حكايات على مائدة العشاء

مهنتي في البيت ريموت

مهنتي في البيت ريموت


إذا كانت شغلة إسماعيل ياسين على المدفع بوروروم فكانت شغلتي في البيت ريموت، وهذا العمل تم اسناده لي وأنا في السادسة من عمري تقريبا عندما تمكنت من لف بكرة التليفزيون كان ماركة كاترون 21 بوصة أبيض وأسود وكانت القناتين الأولى والثانية يتم التنقل بينهما بواسطة بكرة، وبما أنني الأبن الأكبر والصالة مساحتها كبيرة، فكنت أقوم لنقل القناة حسب توجيهات الوالدين، وككل الموظفون كان عندي وقت للراحة لأن التليفزيون في السبعينيات كانت مواعيده من العاشرة صباحا للواحدة ظهراً ومن الرابعة عصراً إلى الثانية عشر ليلا، وكانت برامجه محددة ومشوقة مع أنها كانت بالأبيض والأسود

في هذه الحقبة الزمنية كانت البرامج هادفة لما فيها من وجبات ثقافية متنوعة، فكنت أتابع برامج الأطفال الموجهة للأطفال وليست من البرامج التى تتحدث عن الطفل فشتان بين الأثنين، عرفنا توم وجيري وبقلظ وماما سامية وماما نجوى وغيرهما ممن شاركوا في بناء أجيال نمى عندهم الخيال والقدرة على التأمل، ومن البرامج التى كانت الأسرة حريصة على متابعتها العلم والإيمان وبرنامج حياتي وما يعرضه من قضايا ممثلة درامياً وفي نهاية الحلقة تصل مقدمة البرنامج فايزة واصف مع الضيف لحل

كانت البرامج متنوعة وشيقة وكل يوم من أيام الأسبوع مخصص له برامج تناسبه، فيوم الأحد كان يوم مفتوح أي تتواصل فقراته مدة الظهير ة بدون انقطاع، ويوم الأربعاء كان برنامج اختارنا لك يحقق عدد كبير من المشاهدات وله رواده لتنوع فقراته وختامه بحلقة أجنبية مشوقة، وبرنامج نادي السينما الذي كان يشرح الفيلم ويتحدث عن أبطاله ويظهر مواطن القوة فيه فتعلمنا النقد السينمائي بدون دراسة أكاديمية من خلال مقدم البرنامج يوسف شريف رزق الله ومن هذه الأفلام الأسبوعية التى مدتنا بالمعرفة والثقافة العامة

كانت الأسرة معجبة جدا ببرنامج “عالم البحار” لـ لدكتور علي جوهر الذي تمكن من خطف المشاهدين بأسلوبه في التعليق وعرض الأفلام المصورة، كانت هذه البرامج تشد المشاهدين وتجعلهم أسرى للمعرفة والتعطش للفهم، وعلى القناة الثانية كان إبراهيم الكدواني بلغته الإنجليزية وأسلوبه الملفت للنظر ومظهره الذي يتماشى مع نوعية برنامجه حتى في تقديم نشرة الأخبار باللغة الإنجليزية، ما أجمل الخمس دقائق في حديث الروح قبل نشرة التاسعة، كانت وجبة دينية تشرح في عجالة وبأسلوب متزن أمور حياتية تحت مظلة الدين، عرفنا من خلالها عبد الله شحاتة ومحمد الميسر وأحمد صقر وغيرهم من علماء الأزهر لم ينسى التليفزيون السواد الأعظم من الشعب الذي لا يرى أم كلثم ولم يحضر حفلاتها، فكان يذيع بعض من حفلاتها يوم الخميس وتجلس الأسرة تستمع لأغانيها ولم يكن هناك انبهار بالموجودين في قاعة المسرح ولا يلفت نظرهم اللبس والشياكة والتزام السيدات بارتداء الملابس الجميلة والرجال بالبدل ورباط العنق، وعدم الانبهار طبيعي فلم يصل بنا الحال لمثل هذه الفترة التى يصعد المطرب فيها “بالفانلة” الداخلية وكلمات والحان دون المستوى وجمهور يقف طول الحفلة مرتدياً ملابس ممزقة بالتابعية شجعت النادي الأهلي وأنا لم أعرف أي لاعب من الفريق فقط شجعته لتشجيع والدي له، ومع الوقت ميزت بين اللاعبين وعرفت بعض الأسماء من كل نادي وأصبح عندي شغف بلعب الكرة، لم يكن والدي متعصب أو ممن يصيحون بتوجيه اللاعبين من خلال شاشة التليفزيون، عرفت أنه طبيعي جدا ومختلف عندما كبرت ورأيت عامة الناس وهم يشجعون يصرخون ويلعنون ويسبون في هذه اللحظة أدركت أن والدي كان يستمتع فقط، مع أن أثناء المباراة كانت أمي وأنا طبعا نرغب في مشاهدة برنامج أو فيلم على محطة أخرى،  والمعلقون أيضا كان لهم دور في عشقي للكرة أذكر  كابتن لطيف وعلى زيوار ومحمود بكر وإبراهيم الجويني وتعليق كل منهم له نمط مختلف ونبرة صوت مميزة وبعض المفردات الخاصة به، حتى أن بعض الفنانين اتخذوا منهم مادة لتقليد الصوت ضمن حفلات التليفزيون التى كانت تنظم على مدار الشهر أو الحفلات المرتبطة بالمناسبات مثل حفل الربيع
كنت سعيد بهذا العمل جدا وشعوري بأني مهم ولي دور فعال جعلني أستمتع بأن أكون ريموت كل مهمتي تغيير القناة، ومن التميز في الأداء كنت أترقب نهاية الفقرة وأنظر لوالدي منتظر الإشارة بالانطلاق نحو التليفزيون وتغيير المحطة، ومع الوقت زادت مهمتي وصارت عدد ساعات عملي أطول بوجود القناة الثالثة التى جاءت بالمنوعات وبرامج شبابية جديدة ولقاءات مع الجمهور في الشارع مما نالت استحسان الجمهور، صارت لدي خبرة كبيرة عندما أشترى والدي تليفزيون ملون وهذه المرة تحولت البكرة إلى عدد من مفاتيح تصل إلى عشرة مفاتيح أسفل بعضها بمجرد الضغط عليه تنقل المحطة وهذا كان يواكب افتتاح قنوات الصعيد والإسكندرية والقناة

مع وجود التليفزيون في البيت إلا أنه لم يمنعنا من الاستمتاع بالراديو، فكنا نستيقظ في الصباح على تلاوة القرآن الكريم بصوت الحصري أو المنشاوي وعرفنا عبد الباسط والطبلاوي وغلوش والبنا واستمعنا لآذان المغرب في رمضان والتففنا حول الراديو قبل الأفطار بنصف ساعة لنستمع لمدفع الأفطار والأذان من محمد رفعت والمسلسل الإذاعي المشوق الذي نمى عندنا التخيل ومنحنا القدرة على التمييز والإدراك، لقد أثر الراديو في جيلي جدا فكنا نذاكر على أستماع الراديو وكنا نتابع برنامج “شُبيك لُبيك “ وبرنامج “من أغرب القضايا “ وإذا عرفت الحل أتصل على  747120 إذاعة كان صوت المذيع يتماشى مع أحداث وهدف البرنامج، وأبلة فضيلة وحكاياتها مع الأطفال وأغنية المقدمة وبرنامج كلمتين وبس لفؤاد المهندس وأغنية شادية في الصباح الباكر وبرنامج همسة عتاب وصوت إيناس جوهر هذه المرحلة شكلت أجيال ومدتهم بالأخلاق والتمسك بالقومية الوطنية فكان التليفزيون يفتح ويغلق بالقرآن الكريم والسلام الوطني، كان هناك هوس في ترسيخ الانتماء والولاء حتى أن غلاف الكراس المدرسي كان يطبع عليه جدول الضرب وتوجيهات عن النظافة وحب المدرسة   لم تكن مهنتي في هذه السن مجرد ريموت فقط وإنما كنت موجه محترف لوالدي حين يصعد فوق سطح المنزل ويوجه الأيريال بعد أن يحدث اي تشويش على القنوات بعد كل مطر أو موجة هواء تحرك الساري، كنت أقف نصفي في المسقط والنصف الأخر بالصالة وعيني على التليفزيون واذني مع والدي الذي يبادرني “هيه خلاص جات” وأرد بشيء من الاشفاق عليه “لسه” ونستمر على هذا قرابة الساعة حتى أهلل بأن القناة تم ضبطها تماما متناسيا كلمات اليأس حركه يمين أرجع تاني وكنت أضحك جدا عندما اتذكر مشهد اسماعيل يس عنما كان يحلق للميت والممثل يقول له يمين شوية شمال شوية دانت غشيم قوي ، ويزداد ضحكي عندما أتذكر حين قال له أنت أكلت الميت أدركت أن مشاركة والدي لأي عمل سيمنحني القدرة على تحمل المسؤولية وإن كان بسيط وبلا فائدة، تعلمت أن أكون متأهب لنظرة والدي أو أمي بأن أمارس عملي البسيط جداً هو أن أكون ريموت، لم أذكر أنني ضجرت من هذا العمل وتأففت، كنت أعمله عن حب أو جاء الحب من فرط محبتي لطاعتهما والامتثال لرغباتهما حتى ولو في أبسط صور التعبير عن الحب والاحترام، فأبناء جيلي لم يتمكنوا من التعبير عن الحب بالكلمة بل كنا نعبر عنها بالطاعة العمياء واللهفة والاشتياق الواضح في عيوننا البريئة

Daftar Situs Ladangtoto Link Gampang Menang Malam ini Slot Gacor Starlight Princess Slot