محمد بن راشد: نسعى لتوفير أفضل نوعيات الحياة للمواطن والمقيم والزائر
مدرس جامعي اتجه نحو تناول الطعام القهري بعد خسارته لحب حياته
The Whale سلوك هوسي مترافق مع رغبة في تدمير الذات
يحمل ملصق فيلم "الحوت" The Whale ما يكفي من الإشارات لمنتقديه ومحبيه على حد سواء؛ براندن فريزر، ابن هوليوود المنفي منذ التعسينيات، يواجه ذات العدسة التي استبعدته وقتاً طويلاً، مرتدياً هذه المرة "بدلة السُّمنة"، ومتبوعاً باسم المخرج دارين آرنوفسكي، الذي اكتسب سمعته كصانع أفلام غير مريحة، مع أعمال سابقة مثل "الأم" The Mother و"مرثية حلم" Requiem For a Dream تلامس الندبة أقرب من الضمادة، وتخلط عمداً أو عن غير عمد بين الاهتمام الحثيث والتحديق المزعج.
استناداً إلى مسرحية سامويل دي هانتر، وهو كاتب السيناريو أيضاً، فإن The Whale يروي قصة تشارلي (براندن فريزر)، مدرس جامعي للغة الإنكليزية، يدير دروسه عبر الإنترنت من داخل شقته التي لا يجولها من دون مساعدة ميكانيكية، أو بإرشاد وعناية ممرضته وصديقته القديمة ليز (هونغ تشو). فتشارلي رجل ضخم، اتجه نحو تناول الطعام القهري بعد خسارته لحب حياته آلن. أودت تلك المأساة بصحة تشارلي الجسدية والنفسية. تلك الأخيرة، وغيرها ليس من الضروري تفسيرها حتى، توقظ هاجساً عنده في إعادة إحياء التواصل مع ابنته المراهقة إيلي (سادي سينك) بعدما هجرها منذ أن كانت طفلة.
أسباب عدة تجعل الفيلم صعب المشاهدة، فتشارلي رجل وحيد ومكتئب، يحتضر بفعل قصور القلب الاحتقاني، لكنه مع ذلك يرفض كلياً الذهاب إلى المشفى، ويعاني من صدمات نفسية عميقة خلفها انتحار آلن المأساوي، ومن عقدة ذنب متجذرة تجاه ابنته وزوجته السابقة ماري وحياتهما غير المستقرة.
الوزن الزائد، على الوجه الآخر، أشد موضوعات الفيلم وضوحاً وقسوة، إذ تدور معظم أحداثه حول تحركات تشارلي الصعبة أو أكله النهم لدلاء الدجاج المقلي أو شطائر البيتزا، وعمله من خلف الكاميرا المحجوبة مدرساً لمجموعة من الشبان الذين يجهلون شكله. تلك الصورة المقلقة عن السمنة جعلت منتقدي الفيلم يضعونه في مصاف أعمال رهاب السمنة، وتقصد تصويرها بشكل وحشي ومنفر، وخصوصاً نسبة العرض إلى الارتفاع 1.33 التي اختارها المصور السينمائي ماثيو ليباتيك لحشر شخصية تشارلي ضمن إطار ضيق، هدفه التركيز على ضخامة جسده وانعدام تناسبه مع المحيط، أو تعبير تشارلي نفسه عن خوفه من وجود عالم آخر، يمكن فيه لآلن أن يرى هيئته الحالية بقدميه المنتفختين وجلده المتقرح.
لا تنسجم تلك الصورة مع مفاهيم حركة إيجابية الجسد التي تدعو إلى نبذ التعريف الواحد للجسم "الجميل" أو المثالي"، بقدر ما تحمل تخوفات نقادها حول تجاهل المخاطر الصحية الناتجة من الوزن الزائد. بفعل تلك الرؤى المتناقضة حول الموضوع الواحد، يقف The Whale على خط رفيع بين اعتباره واحداً من أعمال العصر، وخصوصاً مع أداء فريزر غير المتنازع حوله، أو كونه مقاربة مهينة للسمنة، تحمل في طياتها رهاباً متجذراً في الهياكل المعقدة للنظام الرأسمالي والأبوي والعنصرية.
في الفيلم، تتأزم صحة تشارلي العقلية تدريجياً، ما يجعله يأكل بشكل محموم أو "عاطفي"، كما يمكن تسميته. مشاهد تترافق مع انطلاق موسيقى مرعبة تزيد من هول الحدث واتخاذ زوايا تصويرية مربكة، تتعمد تقنية التركيز على طبقات اللحم المنسدل من أسفل قميص تشارلي، أو تصويره في حمام شقته.
تميل الخيارات الإخراجية على طول الفيلم إلى تكريس مفارقة "الوحش ذو القلب الرقيق"، وتتخذ موقفاً حاداً من سمنة تشارلي بوصفها سمنة مرضية، تعوق حياة تشارلي بقدر ما تعوق حياة من حوله، من بينهم ليز التي يواصل تشارلي الاعتذار منها طوال الفيلم، متأسفاً على وجوده والحمل العاطفي الملقى على أكتافها، باعتبارها امرأة عاملة بنوبات، وشقيقة آلن المكلومة أيضاً.
نفى آرنوفسكي، وقبله كاتب النص المسرحي المنجز منذ عام 2013، أن عملهما يتمحور حول شخص زائد الوزن، بل هو عن رجل مكتئب، صادف أن يدفعه تدهور صحته النفسية إلى تناول الطعام بشكل اضطرابي وإدماني، تماماً كما سبّب تساقط شعره واهتراء شقته وابتعاده عن المجتمع، وهي تجربة شخصية مرّ بها كاتب المسرحية سابقاً. سوء صحة تشارلي، تماماً مثل وحدته، هي قرارات يتخذها يومياً، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، على إثر الكآبة السريرية، وجزء من حفلة تدمير ذاتية أقامها لنفسه، لا تبعات مؤلمة لبدانته، وفق تعليقات صناع الفيلم. ليس The Whale قصة عن البدانة، بشكل مباشر على الأقل، بل عن السلوك الهوسي المترافق مع رغبة في تدمير الذات عند الشخصيات المتطرفة والإدمانية. أمر شهدناه قبلاً في فيلمي Requiem for a Dream و"المصارع" The Wrestler للمخرج نفسه.
مع ذلك، لا تبدو نيات صناع العمل وأهواؤهم أشياء أكثر أهمية مما سبّبته مشاهد الفيلم القاسية من شعور مؤرق عند بعض مشاهديها الذين يتمثل اعتراضهم الأكبر على الفيلم باستخدام السمنة كأداة درامية للتعبير عن الكآبة المزمنة، أو بوصفها "فشلاً بشرياً نهائياً، وشيئاً يجب تجنبه بأي ثمن". وهي اعتراضات تواجه بدورها خطر التعامل مع السمنة كهوية، ولعلها تكرس بطريقة غير مباشرة الصورة النمطية للأشخاص البُدناء وضرورة تمثيلهم الإيجابي على الدوام.
أن يتطرق عمل ما إلى موضوع السمنة اليوم فذلك يمثل في حد ذاته دخول حقل ألغام، أما أن يرتدي ممثل نحيل بدلة السمنة للعب دور رجل بدين، فيُرى بالنسبة إلى كثيرين على أنه انتهاك مجحف وشكل من أشكال ممارسات الاستيلاء الثقافي. دافع المخرج عن خياراته، واحتج: "لن أستعمل كلمة بدلة السمنة، إنها أطراف صناعية ومكياج". ارتيابه من البدلة مفهوم، خصوصاً بعدما اعتبرت هوليوود لوقت طويل أنّ من المضحك للممثلين أن يرتدوا بدلة السمنة في أفلام التهريج الكوميدي، لتغدو بدانة الشخصية هي النكتة في حد ذاتها.
لا يسعى الفيلم للتلصص على حياة الشخص البدين، أو أنه يفعل أكثر من هذا بكثير، إن أردنا التحدث بإنصاف، إذ يبدي اهتماماً واضحاً، وإن كان منقوصاً، بنحت شخصية فيلمه الرئيسية وتقاطعاتها مع حياة فريزر نفسه. انسحابهما من عالمهما، كل لأسباب مختلفة مثلاً. أداء فريزر يضفي جرعة البراءة التي يحتاجها الفيلم، ويبني على تناقضات تشارلي النفسية؛ هو متفائل تفاؤل الزاهدين بمن حوله، لكنه يائس من نفسه حد الموت. يتحمل مسؤولية ما يعيشه، ولكن غير قادر على إيقافه. يريد مساعدة ابنته، لكنه في الحقيقة يحتاج إلى أن يثبت لنفسه أنه أقدم على فعل شيء واحد صحيح خلال حياته، وإن سبّبت مواجهاتهما تكديمها نفسياً.
الحب موضوع واضح ومؤثر في The Whale. الحب المشوه، المحروم والمبعد عن المجتمع، والمسحوق بطبقات سميكة من الجلد والدهون وسوء الفهم، لا تعبّر عنه شخصية تشارلي فحسب، بل ترسمه بصورة أفضل ابنته المراهقة التي تنتهي محاولتها لإيذاء المبشر الشاب بمساعدته، ويعود وجهها طفلاً للمرة الأولى عبر الفيلم على عتبة باب أبيها، وهي ترجوه أن ينقذ نفسه بعد فوات الأوان.
يستعير The Whale من هيرمان ملفيل ووالت ويتمان بعض الموضوعات والجمل، مانحاً لدراماه اليومية ثقلاً أدبياً، فيما تبدو مقاربته لمفهوم الدين مع شخصية المبشر وارتباطها بمأساة آلن مسطحة وغير مكتملة. هذه وغيرها من العيوب يخفيها أداء فريزر الهائل، وهو أداء تعشقه الأكاديمية، بما فيه من تعرجات وتحولات وأقواس الشخصية، فضلاً عن العودة الدرامية لبطل "المومياء" The Mummy وانتصاره على التهميش الإنتاجي الذي عانى منه لسنوات. ظروف مهدت طريقاً مناسباً نحو جائزة أوسكار، وإن كان من الإجحاف اعتبار تلك الأخيرة مبتغى الفيلم وصناعه كما يشيع البعض.
يقدم The Whale منجزاً فنياً جديراً بالاهتمام، يتسع كلما اتسع النقاش حوله، ويفتح محادثات متوقعة حول موضوع "عدالة البدانة" على الشاشات وصعوبات تمثيل الأشخاص البُدناء عبر أعمال واقعية، لا تلتزم كتب القواعد، وتثبت نفسها أمام اختبار الزمن.