض، مُخضعة إياه لنَفَسٍ تشويقيّ، يدفع الأحداث الدرامية إلى نهايتها، قبل انكشاف الأهمّ، الذي تأسّس عليه مسار الحكاية. كما اعتمدَتْ أسلوب الحكي بالصورة، بطريقة تُقدّم فيها الشخصيات ومَساراتها الجماليّة، ومدى تلاقيها مع الحكاية الأصل، ما يجعلها نمطاً درامياً مُختلفاً، لأنّ الصورة تُظهِر أكثر ممّا تُضمر، وتقول أكثر ممّا تصمت. الصُورة دائمة التحوّل والالتصاق بالشخصية، والسبب، أولاً، كامنٌ في حركيّة الفيلم، وعدم استقراره عند نقطة بصريّة واحدة، ترسو عليها العين. نسيج الصورة واحدٌ، وغير مُتنوّع، ولا يمنح المُشاهد قلقاً فكرياً، بل سيلاً من أنماط صُوَرٍ تلقائية، تحاكي -بطريقة ميكانيكية- جوهر النصّ، ولا تجعلها تبحث عن اللامُفكّر فيه بصرياً، ولا إمكانية القبض على أشياء مُتخيّلة، ظلّت مُنفلتة في عمق النصّ لحظة الكتابة.
وعلى الرغم من هشاشة النصّ (سيناريو غوتو)، في الحوارات وخطّها وتصاعد الحكاية، فإن القصة مُمتعة، وتستحقّ التأمّل، منذ بدايات مَشاهدها، لممارستها سحراً لا يجعلها تكشُف صُوَرها بطريقة ميكانيكية، باستعراض سرد الحكاية، بل تدفعها الأحداث الدرامية إلى الكشف عن بعضها، فيظلّ مسار الصوَر مُلغّزاً، ومُحمّلاً بالأسرار، ومُشوّقاً بسلاسة سرده إلى النهاية.
هذا يجعله فيلماً سينمائياً يستحقّ المُشاهدة، لا لأنّ بينوش ومورغان فريمان وفرانك غريلو يمثّلون فيه فقط، بل بفضل ما يُقدّمه من حكاية إنسانية مُذهلة، على أرضٍ تزداد عنفاً وتصدّعاً وتوحّشاً.
في كلّ عملٍ سينمائيّ جديدٍ لها، تخلق الفرنسية جولييت بينوش الدهشة في عُشّاق الفن السابع. تجربة سينمائية أصيلة، يُدرك المرء، مع مرور الوقت، مكانتها وقيمتها في أيّ فيلمٍ. تصنع من جسدها المُتماسك، وهدوئها الرهيب، ونظراتها الساكنة، مادة أدائية قوية، تجعلها دائماً تُحقّق المطلوب، جمالياً وسينمائياً.
هذا ليس سهلاً لأيّ مُمثّل، طالما أنّ ذائقتها النفسيّة قادرة على إنجاح مشهدٍ سينمائيّ، من دون جملة حوارية واحدة، أو حتى كليشيه بصري. هذا النمط من الأداء السينمائي يرتبط بالموهبة، ولا علاقة له بدراسة أكاديميّة، أو بإمكانية صقلها بتجارب أدائية، في المسرح وفنّه، كما في جماليات السينما.
لذلك، تبدو بينوش أكثر حزماً في دورها الجديد، حيث تتعمّد أحياناً اللجوء إلى كلّ ما هو نفسي ـ داخلي، لإعطاء الشخصية ثقلها الدرامي، والاعتماد على نوعٍ من النظرة النوستالجية، التي تنظر إلى العالم بعين امرأة بريئة ومُتعَبة من الجُرح، ومُتطلّعة أكثر إلى مُستقبل قريب، تعمّ فيه السكينة على الذات، وتتخلّص تدريجياً من كلّ ألمٍ أو شرخٍ أو جرحٍ لم يندمل بعد.
قصة "طريق سريعة إلى الفردوس" عن سجين يُدعى دينيس (غريلو)، يُكلِّف أخته سالي (بينوش)، سائقة عربة كبيرة، بتنفيذ مُهمّة له، قبل خروجه قريباً من السجن. ليست البضاعة مُخدّرات أو رسالة، كما جرت العادة، بل طفلة صغيرة، يتقاطع تهريبها مع لحظة مساعدة سالي شقيقها. تقبل سالي، في مشقّة، بأخذ الطفلة وتهريبها إلى خارج الولاية، ولقاء رجل يُدعى بول. لكنّ حادثاً مُفجعاً يقع، فيتغيّر نمط الحكاية ومسارها. تهرب برفقة الطفلة بعد رفضها تسليمها، فتدخل الطفلة حياة سالي، وتتبدّل الأمور كلّها، إذْ تبدو لها خيطاً مُضيئاً، يُحرّرها من قرفها، بعد أنْ بدأت تتطلّع إلى حياة جديدة، بعيداً عن ماضيها المُتقلّب والحزين.
في هذه اللحظة، تفرد آنا غوتو مساحة جماليّة لسالي، في استعادتها بعض هواجسها ومشاعرها إزاء ماضيها البعيد. لحظاتٌ إنسانية قوية ومُدهشة، وقادرة على قهر الماضي، وتعطيل الحاضر، وفتح أبواب المستقبل على حافة الحلم. رغبة سالي في التحرّر والانبعاث تتبدّى في ضحكاتها المُفعمة بالفرح، ونظراتها المُثقلة بالمرارة إزاء الطفلة، وهي تستعيد ماضياً جريحاً مع عائلتها. لكنّها تبقى مجرّد مشاهد سينمائية قليلة، تتخلّلها صورٌ عدّة، تُضمر مَكراً وعنفاً.
بعض ذلك عائدٌ، أساساً، إلى طبيعة الأحداث الدرامية للنصّ، مع حرص غوتو على مُمارسة نوعٍ من التستّر على الحكاية بكاملها. فالصورة لا تقول شيئاً، منذ بداية الفيلم، بل تترك المشاعر تلتقط هسيس صُوَره، بما يجعلها طرفاً في صنع التلقّي الجمالي لها.
منذ المشاهد الأولى، تصنع غوتو حيّزاً جمالياً للغموض، مُخضعة إياه لنَفَسٍ تشويقيّ، يدفع الأحداث الدرامية إلى نهايتها، قبل انكشاف الأهمّ، الذي تأسّس عليه مسار الحكاية. كما اعتمدَتْ أسلوب الحكي بالصورة، بطريقة تُقدّم فيها الشخصيات ومَساراتها الجماليّة، ومدى تلاقيها مع الحكاية الأصل، ما يجعلها نمطاً درامياً مُختلفاً، لأنّ الصورة تُظهِر أكثر ممّا تُضمر، وتقول أكثر ممّا تصمت. الصُورة دائمة التحوّل والالتصاق بالشخصية، والسبب، أولاً، كامنٌ في حركيّة الفيلم، وعدم استقراره عند نقطة بصريّة واحدة، ترسو عليها العين. نسيج الصورة واحدٌ، وغير مُتنوّع، ولا يمنح المُشاهد قلقاً فكرياً، بل سيلاً من أنماط صُوَرٍ تلقائية، تحاكي -بطريقة ميكانيكية- جوهر النصّ، ولا تجعلها تبحث عن اللامُفكّر فيه بصرياً، ولا إمكانية القبض على أشياء مُتخيّلة، ظلّت مُنفلتة في عمق النصّ لحظة الكتابة.