دراما هادئة ظاهرياً، لكنّها مشحونة بالغضب والسخط في عمقها
"توري ولوكيتا": يُدين المُعالجة الأوروبية غير الإنسانية لقضية الهجرة وللمهاجرين
يُعتَبر أحدث أفلام الثنائي البلجيكي جان ـ بيار ولوك داردن، "توري ولوكيتا"، الفائز بالجائزة الخاصة بالدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو-أيار 2022) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، أحد أقوى أفلامهما الأخيرة، في مسيرتهما الطويلة، الممتدة منذ نحو 4 عقود. فيه، يقدّمان دراما هادئة ظاهرياً، لكنّها مشحونة بالغضب والسخط في عمقها. قوامها الإنساني يُدين، صراحة وبقوّة، المُعالجة الأوروبية غير الإنسانية لقضية الهجرة، وللمهاجرين. كأنّ الفيلم صُنع لإدانة المحاولة المخزية لبريطانيا، مُؤخّراً، ترحيل لاجئين منها إلى دولة أفريقية، لقاء بدلٍ مادي.
كعادتهما في أفلامهما، يهتمّ الأخوان داردن برسم الشخصيات والعلاقات بينها، أكثر من اعتنائهما بخلفياتها أو ماضيها، أو بتفاصيل الحبكة وإِحكَامِهَا. في جديدهما، تطوّر أسلوبهما بعض الشيء، حيث يظهر اهتمام دقيق بالتفاصيل، وإقناع المُشاهد بالأحداث ومنطقها، قدر المستطاع. فنياً، لم يتغيّر أسلوبهما كثيراً، شكلاً ومضموناً. اللافت للانتباه أنّه، على عكس معظم أفلامهما الباكرة، التي تناولت أشخاصاً بيضاً ينتمون إلى الطبقة العاملة، في بلجيكا وفرنسا، تمحور فيلماهما الأخيران حول شخصيات مُلوّنة: "الشاب أحمد" (2019)، تناول تطرّف صبيٍّ مُسلم، عربي الأصل؛ وفي "توري ولوكيتا"، هجرة شخصيتين أفريقيتين. أيضاً، لا وجود لصبغة الذنب، أو لمسة الغموض الأخلاقي، أو سذاجة الطرح، كحال الشخصيتين المركزيتين في "فتاة مجهولة" (2016)، و"الشاب أحمد".
اتّخذ جديدهما منطقة "بودونك"، قرب لييج البلجيكية (شرق العاصمة بروكسل) حيّزاً لأحداث تراجيدية تتحرّك ـ منذ البداية، وبشكل ملموس وحثيث ـ صوب كارثة حتمية. توري (بابلو شيلز)، صبي شغوف وذكي ومحبوب (12 عاماً)، ولوكيتا (جويل موبوندو)، الأكبر منه (16 عاماً)، صبورة ومسؤولة، تبذل ما في وسعها لحمايته من همجية العالم حولهما. يبذل توري جُلّ طاقته للاعتناء بلوكيتا، بتصميم وعناد ومثابرة. باختصار، إنّهما مراهقان ضد الجميع. يستكشفان الطرق المُمكنة للبقاء معاً، وخلق مستقبل يتّسع لأحلامهما.
في اللقطة الطويلة الأولى، التي تُشكّل المشهد الأول كلّه، تظهر لوكيتا في صورة مُقرَّبة، تستجوبها السلطات بشأن تفاصيل عثورها على شقيقها توري في دار للأيتام، عندما كان يبلغ 8 أعوام. يرتجف وجهها من القلق، وينتابها هلع شديد. لا تستطيع الإجابة، لأنّ القصة محض كذبة مُختَلقة. في النهاية، ينكشف أنّهما غير شقيقين، بل من بلدين مختلفين (الكاميرون وبنين)، التقيا في السفر معاً إلى أوروبا، وأصبحا صديقين مُقرّبين. يبدو أنّ لوكيتا أنقذت حياة توري في مرحلة ما، في ذاك السفر.الواضح أن توري حصل فعلاً على تصريح بالبقاء، ربما لحداثة سنّه، وصعوبة ترحيله. تظاهُر لوكيتا بأنّها شقيقته يمنحها فرصة أفضل للبقاء معه. خلاف ذلك، سيتمّ ترحيلها، لكونها مهاجرة اقتصادية، لا لاجئة. حتّى يُبَتّ أمرها، يُسمَح لهما بالبقاء في مركز للأطفال المهاجرين، تديره الدولة، ويخضع لإشراف ضئيل من مختصين اجتماعيين.
لا ينشغل السيناريو كثيراً بتفاصيل كيفية وصولهما إلى الاتحاد الأوروبي، "الأرض الموعودة"، بعد رحلة مُروّعة. لا يُقدّم الكثير عن ماضيهما، ولا يهتمّ بمسألة إنْ كانا يستحقان البقاء أم لا. التركيز الأكبر ينصبّ على المشاكل والعقبات والصعاب، ومحاولتهما تخطّيها، والتزام أحدهما بالآخر، وحرصه وخوفه الشديد عليه، بالإضافة إلى رغبتهما الجارفة في البقاء على قيد الحياة، في مجتمع لا يكترث بهما. هذا أبرَز بوضوح علاقة حب آسرة، لا يُمكن أن يُضاهيها سوى عدد قليل من علاقات "أشقاء الدم". كما سُلّط الضوء على دفء مُشترك، وانسجام ملموس، وصداقة نادرة، غير موجودة، تقريباً، في الأفلام الأخيرة للأخوين داردن.ليلاً، يُغنّيان معاً في مطعم إيطالي، قريب من مأوى المهاجرين. العمل مُجرّد ستار.
يقومان بجولات ليلية لتوزيع المخدّرات في أنحاء المدينة، لحساب الطبّاخ الألباني بيتيم (ألبان أوكاج)، القابع دائماً في قبو المطعم، والذي يمدّهما كلّ ليلة بحزم صغيرة من مسحوق القنب لتوزيعها، تحت غطاء توصيل البيتزا، في مقابل مال قليل، أو كعك وشطائر ساخنة. كما أنّه يتحرّش بلوكيتا ويستغلّها جنسياً.لا يقتصر الأمر على الرجال الأوروبيين المفترسين والمستغلِّين والقساة. هناك رجل وامرأة أفريقيان، يُطاردان لوكيتا في المدينة، ويسألانها عن سبب عدم ذهابها إلى الكنيسة، وعدم تسديد دينها لهما، في مقابل جلبهما لها إلى أوروبا. هذا يقود إلى أحد أجمل وأقسى مشاهد أفلام الأخوين داردن: تفتيش لوكيتا في السيارة، من قِبَل المرأة، التي تعثر على مدّخراتها، وتأخذها، ما يدعو لوكيتا إلى الاتصال بوالدتها باكية ومُعتذرة، وشاعرة بالذنب لعدم إرسالها المبلغ اللازم لتكاليف تعليم أشقائها الـ5.في غمرة يأسها من الحصول على إقامة شرعية، وخطورة الترحيل المُحدقة بها، في ظل البيروقراطية والشكوك الرسمية المُدمّرة لأحلامهما، وحاجتها الماسة إلى النقود، توافق لوكيتا على العمل "بُستانيّة" في مخبأ سرّي لزرع نبات القنّب، يملكه بيتيم. تُحبَس فيه 3 أشهر، يُمنع عليها الخروج منه نهائياً.
تعتني بالنباتات تحت الأضواء الساخنة التي لا تطاق. في بيئة رطبة، شديدة الحرارة، وتحذيرات من الحرائق، وكيفية التصرّف عند حدوثها؛ مع وعد بالدفع بعد انتهاء المدّة. الأسوأ، بالنسبة إليها، سحب هاتفها منها، ما يعني عدم تمكّنها من التواصل مع أهلها، والاطمئنان على توري.بعد اللقطات الافتتاحية، يكاد التوتر لا يتوقّف. يُعتبر "توري ولوكيتا" الفيلم الأكثر غضباً للأخوين داردن، في سياق الدراما الأخلاقية والاجتماعية، ذات المحن والمآسي، التي أمضيا العقود الثلاثة الماضية في نحتها، فيلماً تلو آخر. الغضب هنا ليس ضمنياً، كعادتهما. شحنة الغضب موجّهة أساساً ضد القوانين والسلطات، وضد لامبالاة المجتمع تجاه ما يحدث.
يُؤمن الأخوان داردن أنّ السينما يجب أن تعني شيئاً يشتبك ويستفزّ ويتداخل مع العالم الحقيقي، ومع المجتمع خصوصاً، ليقلبه ويعدّله ويُغيّره. تماماً كالمدرسة السينمائية للبريطاني كِن لوتش، وغيرها من المدارس الفنية الراقية، الملتزمة اجتماعياً، لذا جعل الأخوان داردن "توري ولوكيتا" صرخة، وإيماءة فنية واقعية، ودعوة إلى مراجعة سياسات الهجرة وأمور المهاجرين، في مُحاولة، ربما تكون أخيرة، لإيقاظ الضمائر الغافلة.
كعادتهما في أفلامهما، يهتمّ الأخوان داردن برسم الشخصيات والعلاقات بينها، أكثر من اعتنائهما بخلفياتها أو ماضيها، أو بتفاصيل الحبكة وإِحكَامِهَا. في جديدهما، تطوّر أسلوبهما بعض الشيء، حيث يظهر اهتمام دقيق بالتفاصيل، وإقناع المُشاهد بالأحداث ومنطقها، قدر المستطاع. فنياً، لم يتغيّر أسلوبهما كثيراً، شكلاً ومضموناً. اللافت للانتباه أنّه، على عكس معظم أفلامهما الباكرة، التي تناولت أشخاصاً بيضاً ينتمون إلى الطبقة العاملة، في بلجيكا وفرنسا، تمحور فيلماهما الأخيران حول شخصيات مُلوّنة: "الشاب أحمد" (2019)، تناول تطرّف صبيٍّ مُسلم، عربي الأصل؛ وفي "توري ولوكيتا"، هجرة شخصيتين أفريقيتين. أيضاً، لا وجود لصبغة الذنب، أو لمسة الغموض الأخلاقي، أو سذاجة الطرح، كحال الشخصيتين المركزيتين في "فتاة مجهولة" (2016)، و"الشاب أحمد".
اتّخذ جديدهما منطقة "بودونك"، قرب لييج البلجيكية (شرق العاصمة بروكسل) حيّزاً لأحداث تراجيدية تتحرّك ـ منذ البداية، وبشكل ملموس وحثيث ـ صوب كارثة حتمية. توري (بابلو شيلز)، صبي شغوف وذكي ومحبوب (12 عاماً)، ولوكيتا (جويل موبوندو)، الأكبر منه (16 عاماً)، صبورة ومسؤولة، تبذل ما في وسعها لحمايته من همجية العالم حولهما. يبذل توري جُلّ طاقته للاعتناء بلوكيتا، بتصميم وعناد ومثابرة. باختصار، إنّهما مراهقان ضد الجميع. يستكشفان الطرق المُمكنة للبقاء معاً، وخلق مستقبل يتّسع لأحلامهما.
في اللقطة الطويلة الأولى، التي تُشكّل المشهد الأول كلّه، تظهر لوكيتا في صورة مُقرَّبة، تستجوبها السلطات بشأن تفاصيل عثورها على شقيقها توري في دار للأيتام، عندما كان يبلغ 8 أعوام. يرتجف وجهها من القلق، وينتابها هلع شديد. لا تستطيع الإجابة، لأنّ القصة محض كذبة مُختَلقة. في النهاية، ينكشف أنّهما غير شقيقين، بل من بلدين مختلفين (الكاميرون وبنين)، التقيا في السفر معاً إلى أوروبا، وأصبحا صديقين مُقرّبين. يبدو أنّ لوكيتا أنقذت حياة توري في مرحلة ما، في ذاك السفر.الواضح أن توري حصل فعلاً على تصريح بالبقاء، ربما لحداثة سنّه، وصعوبة ترحيله. تظاهُر لوكيتا بأنّها شقيقته يمنحها فرصة أفضل للبقاء معه. خلاف ذلك، سيتمّ ترحيلها، لكونها مهاجرة اقتصادية، لا لاجئة. حتّى يُبَتّ أمرها، يُسمَح لهما بالبقاء في مركز للأطفال المهاجرين، تديره الدولة، ويخضع لإشراف ضئيل من مختصين اجتماعيين.
لا ينشغل السيناريو كثيراً بتفاصيل كيفية وصولهما إلى الاتحاد الأوروبي، "الأرض الموعودة"، بعد رحلة مُروّعة. لا يُقدّم الكثير عن ماضيهما، ولا يهتمّ بمسألة إنْ كانا يستحقان البقاء أم لا. التركيز الأكبر ينصبّ على المشاكل والعقبات والصعاب، ومحاولتهما تخطّيها، والتزام أحدهما بالآخر، وحرصه وخوفه الشديد عليه، بالإضافة إلى رغبتهما الجارفة في البقاء على قيد الحياة، في مجتمع لا يكترث بهما. هذا أبرَز بوضوح علاقة حب آسرة، لا يُمكن أن يُضاهيها سوى عدد قليل من علاقات "أشقاء الدم". كما سُلّط الضوء على دفء مُشترك، وانسجام ملموس، وصداقة نادرة، غير موجودة، تقريباً، في الأفلام الأخيرة للأخوين داردن.ليلاً، يُغنّيان معاً في مطعم إيطالي، قريب من مأوى المهاجرين. العمل مُجرّد ستار.
يقومان بجولات ليلية لتوزيع المخدّرات في أنحاء المدينة، لحساب الطبّاخ الألباني بيتيم (ألبان أوكاج)، القابع دائماً في قبو المطعم، والذي يمدّهما كلّ ليلة بحزم صغيرة من مسحوق القنب لتوزيعها، تحت غطاء توصيل البيتزا، في مقابل مال قليل، أو كعك وشطائر ساخنة. كما أنّه يتحرّش بلوكيتا ويستغلّها جنسياً.لا يقتصر الأمر على الرجال الأوروبيين المفترسين والمستغلِّين والقساة. هناك رجل وامرأة أفريقيان، يُطاردان لوكيتا في المدينة، ويسألانها عن سبب عدم ذهابها إلى الكنيسة، وعدم تسديد دينها لهما، في مقابل جلبهما لها إلى أوروبا. هذا يقود إلى أحد أجمل وأقسى مشاهد أفلام الأخوين داردن: تفتيش لوكيتا في السيارة، من قِبَل المرأة، التي تعثر على مدّخراتها، وتأخذها، ما يدعو لوكيتا إلى الاتصال بوالدتها باكية ومُعتذرة، وشاعرة بالذنب لعدم إرسالها المبلغ اللازم لتكاليف تعليم أشقائها الـ5.في غمرة يأسها من الحصول على إقامة شرعية، وخطورة الترحيل المُحدقة بها، في ظل البيروقراطية والشكوك الرسمية المُدمّرة لأحلامهما، وحاجتها الماسة إلى النقود، توافق لوكيتا على العمل "بُستانيّة" في مخبأ سرّي لزرع نبات القنّب، يملكه بيتيم. تُحبَس فيه 3 أشهر، يُمنع عليها الخروج منه نهائياً.
تعتني بالنباتات تحت الأضواء الساخنة التي لا تطاق. في بيئة رطبة، شديدة الحرارة، وتحذيرات من الحرائق، وكيفية التصرّف عند حدوثها؛ مع وعد بالدفع بعد انتهاء المدّة. الأسوأ، بالنسبة إليها، سحب هاتفها منها، ما يعني عدم تمكّنها من التواصل مع أهلها، والاطمئنان على توري.بعد اللقطات الافتتاحية، يكاد التوتر لا يتوقّف. يُعتبر "توري ولوكيتا" الفيلم الأكثر غضباً للأخوين داردن، في سياق الدراما الأخلاقية والاجتماعية، ذات المحن والمآسي، التي أمضيا العقود الثلاثة الماضية في نحتها، فيلماً تلو آخر. الغضب هنا ليس ضمنياً، كعادتهما. شحنة الغضب موجّهة أساساً ضد القوانين والسلطات، وضد لامبالاة المجتمع تجاه ما يحدث.
يُؤمن الأخوان داردن أنّ السينما يجب أن تعني شيئاً يشتبك ويستفزّ ويتداخل مع العالم الحقيقي، ومع المجتمع خصوصاً، ليقلبه ويعدّله ويُغيّره. تماماً كالمدرسة السينمائية للبريطاني كِن لوتش، وغيرها من المدارس الفنية الراقية، الملتزمة اجتماعياً، لذا جعل الأخوان داردن "توري ولوكيتا" صرخة، وإيماءة فنية واقعية، ودعوة إلى مراجعة سياسات الهجرة وأمور المهاجرين، في مُحاولة، ربما تكون أخيرة، لإيقاظ الضمائر الغافلة.