محمد بن راشد: نسعى لتوفير أفضل نوعيات الحياة للمواطن والمقيم والزائر
يُركّز ، في فترات طويلة، على 3 نساء من أجيال مختلفة
"الأيكو".. فيلم ينبضُ بلحظاتٍ خيالية ودرامية آسرة
مُجدّداً، تُؤكّد المخرجة السلفادورية المكسيكية الموهوبة تاتيانا بويزو (1972) تمكّنها الإخراجي في النوعين، الوثائقي والروائي. بعد فيلمها الوثائقي "عاصفة" (2016)، عن مافيا الاتّجار بالبشر في المكسيك، أنجزت روائياً رائعاً وحزيناً، بعنوان "صلاة من أجل المُختطفات" (2021)، استندت فيه إلى أحداث ووقائع حقيقية، عن اختطاف فتيات القرى في المكسيك. نال الفيلم "تنويهاً خاصاً" من لجنة تحكيم قسم "نظرة ما"، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي.
فيلمها الأخير، "الإيكو" (El Eco) ـ الذي عرض في قسم "لقاءات"، في الدورة الـ73 (16 ـ 26 فبراير/شباط 2-23) لـ"مهرجان برلين السينمائي" ـ فاز بجائزة المهرجان لـ"الفيلم الوثائقي"، ونالت مخرجته جائزة أفضل إخراج في القسم نفسه. فيه تعود بويزو إلى جذورها الوثائقية، مع موضوع ومعالجة أقلّ قتامة بكثير، مقارنة بأفلامها السابقة، الوثائقية والروائية. العودة ليست وثائقية خالصة، إذْ ينبضُ الفيلم بلحظاتٍ خيالية ودرامية آسرة، تضعه بسهولة في خانة النوع الروائي أيضاً.
هناك صُنّاع أفلامٍ يمزجون، ببراعة، بين الروائي والوثائقي، ما يسمح لمختلف الأساليب الجمالية والسردية بالاختلاط فيما بينها، لتحقيق تأثير بالغ. تاتيانا بويزو إحدى هؤلاء، إذ تجلّى الخلط النوعي، بذكاء ومهارة، في "الأيكو"، الذي تُركّز فيه، كما في أفلامها السابقة، على الأطفال والمراهقين، خاصة البنات، مُبرزةً قوّتهنّ وشجاعتهنّ ونضجهنّ الباكر، تحت وطأة الحياة اليومية الضاغطة ومتطلباتها، من زراعة ورعاية أغنام ودواجن، وحصد محاصيل. بهذا، تُقدّم صورة صادقة وحميمة لنمط حياة عسير، ووجهات نظر ورؤية فريدة للعالم، وتفاعل مع مفردات الواقع المحيط، بطرق مختلفة.
تدور الأحداث في منطقة جبلية نائية، "الأيكو" (ولاية بويبلا المكسيكية)، على بعد 10 أميال تقريباً من أقرب مدينة، وأكثر من 4 ساعات من العاصمة مكسيكو. في "الأيكو"، يعيش مزارعون ورعاة بسطاء، يعتنون بمواشيهم ومحاصيلهم، عندما يسمح الطقس شديد التقلّب بذلك. للسعادة والفرح حضورٌ في حياة سكّان هذه القرية. لكنّ قسوة الحياة الجبلية، ومصاعبها وتحدّياتها، طاغية أكثر. نمط الحياة العسير هذا تسرده بويزو عبر وجهات نظر أطفال القرية، الذين يختبرون الطبيعة المحيطة، ويشاهدون بذهول العالم حولهم، خاصةً الموت والولادة، للبشر والحيوانات.
رغم أنّه يتجاوز كونه مجرّد احتفاء بالطفولة والبراءة، وكونه طرحاً خفياً لمشاكل المرأة وحريتها، ومناقشة هيمنة الذكور في هذه المجتمعات الصغيرة المعزولة، إلاّ أنّ المطروح يتخطّى هذا الإطار الضيق، ليُناقش الأكبر منه.
مثلاً: مدى ضعف البشر إزاء سطوة الطبيعة، والعالم بكلّ قوانينه الطبيعية والوضعية والمتوارثة؛ وكيف أنّ الأساطير لا تزال باقية، بل طاغية أحياناً. فالبشر والحيوانات، والنباتات أيضاً، تسكنها الأرواح والأشباح والسحرة.بصرف النظر عن طبيعته، التي تحمل أوجه تشابه مع أفلامٍ كثيرة، في إظهارها بؤس الأطفال، في سنّ باكرة، وشقائهم وأحزانهم، والتعامل مع الخسارة والفقدان وصعوبات الحياة بطرق صادمة، واعتناء النساء بالمنازل والأطفال والمواشي وغيرها، بينما يعمل الرجال في الحقول؛ ورصد تأثير وهيمنة البالغين الغائبين، رغم حضورهم في مشاهد أقلّ بكثير من مشاهد الأطفال؛ إلاّ أنّ مخرجين قلائل ينجحون، فعلياً، في تصوير الأطفال بصدق وعفوية، وإدخال المشاهدين إلى عوالمهم بطريقة جاذبة ومُحبّبة.
تاتيانا هويزو من هؤلاء المخرجين، الأذكياء بالتأكيد.في فيلمها الرصديّ، والمليء بالرمزية، والمتماسك جداً رغم هيكله غير التقليدي، والمهتمّ بالآنيّ لا بالماضي، وبما حدث فيه، تتجنّب تاتيانا بويزو المقابلات والتعليق الصوتي، والتدخّل في الأحداث، والحديث المباشر أمام الكاميرا، مُكتفيةً برصد وتتبّع ونقل الروتين اليومي المُرهِق لمجتمعٍ قائمٍ على تربية الأغنام وزراعة الذرّة، وتعاقب الفصول، وتتابع مواسم الزراعة والحصاد. تدخل إلى المنازل المتواضعة، ذات الإضاءة الخافتة، لالتقاط التفاصيل الصغيرة، ورصد حيوات الأشخاص، وأمور أخرى تُركت من دون أن تُقال، أو تُفعّل. يُلاحَظ، إجمالاً، أنّ الكدح الخارجي يتطلّب جهداً كثيراً في المنزل، حتّى في أوقات الفراغ. كلّ هذا من دون إشارات درامية تدلّ على مرور الوقت وانقضاء الأيام، أو أنّ للزمن معنى بالنسبة إلى هؤلاء البسطاء.
مثلاً: مدى ضعف البشر إزاء سطوة الطبيعة، والعالم بكلّ قوانينه الطبيعية والوضعية والمتوارثة؛ وكيف أنّ الأساطير لا تزال باقية، بل طاغية أحياناً. فالبشر والحيوانات، والنباتات أيضاً، تسكنها الأرواح والأشباح والسحرة.بصرف النظر عن طبيعته، التي تحمل أوجه تشابه مع أفلامٍ كثيرة، في إظهارها بؤس الأطفال، في سنّ باكرة، وشقائهم وأحزانهم، والتعامل مع الخسارة والفقدان وصعوبات الحياة بطرق صادمة، واعتناء النساء بالمنازل والأطفال والمواشي وغيرها، بينما يعمل الرجال في الحقول؛ ورصد تأثير وهيمنة البالغين الغائبين، رغم حضورهم في مشاهد أقلّ بكثير من مشاهد الأطفال؛ إلاّ أنّ مخرجين قلائل ينجحون، فعلياً، في تصوير الأطفال بصدق وعفوية، وإدخال المشاهدين إلى عوالمهم بطريقة جاذبة ومُحبّبة.
تاتيانا هويزو من هؤلاء المخرجين، الأذكياء بالتأكيد.في فيلمها الرصديّ، والمليء بالرمزية، والمتماسك جداً رغم هيكله غير التقليدي، والمهتمّ بالآنيّ لا بالماضي، وبما حدث فيه، تتجنّب تاتيانا بويزو المقابلات والتعليق الصوتي، والتدخّل في الأحداث، والحديث المباشر أمام الكاميرا، مُكتفيةً برصد وتتبّع ونقل الروتين اليومي المُرهِق لمجتمعٍ قائمٍ على تربية الأغنام وزراعة الذرّة، وتعاقب الفصول، وتتابع مواسم الزراعة والحصاد. تدخل إلى المنازل المتواضعة، ذات الإضاءة الخافتة، لالتقاط التفاصيل الصغيرة، ورصد حيوات الأشخاص، وأمور أخرى تُركت من دون أن تُقال، أو تُفعّل. يُلاحَظ، إجمالاً، أنّ الكدح الخارجي يتطلّب جهداً كثيراً في المنزل، حتّى في أوقات الفراغ. كلّ هذا من دون إشارات درامية تدلّ على مرور الوقت وانقضاء الأيام، أو أنّ للزمن معنى بالنسبة إلى هؤلاء البسطاء.
درامياً، يُركّز الفيلم، في فترات طويلة، على 3 نساء من أجيال مختلفة: الجدّة أبويلا أنغِليس، والأم لوز ماريا، والابنة مونتسيرات هيرنانديز. بالكاد يظهر الأب، فهو مُسافر دائماً، لأنّه يعمل في مجال البناء. هو المصدر الرئيسي للتوترات النادرة، لكنْ الدائمة، في الأسرة. ذات يوم، تطلب الأم من مونتسيرات رعاية جدّتها، والاعتناء بها جيداً، لأنّها مُنهكة للغاية بسبب العمل، ومسؤولية إدارة الأسرة والأراضي الزراعية في غياب الأب. تتعلّم مونتسيرات من أمها أساليب رعاية الجدّة المُسنّة، التي تحكي لحفيدتها أنّها أول من وصل إلى القرية، بمحض إرادتها. ثم تزوّجت، وساهمت في تكوين هذا المجتمع الصغير عبر السنين.
مونتسيرات، المُحبّة لدورها الجديد، ولتوطيد علاقتها بجدّتها، تُصدَم بشدّة عند وفاتها. صدمة الفراق أيقظت وعي المُراهِقة بعبثية العيش في القرية، وكثرة القيود الأسرية والاجتماعية في حياتها. تفاقم الأمر عندما خطّطت للمشاركة في سباق للخيول ضد الرجال، وحظرت والدتها الأمر بشكل قاطع. بعد ذلك بوقت قصير على مُصارحة مونتسيرات والدتَها بأنّها لا تريد أنْ تجلس وتنتظر من يعولها، اختفت، وهربت إلى العاصمة، باحثة عن حياة أخرى، ومُستقبل مُغاير.
يُمعن "الأيكو" في مراقبة تغيرات المناخ وتقلّباته، وانعكاسات هذا على الروابط الفريدة بين سكّان القرية القلائل، عبر كاميرا المصوّر السينمائي إرنستو باردو، التي رسمت لوحات ريفية ساحرة الألوان. بمهارة ملحوظة، التقطت عدسته الفضولية اللمّاحة تفاعل الأطفال مع العالم حولهم، واستكشافهم البيئة المحيطة. من جهة أخرى، على نحو يُثير الحزن، يؤكّد الفيلم أنّ حياة الأطفال تعكس حياة الآباء والأجداد، وأنّها محض تكرار لحياة أجيال عاشت وتعيش على الأرض نفسها، المتقلّبة باستمرار، إلى أنْ يتمرّد أحدهم، مُحاولاً إحداث تغيير ما.
تجلّى هذا في الخطوة الجرئية لمونتسيرات، وكسرها هذا النمط الروتيني.في "الأيكو"، تمزج تاتيانا بويزو، بتوازن ملموس، بين لحظات عدّة، مُبهجة ومؤلمة. مشاهد الصبي تونيو، الذي يلعق لحاء الشجرة بلسانه، ثم يعانقها بحنان ولطف، من المشاهد المُبهجة للغاية. كذلك لقطات تدريس الصبية سارة للدُمى والعرائس الخاصة بها، ومشاهد مدرسة المدينة، المكوّنة من حجرة واحدة، حيث يقوم الأطفال الأكبر سنّاً بتدريس الأصغر منهم، نظراً إلى عدم وجود أساتذة. من اللحظات المؤلمة، بخلاف قسوة الطبيعة ومشاق العمل، عندما يطلب والد الصغير نينو أنْ يترك طبقه لشقيقته الكبرى مونتسيرات كي تغسله، لأنّ هذا عمل المرأة واجبها. هذا بخلاف مشاهد يحضر فيها الموت بقوة: وفاة الجدة العجوز ومراسم الدفن، نفوق الحيوانات ودفنها في حُفر، ودمار المحاصيل بسبب صقيع مفاجئ أو أمطار لا تتوقّف.
تجلّى هذا في الخطوة الجرئية لمونتسيرات، وكسرها هذا النمط الروتيني.في "الأيكو"، تمزج تاتيانا بويزو، بتوازن ملموس، بين لحظات عدّة، مُبهجة ومؤلمة. مشاهد الصبي تونيو، الذي يلعق لحاء الشجرة بلسانه، ثم يعانقها بحنان ولطف، من المشاهد المُبهجة للغاية. كذلك لقطات تدريس الصبية سارة للدُمى والعرائس الخاصة بها، ومشاهد مدرسة المدينة، المكوّنة من حجرة واحدة، حيث يقوم الأطفال الأكبر سنّاً بتدريس الأصغر منهم، نظراً إلى عدم وجود أساتذة. من اللحظات المؤلمة، بخلاف قسوة الطبيعة ومشاق العمل، عندما يطلب والد الصغير نينو أنْ يترك طبقه لشقيقته الكبرى مونتسيرات كي تغسله، لأنّ هذا عمل المرأة واجبها. هذا بخلاف مشاهد يحضر فيها الموت بقوة: وفاة الجدة العجوز ومراسم الدفن، نفوق الحيوانات ودفنها في حُفر، ودمار المحاصيل بسبب صقيع مفاجئ أو أمطار لا تتوقّف.