الصراع بين الممسوخ والجميل، بين الهرم واليانع، بين الماضي والمستقبل.
ديمي مور تواجه مأزق العمر المتقدم في فيلم «المادة»
لا تستيقظ إليزابيث في فيلم "المادة" The Substance 2024)) لتجد نفسها وقد تحولت إلى صرصار كما غريغوري سامسا في رواية كافكا "التحول"، ولا هي تصير إلى ذبابة كما حصل مع سيث في فيلم ديفيد كروننبرغ "الذبابة"، كما أن هنري لم يصوّرها في بورتريه خالدة، فأمست لوحتها مرصداً لتشوهات أعماقها وروحها، كما في رواية أوسكار وايلد "صورة دوريان غراي"، كلُّ ما في الأمر أن إليزابيث تقدمت في العمر!
إليزابيث (ديمي مور) نجمة مشهورة، ومقدمة برنامج تمارين رياضية واسع الانتشار في فيلم المخرجة الفرنسية كورالي فارغيت "المادة"، وهي لا تمهلنا سوى بضع دقائق لنكون في خضم مأزقها، الآتي من أن المنتج هارفي (دينس غويد) خلص إلى أنها أصبحت "عجوزاً"، لقد وصلت الـ50 من عمرها! وهو يبحث عن بديل منها!
ماذا ستفعل؟ كيف لها أن تجابه هذا المأزق وهو آت من جسدها وعمرها وكل ما هو خارج إرادتها؟ هل تقول "ألا ليت الشباب يعود يوماً..." وتضحي بنجوميتها وشهرتها وصورها تملأ كل مكان؟
صراع الطرف الواحد
صراع إليزابيث ماثل في جسدها، على اتصال بالعمر والزمن، والمرعب في الفيلم سيأتي من هنا، من خوف إنساني أصيل قد لا يستثني أحداً، أي ذاك المرتبط بالتقدم بالعمر والشيخوخة، من مأساة الإنسان حين يشعر أنه شاب في روحه وتطلعاته وسعيه، إلا أن جسده يشيخ ويتقهقر، وتحديداً حين يكون سر النجاح هو الجمال والشكل الخارجي، وبالتالي فإن الصراع هنا يكون بين الشخصية وجسدها، بينها وبين ما هو حتمي، إذ ما من طرفين في هذا الصراع، بطل وبطل نقيض، شرير وخيّر، ولا محيد عن الهزيمة! وهذا يقود أيضاً للقول إن صراع إليزابيث سيكون في البداية مع شيء لا يتجسد فيزيولوجياً كطرف آخر.الانتصار على هذه المعضلة سيكون بتدخل خارجي، متناغم بدوره مع المأزق، وبكلمات أخرى مجابهة الطبيعي بغير الطبيعي، وهنا تحضر "المادة"، بعدما تتعرض إليزابيث لحادثة سيارة، فيعاينها طبيب في المستشفى، يفحص عمودها الفقري ويخلص إلى أنها "مثالية"، لذا صالحة تماماً لاستخدام "المادة" وفقاً لما يلي، "هل حلمت يوماً بنسخة أفضل من نفسك؟ أصغر سناً، أجمل، وأكثر كمالاً، حقنة واحدة فقط تفعّل حمضك النووي، فتبدأ انقساماً خلوياً جديداً، يطلق نسخة أخرى منك، هذه هي (المادة)، أنت الأصل، كل شيء يأتي منك، كل شيء هو أنت، إنها ببساطة نسخة أفضل منك، عليك فقط المشاركة، أسبوع لك وأسبوع للآخر، توازن مثالي من سبعة أيام لكل منكما، الشيء الوحيد الذي لا يجب أن تنساه: أنتما كيان واحد، ولا يمكنك الهرب من نفسك".
الولادة من الظهر
ما إن تمضي إليزابيث في تلك التجربة وتحقن نفسها بـ"المادة"، حتى يدخل الفيلم طوراً جديداً، إذ تولد من ظهرها امرأة جديدة عشرينية اسمها سو (مارغريت كوالي) يانعة فائقة الجمال، لم تمسس بشرتها التجاعيد ولم يداخل وجهها خط واحد، بل صفاء وكمال، مع جسد رشيق بديع.ابتداء من هذا الحدث المفصلي، يتجسد الآخر، يصبح ما يعتمل في دواخل إليزابيث شخصية أخرى، تجد فيها حلاً جذرياً لمأزقها، وسو بدورها سرعان ما يؤخذ بها المنتج هارفي وتصبح نجمة جديدة تُفتح أمامها أبواب الشهرة كلها. لكن لنتذكر أنهما "كيان واحد" فـسو هي إليزابيث والعكس صحيح، وهنا يتجسد الحل لمأزقها، يخرج من جسمها على هيئة امرأة أخرى تلبي كل ما تحتاج إليه لتواصل حضورها في دنيا الشهرة والأضواء، لكن هل هما كيان واحد بحق، هل سيبقيان كذلك؟ والإجابة عن هذا السؤال معبر الفيلم إلى الصراع؟
دوريان غراي وإليزابيث
يقوم الرسام في رواية أوسكار وايلد "صورة دوريان غراي" برسم صورة أو بورتريه لغراي (فاوست الجمال)، سرعان ما تتحول إلى صك أو مرآة سحرية تسبر أعماقه السحيقة، وتترصد ذبول روحه وانهيارها أمام اللورد هاري (مفستوفيلس)، ومع كل خطيئة أو رذيلة يرتكبها غراي تتحول إلى تغضن أو تجعيد يظهر على سطح الصورة، وعندما يلقي دوريان جراي نظرته الأخيرة عليها يصعقه وجه يجهله تماماً، وجه مشوه بلا ملامح يدفعه لأن يطعنها (الصورة) على أمل أن يمزقها، فيموت هو بدلاً منها ولم تنقص منه ذرة نضارة واحدة.
في إسقاط ذلك على فيلم "المادة" فإن طمع إليزابيث بالجمال والشباب والنضارة، سيقودها إلى أن تتحول إلى مسخ كما صورة غراي، وهي تريد أن تبقى سو الشابة، وعليه تقدم على الإخلال بشروط استخدام "المادة"، فتتخطى سو السبعة أيام، وجراء ذلك تبدأ التشوهات بغزو جسد إليزابيث ووجهها، وحين تصبح كل الأيام لـ سو، فإن إليزابيث ومع نفاد "المادة" تتحول إلى مسخ، ويحتدم الصراع بين الممسوخ والجميل، بين الهرم واليانع، بين الماضي والمستقبل.
ما من أي خطأ أو خلل أو عيب في المادة، ما من مصادفات في فيلم فارغيت، ولا تفسير لماهية هذه المادة أو كيف أو من اخترعها، كل ما يهم صراع الشخصية مع ذاتها، والرعب فيه يبدأ سيكولوجياً، ثم يتحول إلى مزيج من رعب الوحوش أو المسوخ، والكوميديا السوداء، وهو بذلك يتناغم ويتكامل، بينما يتأسس الرعب –على سبيل المثال- في فيلم ديفيد كروننبرغ "الذبابة" The Fly (1986)، على خطأ في تجربة علمية، حيث العالم سيث يعمل على تجربة يسعى من خلالها إلى الانتصار على حاجزي المكان والزمان في تنقّل الأشياء والكائنات، فهو يضع قرداً في حجرة وينقله إلى أخرى بعملية تحويلة، فإذا به يجربها على نفسه، لكن ذبابة تتسلل إلى حجرته، تمتزج بجيناته حين ينتقل إلى الحجرة الأخرى، وهكذا نعايش أطوار تحوله إلى ذبابة، بدءاً من شقلباته وليونة جسمه العجيبة وتناوله السكريات بلا توقف، وصولاً إلى تغيرات جسمه وقد أمسى ذبابة عملاقة في النهاية.
مع فيلم "المادة" يحضر "الغروتسك" بقوة، طالما أن هذا المفهوم قادر تماماً على أن يكون جسراً بين الجمال والقبح، وبين الطبيعي وغير الطبيعي، على رأي أمبرتو إيكو، وهو بصورة أو أخرى انعكاس للانحرافات والتشوهات البشرية، حتى وإن كانت مألوفة وعادية، مما يسمح للإنسان أن يتأمل الجوانب المعتمة في نفسه والعالم، التي غالباً ما يتم قمعها أو تجاهلها، وهذا تماماً ما قدمته كورالي فارغيت كتابةً وإخراجاً ونال جائزة أفضل سيناريو في دورة مهرجان كان الأخيرة 2024، فالمألوف أو العادي في "الغروتسك"، سيحيلنا إلى عمليات التجميل، والسعي إلى الانتصار على عوامل الزمن بتدخلات جراحية ونحو ذلك، يتحول الإسراف بها إلى تحويل الإنسان إلى مسخ، كذا هي هشاشة النجومية القائمة على الشكل الخارجي ولا شيء سواه،
حيث بإمكان أي شيء أن يشوهها وينال منها، كما هي نجمة إليزابيث المرسومة على الرصيف، التي يبدأ وينتهي بها الفيلم.