لديهم امتيازات تكسبهم سلطة وسطوة تسمح لهم بالقتل والسحل والاعتقال التعسفي
فيلم Power: يغوص في أصول الشرطة الأميركية ويفكك ممارساتها العنصرية والطبقية
تنادي أصوات راديكالية في الولايات المتحدة الأميركية، بين الفترة والأخرى، بإعادة النظر في الدعم الضخم الذي تقدّمه حكومة بلادهم لجهاز الشرطة، لعل أبرزهم نوام تشومسكي، والناشطة الأفروأميركية أنجيلا ديفيس، التي دعت إلى إلغاء الشرطة والسجون باعتبارهما عنصريين عنيفين بطبيعتهما، وتفكيك هاتين المؤسستين الرأسماليتين بغية إعادة هيكلتهما.
بالطبع، يرتبط كلام ديفيس بالامتيازات الكبيرة والكتلة النقدية الضخمة التي تقدمها الحكومة الأميركية للشرطة، ما يكسبها سلطة وسطوة تسمح لعناصر الشرطة بالقتل والسحل وبالتسبب بإصابات بالغة وبالاعتقال التعسفي.
أين تنتهي سلطة الشرطة؟ سؤال عريض يطرحه فيلم Power للمخرج يانس فورد. وثائقي صدر أخيراً بإنتاج منصة نتفليكس. وكي يجيب عن هذا السؤال يغوص الفيلم في أصول الشرطة الأميركية ويفكك ممارساتها التي كثيراً ما تتسم بالعنصرية والطبقية.
أن يتناول فيلم Power الوثائقي لمخرج أميركي من أصل أفريقي موضوع سلطة الشرطة وممارساتها، فلا بدّ له من أن يعرض تاريخ العنصرية وعلاقته بالسلطة والسياسات الداخلية الأميركية، التي أبقت على التمييز لخلق مجتمع متصارع، غير متساوٍ اجتماعياً، بحجة أن إحدى فئات المجتمع تساهم، مباشرةً، في انتشار الجريمة.
غير أن الفيلم اقتصر على تفكيك جهاز الشرطة من ناحية علاقته بالأميركيين السود، على الرغم من أن للموضوع زوايا متعددة، تتعلق بشكل النظام الأميركي الرأسمالي الذي يزيد المهمشين تهميشاً، ويحمي أصحاب الملكيات الكبيرة، وهذا ما يأتي على لسان الصحافي الحائز على جائزة بولتزر ويسلي لوير باقتضاب في الفيلم: "تاريخياً، كان عمل الشرطة هو إخضاع فئة صغيرة لتحقيق مصالح الفئات الأكبر".
يتخذ فورد، الذي حقق في مقتل شقيقه في فيلمه الذاتيّ المؤلم Strong Island، نهجاً أبعد بكثير مما كان عليه في فيلمه السابق ويناقش قضية أعمّ وأعقد. هذه المرة، ينظم الشهادات الحاضرة في الفيلم ويكثف الخلفيات بغية تفكيك الصور التي أصبحت مألوفة للغاية، وإحداث خرق بالبنى المعرفية التي كونتها السلطة لصورة الشرطة في كلاسيكيات السينما الأميركية وفي وسائل الإعلام، وعبر التحقيب التاريخي الذي يوضح كيف كُرّست هذه السلطة وعززت قبضتها على شريحة لا بأس بها من المواطنين الأميركيين.يعرض فيلم Power التسلسل الهرمي في المجتمع الأميركي، الذي استغلته السلطات بهدف ترسيخ الشرخ بين الأقوى والأضعف. وبناءً على ذلك، يطرح أسئلة ذات مستويات عدة، إلا أنها تبقى معلقة نظراً إلى تعقيدها وارتباطها بسياقات ربما تحتاج ساعات لشرحها. من يضبط قوة الشرطة المطلقة؟ وهل هناك محظورات في عملها؟ وفي هذه الدول "الديمقراطية" مَن الأكثر قوةً، الشعب أم الشرطة؟
يشتبك تاريخ الشرطة الأميركية بتاريخ التمييز العنصري الذي قام على سحق السود مقابل منح امتيازات كبيرة للبيض. وعلى الرغم من أن حوادث عنف الشرطة الأميركية تشغل وسائل الإعلام بين الفترة والأخرى، إلا أن فورد يوضح في الفيلم أن العنف ليس بالأمر الجديد، وإنما له جذور ضاربة في القدم وممتدة عبر التاريخ الأميركي.
وكما ينتج السجن الجريمة في بعض الأحيان، تنتج سلطة الشرطة شبه المطلقة مجتمعاً غارقاً في الفوضى، إذ لا تتعارض أسباب الوجود مع النتائج وإنما تعززها، وخصوصاً في مسألة الشرطة الأميركية، فالمجتمع الذي كبلته القيود التأديبية لا يتوانى عن خرق القوانين، على مبدأ أن بطش من في يدهم القوة الشرعية قائمٌ بكل الأحوال.
يرجع فورد في مقابلاتٍ مع مؤرخين وصحافيين وأكاديميين أميركيين إلى النقطة الأولى من نشوء الشرطة، بالتحديد في ولاية بوسطن عام 1838، عارضاً الجذور العسكرية للشرطة في الولايات المتحدة، فيتضمن الفيلم وثائق تبين أن الشرطة الأميركية تطورت من دوريات العبيد التي وظفت تأديب العبيد وحظر تجولهم من دون إذن سيدهم، وتنظيم الترتيب الطبقي بين البيض والملونين والسود، إلى ما وصلت إليه الشرطة اليوم.
يقول البروفيسور في جامعة نيويورك نيكيل بال سينغ، في الشهادة المضمنة في فيلم Power إن تطور الشرطة الأميركية له أبعاد ثلاثة؛ أولها دوريات العبيد، التي قبضت على العمال السود وقهرتهم. ويظهر الثاني عند حدود التوسعات، إذ كان المستوطنون يهدفون إلى تأسيس حقوق خاصة بهم تضمن ملكيتهم للأراضي. والبعد الأخير تطور مع تقدّم الرأسمالية الأميركية والطلب المتزايد على العمال. وتبعاً لذلك، فإن هذه السلطة تبدأ وتنتهي بالملكية، فالشعب الذي يعتبر ملكية خاصة، كما في حالة العبيد، يمثلون خطراً على النظام الاجتماعي الذي يستند إلى الملكية، لذلك هم ضحايا هذا النظام، على حد تعبير سينغ.في إطار نقاشه للعلاقة التاريخية بين السلطة السياسية والعبودية، يعرض فورد النقاشات على مسألة العرق التي أثيرت مع قدوم المهاجرين من أوروبا إلى أميركا في تسعينيات القرن السابع عشر، والتفريق بين الخدم البيض والعبيد السود حتى على مستوى الامتيازات، ففي تلك الفترة دخلت شريحة جديدة وهم فقراء البيض، ومع ذلك لم تكن هذه الطبقة سواسية مع العبيد.
ففي فرجينيا، خطرت فكرة لحاكم المستعمرة، للتأكد من عدم اتحاد العبيد والخدم للإطاحة به، ألا وهي أن الخدم سيجلدون وهم بكامل لباسهم على عكس العبيد الذين سيعاقبون وهم عراة. وهذا يدل على أمرين؛ الأول أن عنصرية النظام الأميركي قد طاولت المهاجرين الأوروبيين (البيض)، لا سيما الإيطاليين والأيرلنديين منهم، وكرست فكرة مفادها أن السود هم الأضعف.
كان لا بد للحراك الثوري العالمي في الستينيات، وانتشار حركات التحرر، من أن يجد طريقه إلى المجتمع الأميركي، ولا سيما أن الشرطة الأميركية كانت تمارس دوراً كولونيالياً على المواطنين، حينها فهمت الشرطة أن خطر الشيوعية متماش مع راديكالية السود واعتبرته مشكلة عالمية.
في هذا الوقت، خرجت احتجاجات تشكك بالرأسمالية وتنادي بالمساواة والعدالة الاجتماعية وكانت هذه الحركات الاحتجاجية تتشابه في كل بقاع الأرض، فلجأت السلطة لرد فعل سريع، إذ تعاملت الشرطة مع مطالب السود بالتحرر والعمل على أنها خطط من العدو. لهذا السبب، فإن الخطط نفسها التي طبقها الجيش للسيطرة في الخارج طبقتها الشرطة في الداخل، ما زاد من النظر إلى الشرطة الأميركية على أساس أنها أداة كولونيالية.
خلال الستينيات، آمن العديد من عناصر الشرطة بأن حركات الحقوق المدنية والحركات السوداء كانت عبارة عن خدع يمارسها الاتحاد السوفييتي؛ فقالوا إن الناس يتعرضون إلى التلاعب، وإن المحرضين يزرعون أفكاراً في المجتمع الأفروأميركي ليقنعوهم بالتمرد، ولا سيما أن حزب الفهود السود اليساري الراديكالي كان حينها قد وجد أرضية خصبة له، نتيجة إفقار السود وحصرهم في فضاءات مكانية طابعها الأبرز هو الفقر والجهل والبؤس وتفشي الجريمة والمخدرات.
لا يقتصر فيلم Power على العرض التاريخي، بل يمتد في سياق لا ينقطع نحو الحاضر، فهذا العنف هو نتيجة لتمييز ووحشية الماضي، فيتطرق إلى احتجاجات السبعينيات، والتي أدت إلى توجيه الرئيس الأميركي ليندون جونسون بتشكيل لجنة "كيرنر" التي أعدت دراسة عن وضع السود. وكان التقرير عبارة عن مستند ضخم ونقطة تحول مهمة في تاريخ الحكومة الأميركية، فهو أول اعتراف بالطريقة التي ترتبط فيها قوات إنفاذ الأمن في المجتمع الأميركي بتأسيس مجتمع منفصل على أساس عرقي ومشتت وغير متكافئ.حددت اللجنة أسباباً رئيسية للاحتجاجات، من ضمنها التمييز الكبير في التوظيف والتعليم والإسكان، واعترفت بتصرفات الشرطة العنصرية. ولكن التقرير خلص إلى توجيهٍ حكومي نحو دعم الشرطة المالي وتدريب عناصرها لتفادي الوقوع في المشكلات التي تسببت باحتجاجات السبعينيات.ولكن الاحتجاجات لم تنتهِ، تمثلت آخرها في حركة "حياة السود مهمة"، التي تعرضت لهجوم كبير شنّه دونالد ترامب، الذي طلب من الجيش أن يطلق النار على المحتجين. ووجد أن الطريقة المثلى للتعامل معهم هو "كسر جماجمهم". جاءت الحركة رداً على التحيز ضد السود بما فيها ممارسات الشرطة التي ارتكبت خلال تلك الفترة أشهر جرائمها، ألا وهي قتل جورج فلويد.
تقول الأكاديمية الأميركية من أصل أفريقي كيانا تايلور، في الفيلم، إن "عنف الشرطة يدل على أننا لم نحقق بعد هدفنا بالمواطنة، وهكذا تسببت الشرطة في إشعال هذه الاحتجاجات الضخمة، لأن تصرفاتها تشكك بانتمائنا وحقنا بالوجود".لم ينتهِ الأمر كحوادث تاريخية، فالفيلم يتضمن خطابات لأوباما وترامب وبايدن الذين مكنوا جهاز الشرطة بمبالغ هائلة وصلت إلى مئات المليارات. وبذلك، لم تتخلَ الشرطة عن ممارساتها العنصرية وقوتها التي لا تفوت فرصةً لاستخدامها.في كتابه "المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن"، يتحدث الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عن السجون، ويذهب إلى السجون اللامرئية التي تغيب قضبانها، حيث يبدو المجتمع ككل خاضعاً لمراقبة السلطة. يشرح فوكو في هذا الكتاب أساليب العقاب الممارسة في السجون وتشريح السلطة التي تتيح لنفسها استخدام الوسائل الوحشية. وكما في السجون، حيث يخضع السجناء لأشد المراقبة، يمكننا من خلال هذا الفيلم أن نرى بوضوح كيف تراقب مؤسسات الأمن والشرطة المواطنين وتتبع مكالماتهم وتفتش جيوبهم، فالشرطة الأميركية زرعت كاميرات المراقبة في كل مكان، حتى أصبح الفضاء الخارجي كما لو أنه استديو ضخم يبث مباشرةً إلى رجال الشرطة.
العنصرية تلاحقني.. لكني تعبتُ من السفر
يقدم فورد تأطيراً فلسفياً في فيلم Power عن طريق مقابلة مع أستاذ فلسفة من جامعة إيموري، هو سامويل كاندلر دوبز، الذي يستعرض الأصول النظرية والمنطق الثقافي الآتي من أوروبا في التعامل مع السود، حيث يرى ديفيد هيوم أن السود يكررون الكلام وحسب، كالببغاوات، أما توماس جيفرسون فيقول إن الأسود ليس بإمكانه ابتكار فكرة خاصة، ولا يوجد لديه أي إبداع، بينما نفى هيغل أن يكون لدى الإنسان الأسود روح... كل هذا يرتبط بأصول ما نراه اليوم، فالميراث الفكري الأوروبي العنصري لا يزال سائداً، ويُعامل بشيء من التقديس. وبناءً عليه، رسم البيض بخيالاتهم بنية جسد الأسود، فغدا لون البشرة الأبيض معياراً للإنسانية، وكلما ابتعد المرء عن البياض قلّت إنسانيته وذكاؤه وبالتالي حقوقه. هذا العنف ذو جذور عميقة في التاريخ. والشرطة، نظراً إلى كونها جهازاً سلطوياً، تشارك في ترسيخه.