لعدم الوقوع في شراك التلاعب والنصب
«لا تقلْ شيئاً»..تحذيرات جدّية بخصوص الثقة الزائدة بين الغرباء
أطلق المخرج الدنماركي كريستيان تافدرُب، في "لا تقلْ شيئاً" (2022)، تحذيرات جدّية بخصوص الثقة الزائدة بين الغرباء، والحكم على الأفراد انطلاقاً من معرفة سطحية، ورهن مصير عائلات بكاملها بسبب قراءات أو قرارات طائشة. حدّد معالم واضحة لتبيان نتائج "الثقة" الموضوعة في الشخص الخطأ، وثمن الفاتورة السوداء التي يمكن دفعها، رابطاً التحذيرات بمنجزات درامية، جرّدها من الصيغة المباشرة التي تقتلها. في الوقت نفسه، صوته مرتفعٌ جداً، ونبرته السينمائية عالية ومتشابكة وحادة على المُتلقّي، إلى درجة القسوة، للتنبّه إليها، ولعدم الوقوع في شراك التلاعب والنصب والحكم على ظاهر الأشياء بدل باطنها، وتحكيم العقل بدل الانصياع خلف النزوات والأحكام الآنية.
لهذا كلّه، ركّز في السيناريو (كتبه مع أخيه مادس) على شحن المشاعر، واللعب على العواطف وتكثيفها، لتكوين صورة قريبة تُحدث صدمة التلقّي، فتبقى راسخة بعد فعل المُشاهدة، لتحقيق الجدوى السينمائية والفكرية والإنسانية. نجح في هذا المسعى، حتّى أنّه بالغ، في الربع الأخير من الفيلم (97 دقيقة)، بتكثيفه الصوَر العاطفية المنعكسة في شعور القلق والترقّب والخوف، والرعب الذي حدث في المشهد الأخير، في نهاية أحدثت صدمة كبرى، كُلِّل بها هدفه التحذيري، الذي رسمه بعناية فائقة بالمراحل كلّها في فيلمه.
في الثلث الأول، حدّد كريستيان تافدرُب معالم شخصياته ومنطلقاتها الأساسية، ممثّلة بعائلة دنماركية مُكوّنة من 3 أفراد، الأب بْيُرن (مورتن بوريان)، الودود والمُحبّ والهادئ، وضعيف الشخصية الذي ينقاد بسهولة؛ والأم لويز (سيسل سِيَام كُكْ)، المهتمّة بتفاصيل عائلتها، والنباتية التي تأكل السمك فقط؛ والطفلة الصغيرة أغنِس (ليفا فورسبِرغ)، التي تبلغ 10 أعوام، والتي لم تُقدَّم عنها تفاصيل كثيرة، باستثناء أنّها تعيش طفولتها كما ينبغي.
العائلة مُحبّة للسفر والطبيعة والهدوء، فتقوم برحلة إلى توكسانا الإيطالية، ذات الطبيعة الساحرة. هناك، تتعرّف على عائلة هولندية، مُكوّنة من الأب باترِك (فِدْيَا فان هويت)، ذي الشخصية المركّبة، اللطيف والقاسي والمتفهّم والمُعقّد والمحتال والكاذب، والذي يُظهر عكس ما يُبطّن؛ والأم كارين (كارينا سمولْأرس)، المنصاعة لرؤى زوجها، فلا ترى غير ما يراه؛ وطفلهما آبِل (ماريوس دامسْلِف)، المنطوي على نفسه، والخجول والمُحيّر، والذي لا يقول شيئاً.
بين هؤلاء جميعاً، حصل تواصل، أقلّه من قِبل العائلة الدنماركية، المستمتعة بأجواء الصيف، وبطعام إيطاليا وأجوائها. بين أفراد العائلتين، جرت نقاشات كثيرة عن ثقافات المنطقة، منها تفاهم الهولنديين مع الدنماركيين، على عكس السويديين، إلى مسائل أخرى. ثم انتهت الإجازة، وعادت كلّ عائلة إلى بلدها. بعد فترة، تلقت العائلة الدنماركية رسالة من العائلة الهولندية، دعتهم فيها إلى زيارتها في المنطقة الريفية التي تسكن فيها. تُلبّى الدعوة. هناك، تحدث أشياء ما كان أحدٌ منهم يتخيّل حدوثها، ولا حتّى جزء منها: ظهرت فوضاهم، وقلّة تهذيبهم، وعنفهم. اكتشفوا كذب باترِك، الذي قال إنّه طبيب، وهو في الواقع من دون مهنة، لأنّه لا يؤمن بالعمل، كما قال. هذه المعطيات بسيطة أمام الحقيقة الكبرى التي تنكشف لاحقاً، لكنْ بعد فوات الأوان.
يُمثّل "لا تقلْ شيئاً" السينما العابرة للنوع، لأنّه يسهل إطلاق تصنيفات عدّة عليه، بعد تداخل الرومانسية بالدراما والرعب والإثارة، وما اتّصل بينها. لكنْ، رغم هذا التداخل، يمكن تصنيفه كفيلم رعب، مع أن العناصر التي تُعطي هذا التصنيف حقّه محدودة، ومحصورة في ربع الساعة الأخير، لكنّها هيمنت على معظم أجزائه بأثر رجعي، غلب فيه شعور الرعب باقي المشاعر، بل محاها تماماً، وأصبح مشهد رجم الزوجين العاريين حتّى الموت ثابتاً، وتحوّلت العائلة المُضيفة واللطيفة مصدراً لصناعة هذا الرعب، المنقول بسهولة إلى العائلة الدنماركية، ثم إلى المُشاهد، الذي عاش تفاصيله لحظة بلحظة.
انعكس ذكاء كريستيان تافدرُب في صنعه أساسيات الرعب، وإن كانت الصنعة على حساب شخصياته الأساسية، لأنّه جعل بيُرْن مهزوزاً وضعيفاً، لم يستطع المقاومة وحماية أسرته، إذْ كان بوسعه الانطلاق بالسيارة، بعد أنْ ترك المجرم باترِك خارجها.
لكنّه آثر أنْ ينتظر مصيره المشؤوم. في هذه اللحظات كلّها، طرح المُشاهد أسئلة عدّة، منها سبب عدم تحرّكه مُحاولاً النجاة، رغم أنْ باترِك وكارين ليسا مُسلّحين، وآثر انتظار الموت من دون مقاومة، في حفرة واسعة، تُرمى على جسديهما العاريين (هو وزوجته) حجارة الرجم، ليصبح المنظر كأنّه لوحة دينية من العصور الوسطى.
يخرج المُتلقّي بعد المُشاهدة بتساؤلاتٍ عن الدافع الحقيقي الذي جعل الزوجين الهولنديّين سفّاحين، يختاران ضحاياهما بعناية فائقة، ثم يقتلانها ويستوليان على حاجياتها، مع الاحتفاظ بصورة جماعية لكلّ عائلة، أكثر من هذا، يتبنّيان طفلها بعد قطع لسانه، كي لا يقول شيئاً، وهذا إسقاطٌ وضعه تافدرُب ليتماشى مع العنوان. بعدها، يُقتل الطفل، ويُتبنّى آخر، بعد استقدام عائلة أخرى. وهكذا دواليك.
يقدّم كريستيان تافدرُب في "لا تقلْ شيئاً" درساً مُهمّاً على طريقة المُعالجة السينمائية الذكية، مُعتمداً على بعض مُعطيات علم النفس السلوكي، المتعلّق عادة بردة فعل البشر، وطريقة اكتشافهم ذواتهم. ورغم أن بيُرْن عاش حياته رجلاً مستقيماً، وفقاً لسياق مجتمعي مُعيّن، وجد نفسه مكبوتاً، يُخبّئ في ذاته ألماً كثيراً. وجد ضالته في غريمه/جلاده باترِك، الذي لا يصنع حواجز في حياته العادية، بل يتصرّف وفقاً لغريزته. وحين تحتجّ لويز على سلوكه السلبي، عندما يصرخ في وجه ابنه/ضحيته آبِل، تعكس السلوك نفسه، عندما غضبت وخرجت من البيت. حينها، اقتربت منها آغنيس صارخة في وجهها، كما واجهها باترِك لأنّها نباتية، وفي الوقت نفسه تأكل السمك، رغم ما يُسبّبه السمك من مضار للبيئة، نتيجة المصانع والسفن والتحويل.
كأنّ كريستيان تافدرُب يُقدِّم مُخطّطاً عامّاً عن ازدواجية الفرد، فيعطي لباترِك/المجرم فرصة لإظهار وجهة نظره مهما كانت قاسية. من هنا، يتّضح تعدّد الثقافات والاتجاهات بصورة أشمل.
ساعد الأداء المُهمّ للممثلين في إيصال الأحاسيس المتناقضة، كما ساعدت الموسيقى التصويرية لسُوني كُلْستِرْ في تعبئة مشاعر الخوف والترقّب، وإعطاء الفيلم بُعداً دينياً، خاصة أنّها تحيل، بشكل ما، إلى أجواء الموت والدمار والخوف.
وأكّدت على هذا الطرح وآزرته تلك الألوان الباهتة في المنزل وخارجه، فيشعر المُشاهد أنّ كريستيان تافدرُب لم يستعمل الأضواء الباهرة التي تُبرز ملامح الشخصيات والفضاءات التي تجري فيها الأحداث، بل تركها على حالها، محافظاً على ضبابيّتها ورماديّتها. هذا مُعطى بصري مُهمّ، فهمه مدير التصوير يرِكْ مولبرغ هانسن جيّداً، فعكسه في الصوَر وتدرّج الألوان، لينعكس مع ضبابية النفس البشرية، انطلاقاً من أسرارها ومعانيها المتقلّبة.
لهذا كلّه، ركّز في السيناريو (كتبه مع أخيه مادس) على شحن المشاعر، واللعب على العواطف وتكثيفها، لتكوين صورة قريبة تُحدث صدمة التلقّي، فتبقى راسخة بعد فعل المُشاهدة، لتحقيق الجدوى السينمائية والفكرية والإنسانية. نجح في هذا المسعى، حتّى أنّه بالغ، في الربع الأخير من الفيلم (97 دقيقة)، بتكثيفه الصوَر العاطفية المنعكسة في شعور القلق والترقّب والخوف، والرعب الذي حدث في المشهد الأخير، في نهاية أحدثت صدمة كبرى، كُلِّل بها هدفه التحذيري، الذي رسمه بعناية فائقة بالمراحل كلّها في فيلمه.
في الثلث الأول، حدّد كريستيان تافدرُب معالم شخصياته ومنطلقاتها الأساسية، ممثّلة بعائلة دنماركية مُكوّنة من 3 أفراد، الأب بْيُرن (مورتن بوريان)، الودود والمُحبّ والهادئ، وضعيف الشخصية الذي ينقاد بسهولة؛ والأم لويز (سيسل سِيَام كُكْ)، المهتمّة بتفاصيل عائلتها، والنباتية التي تأكل السمك فقط؛ والطفلة الصغيرة أغنِس (ليفا فورسبِرغ)، التي تبلغ 10 أعوام، والتي لم تُقدَّم عنها تفاصيل كثيرة، باستثناء أنّها تعيش طفولتها كما ينبغي.
العائلة مُحبّة للسفر والطبيعة والهدوء، فتقوم برحلة إلى توكسانا الإيطالية، ذات الطبيعة الساحرة. هناك، تتعرّف على عائلة هولندية، مُكوّنة من الأب باترِك (فِدْيَا فان هويت)، ذي الشخصية المركّبة، اللطيف والقاسي والمتفهّم والمُعقّد والمحتال والكاذب، والذي يُظهر عكس ما يُبطّن؛ والأم كارين (كارينا سمولْأرس)، المنصاعة لرؤى زوجها، فلا ترى غير ما يراه؛ وطفلهما آبِل (ماريوس دامسْلِف)، المنطوي على نفسه، والخجول والمُحيّر، والذي لا يقول شيئاً.
بين هؤلاء جميعاً، حصل تواصل، أقلّه من قِبل العائلة الدنماركية، المستمتعة بأجواء الصيف، وبطعام إيطاليا وأجوائها. بين أفراد العائلتين، جرت نقاشات كثيرة عن ثقافات المنطقة، منها تفاهم الهولنديين مع الدنماركيين، على عكس السويديين، إلى مسائل أخرى. ثم انتهت الإجازة، وعادت كلّ عائلة إلى بلدها. بعد فترة، تلقت العائلة الدنماركية رسالة من العائلة الهولندية، دعتهم فيها إلى زيارتها في المنطقة الريفية التي تسكن فيها. تُلبّى الدعوة. هناك، تحدث أشياء ما كان أحدٌ منهم يتخيّل حدوثها، ولا حتّى جزء منها: ظهرت فوضاهم، وقلّة تهذيبهم، وعنفهم. اكتشفوا كذب باترِك، الذي قال إنّه طبيب، وهو في الواقع من دون مهنة، لأنّه لا يؤمن بالعمل، كما قال. هذه المعطيات بسيطة أمام الحقيقة الكبرى التي تنكشف لاحقاً، لكنْ بعد فوات الأوان.
يُمثّل "لا تقلْ شيئاً" السينما العابرة للنوع، لأنّه يسهل إطلاق تصنيفات عدّة عليه، بعد تداخل الرومانسية بالدراما والرعب والإثارة، وما اتّصل بينها. لكنْ، رغم هذا التداخل، يمكن تصنيفه كفيلم رعب، مع أن العناصر التي تُعطي هذا التصنيف حقّه محدودة، ومحصورة في ربع الساعة الأخير، لكنّها هيمنت على معظم أجزائه بأثر رجعي، غلب فيه شعور الرعب باقي المشاعر، بل محاها تماماً، وأصبح مشهد رجم الزوجين العاريين حتّى الموت ثابتاً، وتحوّلت العائلة المُضيفة واللطيفة مصدراً لصناعة هذا الرعب، المنقول بسهولة إلى العائلة الدنماركية، ثم إلى المُشاهد، الذي عاش تفاصيله لحظة بلحظة.
انعكس ذكاء كريستيان تافدرُب في صنعه أساسيات الرعب، وإن كانت الصنعة على حساب شخصياته الأساسية، لأنّه جعل بيُرْن مهزوزاً وضعيفاً، لم يستطع المقاومة وحماية أسرته، إذْ كان بوسعه الانطلاق بالسيارة، بعد أنْ ترك المجرم باترِك خارجها.
لكنّه آثر أنْ ينتظر مصيره المشؤوم. في هذه اللحظات كلّها، طرح المُشاهد أسئلة عدّة، منها سبب عدم تحرّكه مُحاولاً النجاة، رغم أنْ باترِك وكارين ليسا مُسلّحين، وآثر انتظار الموت من دون مقاومة، في حفرة واسعة، تُرمى على جسديهما العاريين (هو وزوجته) حجارة الرجم، ليصبح المنظر كأنّه لوحة دينية من العصور الوسطى.
يخرج المُتلقّي بعد المُشاهدة بتساؤلاتٍ عن الدافع الحقيقي الذي جعل الزوجين الهولنديّين سفّاحين، يختاران ضحاياهما بعناية فائقة، ثم يقتلانها ويستوليان على حاجياتها، مع الاحتفاظ بصورة جماعية لكلّ عائلة، أكثر من هذا، يتبنّيان طفلها بعد قطع لسانه، كي لا يقول شيئاً، وهذا إسقاطٌ وضعه تافدرُب ليتماشى مع العنوان. بعدها، يُقتل الطفل، ويُتبنّى آخر، بعد استقدام عائلة أخرى. وهكذا دواليك.
يقدّم كريستيان تافدرُب في "لا تقلْ شيئاً" درساً مُهمّاً على طريقة المُعالجة السينمائية الذكية، مُعتمداً على بعض مُعطيات علم النفس السلوكي، المتعلّق عادة بردة فعل البشر، وطريقة اكتشافهم ذواتهم. ورغم أن بيُرْن عاش حياته رجلاً مستقيماً، وفقاً لسياق مجتمعي مُعيّن، وجد نفسه مكبوتاً، يُخبّئ في ذاته ألماً كثيراً. وجد ضالته في غريمه/جلاده باترِك، الذي لا يصنع حواجز في حياته العادية، بل يتصرّف وفقاً لغريزته. وحين تحتجّ لويز على سلوكه السلبي، عندما يصرخ في وجه ابنه/ضحيته آبِل، تعكس السلوك نفسه، عندما غضبت وخرجت من البيت. حينها، اقتربت منها آغنيس صارخة في وجهها، كما واجهها باترِك لأنّها نباتية، وفي الوقت نفسه تأكل السمك، رغم ما يُسبّبه السمك من مضار للبيئة، نتيجة المصانع والسفن والتحويل.
كأنّ كريستيان تافدرُب يُقدِّم مُخطّطاً عامّاً عن ازدواجية الفرد، فيعطي لباترِك/المجرم فرصة لإظهار وجهة نظره مهما كانت قاسية. من هنا، يتّضح تعدّد الثقافات والاتجاهات بصورة أشمل.
ساعد الأداء المُهمّ للممثلين في إيصال الأحاسيس المتناقضة، كما ساعدت الموسيقى التصويرية لسُوني كُلْستِرْ في تعبئة مشاعر الخوف والترقّب، وإعطاء الفيلم بُعداً دينياً، خاصة أنّها تحيل، بشكل ما، إلى أجواء الموت والدمار والخوف.
وأكّدت على هذا الطرح وآزرته تلك الألوان الباهتة في المنزل وخارجه، فيشعر المُشاهد أنّ كريستيان تافدرُب لم يستعمل الأضواء الباهرة التي تُبرز ملامح الشخصيات والفضاءات التي تجري فيها الأحداث، بل تركها على حالها، محافظاً على ضبابيّتها ورماديّتها. هذا مُعطى بصري مُهمّ، فهمه مدير التصوير يرِكْ مولبرغ هانسن جيّداً، فعكسه في الصوَر وتدرّج الألوان، لينعكس مع ضبابية النفس البشرية، انطلاقاً من أسرارها ومعانيها المتقلّبة.