«جوع»: موهبة طباخة فقيرة تنقذها من الحتمية الاجتماعية
ما الحدث الصغير الذي يبدأ به "جوع (Hunger)"، للتايلندي سيتييز كونغولزيري (2023)، ويشرح سمات الشخصية من اللقطة الأولى؟يدٌ تكدح بأقصى سرعة. جبين يعرق، وساعة تتكتك، ونار تتراقص، وجياع يتزاحمون حول المقلاة المشتعلة، وينتظرون دورهم، بينما الطباخ الموهوب يُزيد سرعته لتوفير الطلبيات.
يتغيّر الديكور إلى مطعم شعبي، حيث شابّة وسط اللهيب تطبخ الشعيرية في مكان ضيق، بينما يتزاحم الزبائن لاستلام الصحون، والاستمتاع بالصلصة. السرّ في الصلصة لا في الأرزّ.
هذا فيلم تايلندي، مقبل من أكثر مناطق العالم اكتظاظاً. يتصرّف الطباخون بانضباط عسكري. هكذا يعرض الفيلم تجليات الانضباط في الثقافة شرق الآسيوية. لا توجد ديموقراطية في المطابخ.
الطبخ المهنة الأكثر طلباً. في العالم، ثمانية مليار فم تحتاج إلى مليار طباخ. لمعرفة وزن الطباخين، تكفي نظرة على أشهر طباخ حالياً، صار قائد ميليشيا فاغنر: إنه الرفيق المافيوزي يفغيني بريغوجين، الذي كان "طباخ بوتين"، يُحضّر الطعام لضيوف الديكتاتور الروسي. من تذوّق طعام الأغنياء يجد طعام الفقراء مقرفاً قذراً.
يقدّم "جوع" حكاية فتاة عادية، لا تثير الانتباه بجمال شكلها، بل بمهاراتها. تعيش حكاية تعليم وتحقيق طموح. تناضل بنزاهة لتكون الأفضل. يتماهى المُشاهد مع الطباخة إلى درجة أنّه يعيش أحاسيسها، ويفرح لفرحها. منذ شاهدتُ الفيلم، صرتُ أجرّب الطبخ بطريقة جديدة.
البطلة وسط اللهيب، والطلبيات لا تنتهي. إنّها ناجحة في مهنتها. هذا يفتح لها المجال لتترقّى، حين تبنّاها طباخ مشهور، أعجب بطريقتها في صنع صلصة الأرز.
تستقطب المطابخ الراقية، أي الغالية، الطباخين المهرة لخدمة الأغنياء. تستقطب من يُرهقون أنفسهم ليحظوا بفُتاتٍ. يفتتن العبيد بخدمة الأسياد. خدمة الأغنياء والعيش بقربهم وكسب المال. لا يُسمح للطاهي أنّ يتصوّر أنّه صار منهم.
تظهر المدينة والطباخة من فوق ومن تحت. حذاء قذر. ثمّ المدينة من فوق: عمارات زجاجية، وخدم بأحذية بيضاء. يخترق وعي طبقي حاد الفيلمَ. هذا تفتقر إليه أفلام البلدان التي تخضع فيها السينما للرقابة، للحفاظ على انسجام اجتماعي وهمي.
يحكي "جوع" سيرة طباخ ابن طباخة مقهورة. يتبنى الطباخة الشابّة، التي تعتبره قدوتها. في الثقافة الشعبية المغربية، تُسمّي الأمهات عملهن اليومي في المطبخ "الشّقاء". شقاء النساء لإعداد الطعام يومياً. تسلّلت الكاميرا إلى مكان وبؤس عمل بروليتاريا المطاعم. الكاميرا كالآلة البخارية، لم تترك مكاناً لم تكتسحه. ستغيّر الكاميرا العالم بتتسلّلها إلى الأماكن التي بقيت في الظلّ آلاف السنين. لا يعرف الذين يتناولون مئات ملايين الوجبات السريعة، يومياً، كم يُبذل من جهدٍ في حفر صغيرة لإعدادها. لو عرفوا، ربما لا يتناولونها.
تروي المطابخ أنثروبولوجيا الشعوب. أنهت الزراعة والطبخ في القِدْر مرحلة الإنسان الصياد – الجامع (Hunter – Gatherer). في مرحلة استقرار البشر، هناك دائماً لصّ في المطبخ. هذا تكشفه رسوم توم وجيري. في المطبخ منافسة أيضاً: من يفشل في إعداد صلصته، يحاول إفساد صلصة الغير.
يعرض "جوع" مطبخين وفضاءين ومستشفيين. يعرض طبقتين تفصل إحداهما عن الأخرى مسافة ضوئية، لكنّ الشابّة تعبرها بفضل موهبة في الطبخ. يترقى الفرد بفضل موهبته، ويحسّن وضعه. هكذا تنقذ الموهبة الفرد الفقير من الحتمية الاجتماعية.
جاء المنقذ من مطبخ أكبر. تنتقل البطلة بين الفضاءين، وتخضع لـ"اختبار أداء" في إعداد الصلصة.
أظهر النصف الأول من الفيلم تصاعد إعجاب الطباخة الشابّة بالأغنياء. تحبّهم، وتتمنّى أنْ تكون منهم.
من لحظة ذبح الطائر النادر، تبدأ الشابّة في اكتشاف حقيقة الأغنياء. حقّقوا امتيازاتهم بخرق القانون، لا بفضل ذكاء أو مهارة. يمضي النصف الثاني من الفيلم في اتجاه مضاد. تبدأ الشابّة في كره الأغنياء. تبحث عن طريقها بعيداً عن مُعلّمها في صنع الصلصة. من هنا ينبع طعم صلصة الفيلم.
هذا الأسلوب صنع صلصة الفيلم. يقول المخرج البولندي زيغمونت هبنر إنّ "المخرج إنسان يُعدّ الصلصة للسمك. سيجيء الوقت عندما تصبح فيه "الصلصة" أهم من السمكة نفسها" ("جماليات فن الإخراج"، ترجمة هناء عبد الفتاح، "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، القاهرة، 1993). يضيف أنّ هذا الكلام مكتوب في منتصف القرن الـ19، وصار حقيقة في بداية الـ20، في المسرح والسينما. هذه حقيقة في بداية القرن الـ21.
السرّ في الصلصة لا في الأرزّ والسمك والحكاية. في أسلوب صنع الصلصة، وتصوير الحكاية وطبخها. الأسلوب في الفن كالتوابل في الطعام.
اشتهرت الشابة بطريقتها في استخدام النار في طبخها. إنّه (استخدام النار) الأسلوب في الفن.
الأسلوب في السينما مُعادل أثر الطاقة في المادة، بحسب أندره بازان. حين تنتقل الشابّة إلى مطبخها الخاص، يُطلب منها التوقّف عن تقليد صلصة معلّمها. عليها أنْ تصنع صلصتها تبعاً لما تتقنه هي.
ليس كلّ ما يُطبخ يستحق أنْ يؤكل. ليس كلّ ما يُصوَّر يستحق أنْ يُشاهد. الطباخ الذي يعتبر نفسه أذكى من الصلصة التي يعدّها يفشل. المخرج الذي يعتبر أنه أذكى من الحكاية التي يعرضها على الكاميرا يُنتج الملل.