رئيس الدولة ورئيس الوزراء البريطاني يبحثان هاتفياً التطورات الإقليمية
تصرف الأحزاب يختلف في الحكومة والمعارضة
إيطاليا: جيورجيا ميلوني والاتحاد الأوروبي...!
-- القلق الذي يحيط بحكومة ميلوني في إيطاليا كما في أوروبا له مبرراته، لكنه قائم على الأقوال وليس الأفعال
-- مشكلة جورجيا ميلوني ستكون الآن تحديد المصلحة الوطنية بشكل ملموس، في سياق معقد مثل سياق أوروبا
-- للحلفاء الأوروبيين مصلحة في الدخول في حوار جاد مع الحكومة الإيطالية الجديدة
-- مطالبة بفهم أنها لن تكون قادرة على متابعة مصالح أكبر دولة مثقلة بالديون في الاتحاد الأوروبي بدون المزيد من أوروبا
-- إن الخوف من أن تصبح الحكومة الإيطالية الجديدة المحرك الدافع وراء اندفاع اليمين السيادي في أوروبا سابق لأوانه
إذن، ترأست جيورجيا ميلوني حكومة يهيمن عليها اليمين الراديكالي، وهي الأولى منذ عام 1945 في أوروبا الغربية. وفي مواجهة أصعب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والدولية، لن يخشى الائتلاف الجديد الكثير من المعارضة المنقسمة في خضم أزمة هوية. بدلا من ذلك، تأتي الأخطار من داخله. ليس بسبب الخلافات السياسية، مع انها موجودة، على سبيل المثال، حول روسيا، بل من الإحباط والأزمة الوجودية للشريكين اللذين سحقتهما جيورجيا ميلوني في الانتخابات الأخيرة، رابطة ماتيو سالفيني وفورزا إيطاليا بزعامة سيلفيو بيرلسكوني. كما أن النمو السريع لحزبها فراتلي ديتاليا، من 4 إلى 26 بالمائة في أربع سنوات، يشهد أيضًا على التقلب الشديد للناخبين؛ وهذا مصدر آخر للهشاشة.
من الطبيعي أن تشعر العواصم الغربية والمؤسسات الأوروبية بالقلق لأن نجاح جورجيا ميلوني هو جزء من ظاهرة أوروبية أوسع تتمثل في صعود القوى الشعبوية اليمينية والقوى السيادية في أوروبا. لذلك من المفهوم أن يرى البعض في إيطاليا الجديدة “المختبر السياسي للشيطان”، كما كان الحال قبل قرن من الزمان. وهذا لا يعني تدخلا لا داعي له، اذ يحق لمؤسسات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء بشكل كامل الاهتمام بحالة الديمقراطية وسيادة القانون لدى الشركاء الآخرين، كما حدث في بولندا والمجر؛ وهذا منصوص عليه في المعاهدة.
في إيطاليا وأماكن أخرى، هناك بلا شك علامات وأشخاص يذكرون بالفاشية، لكن في الوقت الحالي هذه عناصر هامشية. إن الخوف من أن تصبح الحكومة الإيطالية الجديدة المحرك الدافع وراء اندفاع اليمين السيادي في أوروبا سابق لأوانه. مثل العائلات التعيسة عند تولستوي، تختلف الشعبوية بالتعريف عن بعضها البعض. في العالم الحقيقي، كل شخص قومي بطريقته الخاصة. وإذا كانت الجبهة الموالية لأوروبا تجد صعوبة في إنتاج فكرة متماسكة عن أوروبا، فإن الجبهة السيادية متحدة فقط في رفض أوروبا القائمة.
أخيرًا، نعلم أن الحزب لا يتصرف بالطريقة نفسها في الحكومة والمعارضة. ومقارنة إيطاليا في عهد جورجيا ميلوني ببولندا والمجر تبسيط من الأفضل تجنبه. باستثناء تقارب أيديولوجي ما، هناك أشياء كثيرة تفصل بينهم: التاريخ، والعضوية في اليورو، والموقع الجغرافي، ومستوى التطور. اختارت مدام ميلوني، ربما عن طريق الصدفة وليس عن قصد، أن تضع نفسها في أوروبا إلى جانب البولنديين في مجموعة “المحافظين الأوروبيين” وليس القوميين الموالين لروسيا الذين يهيمن عليهم ماتيو سالفيني ومارين لوبان.
وهكذا، فإن معسكرها في ستراسبورغ هو جزء من “أغلبية أورسولا” التي وافقت على انتخاب أورسولا فون دير لاين رئيسة للمفوضية، ثم روبرتا ميتزولا رئيسة للبرلمان، ولم يتم تهميشها في اللعبة البرلمانية. في النهاية، لا يعمل الاتحاد الأوروبي كدولة ديمقراطية برلمانية عادية ذات أغلبية وأقليات: إنه مجال للتحالفات المتغيرة، السياسية ولكن خاصة الوطنية، والتي يتم تشكيلها وفقًا للمشكلات. ومن الطبيعي أيضًا أن تقوم قوة سياسية معارضة في بلدها بتقييم الصلات السياسية والأيديولوجية في السياق الأوروبي. ومنذ لحظة انضمامها إلى الحكومة، سيصبح محاوروها المتميزون حكومات، بغض النظر عن ألوانها السياسية.
كل هذا سيكون له وزن أكبر إذا كانت هناك مفاوضات حول مستقبل الاتحاد الأوروبي، والتي من شأنها أن ترى مشاريع بديلة قائمة على القيم المتعارضة تواجه بعضها البعض. ولكن، على الرغم من أن الكثيرين يعتبرون أن مثل هذا النقاش ضروري، ويدعون إلى إصلاح المعاهدات، فإن هذا ليس هو الحال راهنا. المناقشات حول المبادئ العليا تنشّط قرارات البرلمان الأوروبي ووسائل الإعلام، وأحيانًا خطابات القادة، ولكن ليس بالضرورة الحياة اليومية للاتحاد الأوروبي. في الوقت الحالي، لا يزال الاتحاد الأوروبي عبارة عن بناء يتطور ويتقدم بطريقة براغماتية في رد فعل على التحديات التي يواجهها.
إن القلق الذي يحيط بحكومة ميلوني في إيطاليا، كما في أوروبا، له مبرراته، لكنه قائم على الأقوال وليس الأفعال. في السياسة، الكلمات، أو بالأحرى استخدامها البلاغي والخطابي، مهمة. والتعبيرات المميزة للثقافة السياسية التي جاءت منها جيورجيا ميلوني، مثل “احترام السيادة”، “الدفاع أخيرًا عن المصلحة الوطنية”، “أوروبا الأمم”، تم التعبير عنها، ولم يتم إنكارها، وهي مصدر قلق واضح في باريس وبرلين وبروكسل وأيضًا في عواصم أوروبية أخرى وكذلك في واشنطن.
ومن الصعب أن ننسى أن برنامجها يتضمن التأكيد على علويّة القانون الوطني على القانون الأوروبي... موقف لا يتوافق مع عضوية الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، فإن الحلفاء الأوروبيين لديهم مصلحة في الدخول في حوار جاد مع الحكومة الإيطالية الجديدة. في الوقت الحالي، لا يمكن لأحد أن يتنبأ بسياسة جيورجيا ميلوني الأوروبية. ان بعض أقوالها تتواصل مع ماريو دراجي، والبعض الآخر يعكس المزيد من الخطاب التقليدي. لذلك سيكون من المناسب الحكم على السيدة ميلوني بناءً على أفعالها وليس على أقوالها، لا سيما تلك التي قيلت في الماضي عندما كانت على رأس حزب أقلية. وبالنسبة لفرنسا، هذا هو الوقت المناسب لتفعيل جميع آليات التشاور المنصوص عليها في معاهدة كويرينال بحزم، ولكن دون تحيز. وكانت المقابلة التي أجريت هذا الأحد في روما بين جورجيا ميلوني وإيمانويل ماكرون بداية جيدة.
اعتبار أنّ السياسة الأوروبية لدولة ما يجب أن تسترشد بـ “المصلحة الوطنية” هو في النهاية سخيف تمامًا، مثل اكتشاف السيد جوردان أنه يتحدث نثرا. هذا لا يؤدي إلا إلى الإيحاء الجدلي بأن “السابقين” كانوا خاضعين لمصالح الآخرين. لكن مشكلة جورجيا ميلوني ستكون الآن تحديد المصلحة الوطنية بشكل ملموس، وهي عملية ليست واضحة دائمًا في سياق معقد مثل سياق أوروبا.
ستكتشف أيضًا أن هذا كان حال الذين سبقوها في روما. وستكتشف خاصة أن خصوصية الاتحاد الأوروبي تكمن في أنه في النهاية، السعي وراء المصلحة الوطنية يجب أن يأخذ في الاعتبار المصلحة الجماعية دائمًا. وما سيحسب لدور إيطاليا الميلونية في أوروبا لن يكون التصريحات المبدئية، بل الطريقة التي تعالج بها المشاكل الملموسة، بدءً بالمشكلات الأكثر إلحاحًا وأهمية.
إصلاح قواعد الميزانية وتنفيذ خطة التعافي الوطني والقدرة على الصمود: هاتان مسألتان مترابطتان، وهما أمران أساسيان لأنهما يشكّلان أيضًا السياسة الاقتصادية المحلية للحكومة المقبلة. ففي مواجهة التوترات الاجتماعية المتزايدة، ستتمثل مشكلتها الرئيسية في مقاومة الإغراء الشعبوي لتوجيه أصابع الاتهام إلى “أنانية الشركاء الأوروبيين”، و”غطرسة بيروقراطيي بروكسل”، وفهم أنها لن تكون قادرة على متابعة مصالح أكبر دولة مثقلة بالديون في الاتحاد الأوروبي بدون “المزيد من أوروبا».
قامت بحملتها بحذر حول الحسابات العامة، اقترحت السيدة ميلوني أنها قد أدركت أهمية هذه القضية. وأيا كان الخطاب الذي ستستعمله، فإن تعريفها لـ “المصلحة الوطنية” بشأن هذه القضايا، وبالتالي الأهداف التي تسعى إليها، من غير المرجح أن تبتعد كثيرًا عن تلك التي كانت سائدة في الحكومتين الأخيرتين، عندما كانت -هي في المعارضة. ويخلق هذا أيضًا تناقضًا، يجب حله، مع بعض الوعود الضريبية التي لا معنى لها والتي تم تقديمها خلال الحملة الانتخابية. يمكن للأسواق أن تكون أكثر قسوة من الدول، كما تعلمت ليز تروس في بريطانيا على حسابها.
وبنفس منطق المصلحة الوطنية، يجب على إيطاليا أيضًا أن تظل مؤيدة لبرنامج استثمار أوروبي جديد، تكون نتيجته الضرورية هي تقاسم أكبر، وليس أقل، للسيادة. في الوقت الحالي، يتمثل الخطر الرئيسي في المشكلة الإيطالية الأبدية المتعلقة بعمل آلة الدولة؛ في الحالة الحالية، التنفيذ العملي لخطة التعافي الوطني والقدرة على الصمود في مواعيد وقيود تجعل السياسيين الأكثر خبرة يرتعدون. وعلى المدى القريب، وحتى قبل معالجة القضايا المذكورة أعلاه، ستكون هناك مفاوضات أوروبية معقدة حول الطاقة وأسعار الغاز والتحول المناخي.
أوكرانيا وروسيا: على الرغم من الحالة المزاجية المحتملة لسالفيني وبرلسكوني، اللذان سيراهنان على النزوع السلمي لقسم من الرأي العام، لن تواجه جورجيا ميلوني مشكلة في البقاء على الخط الأطلسي الذي تنتمي إليه، حتى عندما يتعلق الامر بإرسال السلاح وتعزيز العقوبات. سيسمح لها ذلك بالحفاظ على علاقات جيدة مع واشنطن. ومع ذلك، ستطلب، مثل جميع الحكومات الإيطالية التي سبقتها، اهتمامًا أكبر من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي بالبحر المتوسط وأفريقيا.
العولمة ودعم التكنولوجيا في أوروبا: من وجهة نظر معينة، فإن تغيير حجم العولمة الذي نعرفه جميعًا يجعل الحياة أسهل بالنسبة لها. ومع ذلك، فإن الحمائية والقومية في الثقافة الميلونية من المرجح أيضًا أن تعبّر عن نفسها تجاه الاتحاد الأوروبي. ومن المحتمل أن يتسبب هذا في العديد من النزاعات، بدءً من عدائها لبيع شركة أليطاليا القديمة إلى منافس أوروبي (الخطوط الجوية الفرنسية أو لوفتهانزا)، ولكن بشكل عام فيما يتعلق بالسياسة الصناعية. ومن المأمول أن تستوعب ميلوني قريبًا حقيقة أن المصلحة الوطنية لإيطاليا هي مصلحة أمة كانت دائمًا تتمتع بميل للتصدير والتي تتكامل صناعتها بقوة مع بقية أوروبا، ولا سيما ألمانيا. ويجب أن تفهم أيضًا أن قواعد المنافسة الأوروبية تستفيد منها جميع البلدان التي، مثل إيطاليا، لديها هامش ميزانية منخفض.
القيم التقليدية وسيادة القانون والمشكلة البولندية والهنغارية: ستكون هذه مسألة صعبة في التعامل معها ومن المتوقع حدوث بعض الشرر. من ناحية أخرى، تدرك بروكسل وباريس وبرلين أن الأدوات المتاحة للاتحاد الأوروبي لمواجهة التجاوزات غير الليبرالية للسياسات الداخلية للدول الأعضاء تجعل من الصعب التدخل السلطوي. علاوة على ذلك، من المصلحة الاستراتيجية للجميع توسيع الفجوة التي خلقتها الحرب في أوكرانيا بين بولندا والمجر. وتتطلب المسألة صبرا استراتيجيا. لذلك سيكون من المستحسن أن تقتصر على عدد من علامات الصداقة التي لا مفر منها تجاه بولندا، مع تفادي الانخراط في المفاوضات بين المفوضية ووارسو... وهذا صحيح أكثر في حالة المجر.
الهجرة: فيما يتعلق بهذه المسألة الأساسية، لا يبدو أن اليمين ولا اليسار قادران على التعبير عن سياسة ذات مصداقية. هذا ينطبق على إيطاليا وكذلك على الدول الأوروبية الأخرى. لقد سبق أن وأدت ميلوني الفكرة المؤذية لـ “الحصار البحري”. وفي الحكومة، ستكتشف أنه لا يوجد أحد في أوروبا يؤيد الهجرة غير المقيدة، ولكن سيتعين عليها مواجهة واقع البحر المتوسط الذي لا يمكن السيطرة عليه إلى حد كبير، حيث تهدد كل مأساة بأن يكون ثقلها كأنها صخرة على سمعتها كـ “أم مسيحية”. وستكتشف قريبًا أن شعار “أوروبا التي تتركنا وشأننا” يتناقض مع حقيقة أن إيطاليا تستقبل مهاجرين أقل من جميع جيرانها تقريبًا؛ فالتوزيع الإلزامي للوافدين لا معنى له، إلا في ظل وجود تدفقات استثنائية مثل تلك التي شهدناها عام 2015. على العكس من ذلك، يمكن لأوروبا أن تلعب دورًا مهمًا من خلال تعزيز مراقبة الحدود وقنوات التفاوض بشأن اتفاقيات الهجرة أو الإعادة إلى الوطن مع البلدان الأصلية.
بالنسبة للبقية، فإن التحدي المتمثل في دمج المهاجرين الموجودين في الإقليم والذين، لأي سبب من الأسباب، لا يمكن إعادتهم إلى الوطن، يثقل كاهل الحكومات المختلفة؛ مهمة لا يبدو أن اليمين الإيطالي مستعدًا لها.
تستند الاعتبارات المذكورة أعلاه إلى افتراض أن جيورجيا ميلوني قادرة على التخلص من خطابها لتتصالح مع الواقع. هذا هو أحد أصعب التحديات التي يواجهها زعيم سياسي. وهنا نكون بحاجة إلى موهبة الرئيس الفرنسي الراحل ميتران. في هذه النقطة، تم تعليق الحكم على جيورجيا ميلوني وحكومتها الجديدة لأن خطابها راسخ في المسيرة السياسية لامرأة تحب أن تجعل تماسكها علامة على شخصيتها. وهكذا، فإننا نشهد بعض الإصرار على المظاهر اللفظية للسيادة، على سبيل المثال الاستخدام المستمر لكلمة “أمة”، أو تغيير اسم بعض الوزارات.
المفارقة بالنسبة لزعيمة انتصرت ملتحفة عباءة المصلحة الوطنية، هو أن نجاحها في أوروبا سيعتمد على قدرتها على فهم أن السعي الى هذه المصلحة يتطلب على وجه التحديد التخلي عن خطاب السيادة الذي بنت عليه ثروتها. بداية، إذا لم يكن بإمكانها توقع أي شيء تقريبًا من وارسو وبودابست، فستحتاج في المقابل إلى فرنسا وإسبانيا للتفاوض بشأن القواعد الأوروبية، وألمانيا التي تشترك معها إيطاليا في الأطلسي والميل للتصدير. وهو ما ذكّرها به ماريو دراجي بأدب في إحدى خطاباته الأخيرة.
في الوقت الحالي، يجب على جيورجيا ميلوني أن تحسب الانتظارات والمخاوف التي أثارتها؛ ليس لديها خبرة حقيقية في الحكومة، ناهيك عن كيفية عمل أوروبا الحقيقية. سيتوقف الكثير على فريقها. ومن هذا المنطلق، فإن قائمة الوزراء تثير ردود فعل متباينة. لئن يشاركها معظمهم افتقارها إلى الخبرة، فإن بعض الوزارات الرئيسية، مثل الاقتصاد والشؤون الخارجية والدفاع في أيدٍ صلبة ومطمئنة إلى حد ما. وبالنظر لقوة قوانينه وقواعده والاعتماد المتبادل بين الاقتصادات، أصبح الاتحاد الأوروبي مكانًا حيث أي تحد للمبادئ الأساسية للنظام يؤدي الى تكاليف سياسية واقتصادية باهظة للغاية... ومن مصلحة جيورجيا ميلوني إدراك ذلك بسرعة.
*مدير الدراسات في مدرسة الاقتصاد السياسي في الجامعة الدولية الحرة للدراسات الاجتماعية (روما)
-- مشكلة جورجيا ميلوني ستكون الآن تحديد المصلحة الوطنية بشكل ملموس، في سياق معقد مثل سياق أوروبا
-- للحلفاء الأوروبيين مصلحة في الدخول في حوار جاد مع الحكومة الإيطالية الجديدة
-- مطالبة بفهم أنها لن تكون قادرة على متابعة مصالح أكبر دولة مثقلة بالديون في الاتحاد الأوروبي بدون المزيد من أوروبا
-- إن الخوف من أن تصبح الحكومة الإيطالية الجديدة المحرك الدافع وراء اندفاع اليمين السيادي في أوروبا سابق لأوانه
إذن، ترأست جيورجيا ميلوني حكومة يهيمن عليها اليمين الراديكالي، وهي الأولى منذ عام 1945 في أوروبا الغربية. وفي مواجهة أصعب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والدولية، لن يخشى الائتلاف الجديد الكثير من المعارضة المنقسمة في خضم أزمة هوية. بدلا من ذلك، تأتي الأخطار من داخله. ليس بسبب الخلافات السياسية، مع انها موجودة، على سبيل المثال، حول روسيا، بل من الإحباط والأزمة الوجودية للشريكين اللذين سحقتهما جيورجيا ميلوني في الانتخابات الأخيرة، رابطة ماتيو سالفيني وفورزا إيطاليا بزعامة سيلفيو بيرلسكوني. كما أن النمو السريع لحزبها فراتلي ديتاليا، من 4 إلى 26 بالمائة في أربع سنوات، يشهد أيضًا على التقلب الشديد للناخبين؛ وهذا مصدر آخر للهشاشة.
من الطبيعي أن تشعر العواصم الغربية والمؤسسات الأوروبية بالقلق لأن نجاح جورجيا ميلوني هو جزء من ظاهرة أوروبية أوسع تتمثل في صعود القوى الشعبوية اليمينية والقوى السيادية في أوروبا. لذلك من المفهوم أن يرى البعض في إيطاليا الجديدة “المختبر السياسي للشيطان”، كما كان الحال قبل قرن من الزمان. وهذا لا يعني تدخلا لا داعي له، اذ يحق لمؤسسات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء بشكل كامل الاهتمام بحالة الديمقراطية وسيادة القانون لدى الشركاء الآخرين، كما حدث في بولندا والمجر؛ وهذا منصوص عليه في المعاهدة.
في إيطاليا وأماكن أخرى، هناك بلا شك علامات وأشخاص يذكرون بالفاشية، لكن في الوقت الحالي هذه عناصر هامشية. إن الخوف من أن تصبح الحكومة الإيطالية الجديدة المحرك الدافع وراء اندفاع اليمين السيادي في أوروبا سابق لأوانه. مثل العائلات التعيسة عند تولستوي، تختلف الشعبوية بالتعريف عن بعضها البعض. في العالم الحقيقي، كل شخص قومي بطريقته الخاصة. وإذا كانت الجبهة الموالية لأوروبا تجد صعوبة في إنتاج فكرة متماسكة عن أوروبا، فإن الجبهة السيادية متحدة فقط في رفض أوروبا القائمة.
أخيرًا، نعلم أن الحزب لا يتصرف بالطريقة نفسها في الحكومة والمعارضة. ومقارنة إيطاليا في عهد جورجيا ميلوني ببولندا والمجر تبسيط من الأفضل تجنبه. باستثناء تقارب أيديولوجي ما، هناك أشياء كثيرة تفصل بينهم: التاريخ، والعضوية في اليورو، والموقع الجغرافي، ومستوى التطور. اختارت مدام ميلوني، ربما عن طريق الصدفة وليس عن قصد، أن تضع نفسها في أوروبا إلى جانب البولنديين في مجموعة “المحافظين الأوروبيين” وليس القوميين الموالين لروسيا الذين يهيمن عليهم ماتيو سالفيني ومارين لوبان.
وهكذا، فإن معسكرها في ستراسبورغ هو جزء من “أغلبية أورسولا” التي وافقت على انتخاب أورسولا فون دير لاين رئيسة للمفوضية، ثم روبرتا ميتزولا رئيسة للبرلمان، ولم يتم تهميشها في اللعبة البرلمانية. في النهاية، لا يعمل الاتحاد الأوروبي كدولة ديمقراطية برلمانية عادية ذات أغلبية وأقليات: إنه مجال للتحالفات المتغيرة، السياسية ولكن خاصة الوطنية، والتي يتم تشكيلها وفقًا للمشكلات. ومن الطبيعي أيضًا أن تقوم قوة سياسية معارضة في بلدها بتقييم الصلات السياسية والأيديولوجية في السياق الأوروبي. ومنذ لحظة انضمامها إلى الحكومة، سيصبح محاوروها المتميزون حكومات، بغض النظر عن ألوانها السياسية.
كل هذا سيكون له وزن أكبر إذا كانت هناك مفاوضات حول مستقبل الاتحاد الأوروبي، والتي من شأنها أن ترى مشاريع بديلة قائمة على القيم المتعارضة تواجه بعضها البعض. ولكن، على الرغم من أن الكثيرين يعتبرون أن مثل هذا النقاش ضروري، ويدعون إلى إصلاح المعاهدات، فإن هذا ليس هو الحال راهنا. المناقشات حول المبادئ العليا تنشّط قرارات البرلمان الأوروبي ووسائل الإعلام، وأحيانًا خطابات القادة، ولكن ليس بالضرورة الحياة اليومية للاتحاد الأوروبي. في الوقت الحالي، لا يزال الاتحاد الأوروبي عبارة عن بناء يتطور ويتقدم بطريقة براغماتية في رد فعل على التحديات التي يواجهها.
إن القلق الذي يحيط بحكومة ميلوني في إيطاليا، كما في أوروبا، له مبرراته، لكنه قائم على الأقوال وليس الأفعال. في السياسة، الكلمات، أو بالأحرى استخدامها البلاغي والخطابي، مهمة. والتعبيرات المميزة للثقافة السياسية التي جاءت منها جيورجيا ميلوني، مثل “احترام السيادة”، “الدفاع أخيرًا عن المصلحة الوطنية”، “أوروبا الأمم”، تم التعبير عنها، ولم يتم إنكارها، وهي مصدر قلق واضح في باريس وبرلين وبروكسل وأيضًا في عواصم أوروبية أخرى وكذلك في واشنطن.
ومن الصعب أن ننسى أن برنامجها يتضمن التأكيد على علويّة القانون الوطني على القانون الأوروبي... موقف لا يتوافق مع عضوية الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، فإن الحلفاء الأوروبيين لديهم مصلحة في الدخول في حوار جاد مع الحكومة الإيطالية الجديدة. في الوقت الحالي، لا يمكن لأحد أن يتنبأ بسياسة جيورجيا ميلوني الأوروبية. ان بعض أقوالها تتواصل مع ماريو دراجي، والبعض الآخر يعكس المزيد من الخطاب التقليدي. لذلك سيكون من المناسب الحكم على السيدة ميلوني بناءً على أفعالها وليس على أقوالها، لا سيما تلك التي قيلت في الماضي عندما كانت على رأس حزب أقلية. وبالنسبة لفرنسا، هذا هو الوقت المناسب لتفعيل جميع آليات التشاور المنصوص عليها في معاهدة كويرينال بحزم، ولكن دون تحيز. وكانت المقابلة التي أجريت هذا الأحد في روما بين جورجيا ميلوني وإيمانويل ماكرون بداية جيدة.
اعتبار أنّ السياسة الأوروبية لدولة ما يجب أن تسترشد بـ “المصلحة الوطنية” هو في النهاية سخيف تمامًا، مثل اكتشاف السيد جوردان أنه يتحدث نثرا. هذا لا يؤدي إلا إلى الإيحاء الجدلي بأن “السابقين” كانوا خاضعين لمصالح الآخرين. لكن مشكلة جورجيا ميلوني ستكون الآن تحديد المصلحة الوطنية بشكل ملموس، وهي عملية ليست واضحة دائمًا في سياق معقد مثل سياق أوروبا.
ستكتشف أيضًا أن هذا كان حال الذين سبقوها في روما. وستكتشف خاصة أن خصوصية الاتحاد الأوروبي تكمن في أنه في النهاية، السعي وراء المصلحة الوطنية يجب أن يأخذ في الاعتبار المصلحة الجماعية دائمًا. وما سيحسب لدور إيطاليا الميلونية في أوروبا لن يكون التصريحات المبدئية، بل الطريقة التي تعالج بها المشاكل الملموسة، بدءً بالمشكلات الأكثر إلحاحًا وأهمية.
إصلاح قواعد الميزانية وتنفيذ خطة التعافي الوطني والقدرة على الصمود: هاتان مسألتان مترابطتان، وهما أمران أساسيان لأنهما يشكّلان أيضًا السياسة الاقتصادية المحلية للحكومة المقبلة. ففي مواجهة التوترات الاجتماعية المتزايدة، ستتمثل مشكلتها الرئيسية في مقاومة الإغراء الشعبوي لتوجيه أصابع الاتهام إلى “أنانية الشركاء الأوروبيين”، و”غطرسة بيروقراطيي بروكسل”، وفهم أنها لن تكون قادرة على متابعة مصالح أكبر دولة مثقلة بالديون في الاتحاد الأوروبي بدون “المزيد من أوروبا».
قامت بحملتها بحذر حول الحسابات العامة، اقترحت السيدة ميلوني أنها قد أدركت أهمية هذه القضية. وأيا كان الخطاب الذي ستستعمله، فإن تعريفها لـ “المصلحة الوطنية” بشأن هذه القضايا، وبالتالي الأهداف التي تسعى إليها، من غير المرجح أن تبتعد كثيرًا عن تلك التي كانت سائدة في الحكومتين الأخيرتين، عندما كانت -هي في المعارضة. ويخلق هذا أيضًا تناقضًا، يجب حله، مع بعض الوعود الضريبية التي لا معنى لها والتي تم تقديمها خلال الحملة الانتخابية. يمكن للأسواق أن تكون أكثر قسوة من الدول، كما تعلمت ليز تروس في بريطانيا على حسابها.
وبنفس منطق المصلحة الوطنية، يجب على إيطاليا أيضًا أن تظل مؤيدة لبرنامج استثمار أوروبي جديد، تكون نتيجته الضرورية هي تقاسم أكبر، وليس أقل، للسيادة. في الوقت الحالي، يتمثل الخطر الرئيسي في المشكلة الإيطالية الأبدية المتعلقة بعمل آلة الدولة؛ في الحالة الحالية، التنفيذ العملي لخطة التعافي الوطني والقدرة على الصمود في مواعيد وقيود تجعل السياسيين الأكثر خبرة يرتعدون. وعلى المدى القريب، وحتى قبل معالجة القضايا المذكورة أعلاه، ستكون هناك مفاوضات أوروبية معقدة حول الطاقة وأسعار الغاز والتحول المناخي.
أوكرانيا وروسيا: على الرغم من الحالة المزاجية المحتملة لسالفيني وبرلسكوني، اللذان سيراهنان على النزوع السلمي لقسم من الرأي العام، لن تواجه جورجيا ميلوني مشكلة في البقاء على الخط الأطلسي الذي تنتمي إليه، حتى عندما يتعلق الامر بإرسال السلاح وتعزيز العقوبات. سيسمح لها ذلك بالحفاظ على علاقات جيدة مع واشنطن. ومع ذلك، ستطلب، مثل جميع الحكومات الإيطالية التي سبقتها، اهتمامًا أكبر من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي بالبحر المتوسط وأفريقيا.
العولمة ودعم التكنولوجيا في أوروبا: من وجهة نظر معينة، فإن تغيير حجم العولمة الذي نعرفه جميعًا يجعل الحياة أسهل بالنسبة لها. ومع ذلك، فإن الحمائية والقومية في الثقافة الميلونية من المرجح أيضًا أن تعبّر عن نفسها تجاه الاتحاد الأوروبي. ومن المحتمل أن يتسبب هذا في العديد من النزاعات، بدءً من عدائها لبيع شركة أليطاليا القديمة إلى منافس أوروبي (الخطوط الجوية الفرنسية أو لوفتهانزا)، ولكن بشكل عام فيما يتعلق بالسياسة الصناعية. ومن المأمول أن تستوعب ميلوني قريبًا حقيقة أن المصلحة الوطنية لإيطاليا هي مصلحة أمة كانت دائمًا تتمتع بميل للتصدير والتي تتكامل صناعتها بقوة مع بقية أوروبا، ولا سيما ألمانيا. ويجب أن تفهم أيضًا أن قواعد المنافسة الأوروبية تستفيد منها جميع البلدان التي، مثل إيطاليا، لديها هامش ميزانية منخفض.
القيم التقليدية وسيادة القانون والمشكلة البولندية والهنغارية: ستكون هذه مسألة صعبة في التعامل معها ومن المتوقع حدوث بعض الشرر. من ناحية أخرى، تدرك بروكسل وباريس وبرلين أن الأدوات المتاحة للاتحاد الأوروبي لمواجهة التجاوزات غير الليبرالية للسياسات الداخلية للدول الأعضاء تجعل من الصعب التدخل السلطوي. علاوة على ذلك، من المصلحة الاستراتيجية للجميع توسيع الفجوة التي خلقتها الحرب في أوكرانيا بين بولندا والمجر. وتتطلب المسألة صبرا استراتيجيا. لذلك سيكون من المستحسن أن تقتصر على عدد من علامات الصداقة التي لا مفر منها تجاه بولندا، مع تفادي الانخراط في المفاوضات بين المفوضية ووارسو... وهذا صحيح أكثر في حالة المجر.
الهجرة: فيما يتعلق بهذه المسألة الأساسية، لا يبدو أن اليمين ولا اليسار قادران على التعبير عن سياسة ذات مصداقية. هذا ينطبق على إيطاليا وكذلك على الدول الأوروبية الأخرى. لقد سبق أن وأدت ميلوني الفكرة المؤذية لـ “الحصار البحري”. وفي الحكومة، ستكتشف أنه لا يوجد أحد في أوروبا يؤيد الهجرة غير المقيدة، ولكن سيتعين عليها مواجهة واقع البحر المتوسط الذي لا يمكن السيطرة عليه إلى حد كبير، حيث تهدد كل مأساة بأن يكون ثقلها كأنها صخرة على سمعتها كـ “أم مسيحية”. وستكتشف قريبًا أن شعار “أوروبا التي تتركنا وشأننا” يتناقض مع حقيقة أن إيطاليا تستقبل مهاجرين أقل من جميع جيرانها تقريبًا؛ فالتوزيع الإلزامي للوافدين لا معنى له، إلا في ظل وجود تدفقات استثنائية مثل تلك التي شهدناها عام 2015. على العكس من ذلك، يمكن لأوروبا أن تلعب دورًا مهمًا من خلال تعزيز مراقبة الحدود وقنوات التفاوض بشأن اتفاقيات الهجرة أو الإعادة إلى الوطن مع البلدان الأصلية.
بالنسبة للبقية، فإن التحدي المتمثل في دمج المهاجرين الموجودين في الإقليم والذين، لأي سبب من الأسباب، لا يمكن إعادتهم إلى الوطن، يثقل كاهل الحكومات المختلفة؛ مهمة لا يبدو أن اليمين الإيطالي مستعدًا لها.
تستند الاعتبارات المذكورة أعلاه إلى افتراض أن جيورجيا ميلوني قادرة على التخلص من خطابها لتتصالح مع الواقع. هذا هو أحد أصعب التحديات التي يواجهها زعيم سياسي. وهنا نكون بحاجة إلى موهبة الرئيس الفرنسي الراحل ميتران. في هذه النقطة، تم تعليق الحكم على جيورجيا ميلوني وحكومتها الجديدة لأن خطابها راسخ في المسيرة السياسية لامرأة تحب أن تجعل تماسكها علامة على شخصيتها. وهكذا، فإننا نشهد بعض الإصرار على المظاهر اللفظية للسيادة، على سبيل المثال الاستخدام المستمر لكلمة “أمة”، أو تغيير اسم بعض الوزارات.
المفارقة بالنسبة لزعيمة انتصرت ملتحفة عباءة المصلحة الوطنية، هو أن نجاحها في أوروبا سيعتمد على قدرتها على فهم أن السعي الى هذه المصلحة يتطلب على وجه التحديد التخلي عن خطاب السيادة الذي بنت عليه ثروتها. بداية، إذا لم يكن بإمكانها توقع أي شيء تقريبًا من وارسو وبودابست، فستحتاج في المقابل إلى فرنسا وإسبانيا للتفاوض بشأن القواعد الأوروبية، وألمانيا التي تشترك معها إيطاليا في الأطلسي والميل للتصدير. وهو ما ذكّرها به ماريو دراجي بأدب في إحدى خطاباته الأخيرة.
في الوقت الحالي، يجب على جيورجيا ميلوني أن تحسب الانتظارات والمخاوف التي أثارتها؛ ليس لديها خبرة حقيقية في الحكومة، ناهيك عن كيفية عمل أوروبا الحقيقية. سيتوقف الكثير على فريقها. ومن هذا المنطلق، فإن قائمة الوزراء تثير ردود فعل متباينة. لئن يشاركها معظمهم افتقارها إلى الخبرة، فإن بعض الوزارات الرئيسية، مثل الاقتصاد والشؤون الخارجية والدفاع في أيدٍ صلبة ومطمئنة إلى حد ما. وبالنظر لقوة قوانينه وقواعده والاعتماد المتبادل بين الاقتصادات، أصبح الاتحاد الأوروبي مكانًا حيث أي تحد للمبادئ الأساسية للنظام يؤدي الى تكاليف سياسية واقتصادية باهظة للغاية... ومن مصلحة جيورجيا ميلوني إدراك ذلك بسرعة.
*مدير الدراسات في مدرسة الاقتصاد السياسي في الجامعة الدولية الحرة للدراسات الاجتماعية (روما)