الغزو الروسي لأوكرانيا:

السابقة الجورجية تسلط الضوء على الأزمة الحالية

السابقة الجورجية تسلط الضوء على الأزمة الحالية

-- فازت روسـيا في النهاية بحق امتلاك قاعدة عسكرية وقوات متمركزة بشكل دائم في كل الجمهوريات الجديدة
-- في السـنوات الثماني الماضية، لم تكن العقوبـات كافية لدفع روسيا إلى التراجع، ولم تنجح في منع الغزو الحالي
-- وضعت حرب عام 2008 حداً لاحتمال انضمام تبليسي إلى الناتو في المستقبل القريب
-- بلغت التوترات بين الجورجيين والأوسيتيين ذروتها في نزاع مسلح ربيع عام 1991
-- يذكّر غزو روسيا لأوكرانيا بحجة قدومها لمساعدة جمهوريات دونباس الانفصالية بالحرب في جورجيا


    في 24 فبراير، دخل الجيش الروسي إلى أوكرانيا من الشرق والشمال والجنوب. كانت إحدى الاعتبارات الرئيسية التي تذرع بها فلاديمير بوتين في خطابه للأمة لتبرير هذا الهجوم هو الحاجة إلى حماية سكان جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، الذين هم منذ سنوات خارج سيطرة الحكومة في كييف -الحكومة التي تعتبرها موسكو أيضًا دمية في يد الغرب.
    إذا استبدلنا في الجملة السابقة دونيتسك ولوغانسك بأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وكييف بتبليسي، نجد عمليًا الوضع في أغسطس 2008، الذي شهد شن روسيا حربًا على جورجيا والاعتراف باستقلال الكيانين الانفصاليين.
   فما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه السابقة لتحليل الأزمة الحالية؟

ليس جديدا
   لنبدأ بتذكير موجز.
   كان الاتحاد السوفياتي مكونًا من خمس عشرة “جمهورية اشتراكية”. وضمت كل من هذه الجمهوريات كيانات من مختلف الرتب، وكانت أعلاها “جمهورية ذات حكم ذاتي».

   عندما تم تفكيك الاتحاد، الجمهوريات الاشتراكية الخمس عشرة التي شـــــكلته -روســـــيا ودول البلطيق الثلاث وبيلاروسيا وأوكرانيـــــا ومولدوفا على الجانب الأوروبي؛ أرمينيـــــا وأذربيجـــان وجورجيـــا في القوقــــاز؛ و “الستان الخمسة” في آســـــيا الوسطى -أصبحـــت دولًا مســــــــتقلة عديــــــدة، داخل حدودها زمن الاتحاد السوفياتي.
   في العهد السوفياتي، كانت جورجيا جمهورية اشتراكية. وكانت أوسيتيا الجنوبية، التي يسكنها الأوسيتيون، وهم شعب يختلف عن غالبية الجورجيين، جمهورية تتمتع بحكم ذاتي داخل جورجيا.

وبفضل تفكك الاتحاد السوفياتي، أعلنت استقلالها الذي لم تعترف به تبليسي (العاصمة الجورجية).
   نفذ زفياد جامساخورديا، على رأس جورجيا منذ عام 1990، سياسة قومية سرعان ما حرمت أوسيتيا الجنوبية من عناصر استقلاليتها النسبية في مواجهة تبليسي.
   وبلغت التوترات بين الجورجيين والأوسيتيين ذروتها في نزاع مسلح ربيع عام 1991.
 ومع انتخاب إدوارد شيفرنادزه رئيسًا لجورجيا في مارس 1992 ونشــــر قوة حفظ السلام -المكونة من الجورجيين والأوسيتيين والروس -بدأ الصراع يستقر.

   بالتوازي، في منطقة أبخازيا، وهي أيضًا جمهورية تتمتع بحكم ذاتي داخل جمهورية جورجيا الاشتراكية خلال فترة الاتحاد السوفياتي، اندلع صراع مماثل بين الأبخاز والجورجيين في أغسطس 1992. تحرّكت روسيا، وهنا أيضًا كوسيط، واتفق الأطراف الثلاثة على نشر قوة حفظ سلام ثلاثية ونزع سلاح منطقة الصراع. ومع ذلك، استمرت الحرب لعدة أشهر حتى تم التوقيع على وقف إطلاق نار جديد في 14 مايو 1994.
   في أوائل التسعينات، ورغم الاستقلال الجديد لجورجيا، كانت روسيا اذن، قادرة على نشر قوات في هذه المنطقة والحفاظ على وجود عسكري هناك، تحت ستار بعثات حفظ السلام.
 لكن في قمة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في اسطنبول عام 1999، اتفقت جورجيا وروسيا على إغلاق القواعد العسكرية الروسية الموجودة على الأراضي الجورجية بشكل دائم. وسيغادر الجنود الروس هذه القواعد، أخيرًا، في نوفمبر 2007.

الأزمة السياسية
   في 2003 و2004، مرت جورجيا بأزمة سياسية –”الثورة الوردية” -والتي تم بعدها استبدال الرئيس شيفرنادزه بميخائيل ساكاشفيلي، الذي سعى لانضمام جورجيا إلى الناتو والاتحاد الأوروبي.
   في موسكو، يُنظر إلى نقطة التحول هذه على أنها انقلاب نظمه الغرب لإقالة شيفرنادزه ووضع رئيس على رأس الحكومة الجورجية، يتجه بعزم نحو الهياكل الأوروبية الأطلسية (بعد عشر سنوات، ستظهر القراءة نفسها  من أحداث الميدان في أوكرانيا). في ذلك الوقت، أكد الممثل الروسي في الناتو، دميتري روجوزين، علانية أنه إذا حصلت جورجيا على فرصة حقيقية للانضمام إلى الحلف، فإن جمهوريتي أوسيتيا وأبخازيا ستعلنان على الفور استقلالهما.

   أغسطس 2008، بعد عدة اشتباكات بين الأوسيتيين والجورجيين، اندلع صراع جديد. تقدم الجيش الجورجي في أراضي أوسيتيا إلى أن تدخلت روسيا عسكريًا واشتبكت مع القوات الجورجية.
 قصف الجيش الروسي عدة بلدات جورجية بالقرب من الحدود مع أوسيتيا وسرعان ما دمر غالبية القوات البحرية في تبليسي وكذلك دفاعاتها المضادة للطائرات. في 12 أغسطس 2008، شن الأبخاز أيضًا هجومًا ضد القوات الجورجية في منطقة كودوري جورج.
   بعد 14 يومًا من بدء الأعمال العدائية، تعترف روسيا باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وسحبت موسكو بعد ذلك جنودها من باقي الأراضي الجورجية.

ومع ذلك، لا يزال الجيش الروسي موجودًا في أراضي أوسيتيا وأبخازيا.
   مكنت هذه الحرب في جورجيا الكرملين من تحقيق عدة أهداف.
 أولاً، من خلال هجومها على القواعد العسكرية والقوات الجوية والبحرية الجورجية، أضعفت روسيا إلى حد كبير القدرات العسكرية لتبليسي. واختبرت هذه الحملة أيضًا العلاقات بين الناتو وجورجيا، ووضعت حرب عام 2008 حداً لاحتمال انضمام تبليسي إلى الناتو في المستقبل القريب.
   فازت روسيا في النهاية بحق امتلاك قاعدة عسكرية وقوات متمركزة بشكل دائم في كل من الجمهوريات الجديدة، وبالتالي فإن وجودها العسكري في جورجيا مكفول.

من جورجيا إلى أوكرانيا، أوجه تشابه عديدة
   يمكن رسم أوجه تشابه كثيرة بين الحربين في جورجيا وأوكرانيا.
 ففي الحالتين، تدخلت روسيا على أراضي الجمهوريات السوفياتية السابقة، وشرّعت تدخلاتها بالحاجة إلى الدفاع عن أمن السكان الذين يدينون بالولاء لموسكو ضد الحكومة القائمة.
   من الناحية القانونية، تدعم روسيا تدخلها بحجج مماثلة للأسباب التي تذرع بها الناتو لقصف بلغراد عام 1999، والمساعدة في عملية استقلال كوسوفو.
 كما أوضح بيير جوليكور وأوريلي كامبانا بخصوص حرب جورجيا:
   «إنه أيضًا صراع نشأ أثناء عملية تفكك دولة شيوعية فيدرالية كان العرق فيها أحد المبادئ المنظمة للحياة السياسية. في كل من كوسوفو وفي الحالات الحالية في رابطة الدول المستقلة، تقع العلاقات بين المركز والأطراف في قلب الصراع:

قمع الحكم الذاتي السياسي من قبل السلطة المركزية هو مصدر الصراعات في كوسوفو وأوسيتيا الجنوبية..
 بينما الرغبة في زيادة الحكم الذاتي، ان لم يكن السعي للحصول على الاستقلال، هو مصـــــدر الصراعــــــات في أبخازيا».
   في خطابه يوم 18 مارس 2014 أمام مجلس الدوما الروسي، أكد فلاديمير بوتين أيضًا أن ما كان مسموحًا به للكسوفيين عام 1999 يجب أن يُسمح به لشبه جزيرة القرم وسكانها.

ومثل كوسوفو، يحق لشبه جزيرة القرم الحصول على اعتراف المجتمع الدولي باستقلالها. وكان قد رسم نفس المقارنة قبل بضع سنوات لتبرير اعتراف روسيا باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا.

    عام 1999، أثناء قصف صربيا، لم يكن لدى روسيا الوسائل الاقتصادية والعسكرية اللازمة لمعارضة الناتو. عام 2008 في جورجيا، و2014 ثم 2022 في أوكرانيا، ترغب موسكو في إثبات أنها، مجدّدا، قوة عظمى قادرة على الدفاع عمّا تعتبره مصالحها.
   ســـــــرعان ما توقفـت النزاعات في جورجيـــــا بســبب وقـــف إطـــــلاق النــــــار والمفاوضـــــــات الثلاثية التي جمعت تبليسي وموسكو وممثلي جمهوريتي أوسيتيا وأبخازيا. في أوكرانيا، بعد أكثر من عشرة أيام من الصراع والمفاوضات غير المثمرة، تبدو روسيا مصممة على مواصلة التدخل.

هل ستكون
 العقوبات كافية؟
   في أعقاب عمليات القصف الأولى التي استهدفت القواعد العسكرية والقوات الجوية والبحرية الأوكرانية، يبدو أن موســـــكو تريـــــــد على الأقل تحقيق الأهداف نفسها كما في جورجيا عام 2008..
 وهي المصادقة على خسارة الخصم لمنطقتين انفصاليتين، وتقليص قدراته العسكرية بشكل كبير للسنوات القادمة، والحصول على ضمانات طويلة المدى بشأن عدم عضويته اللاحقة في الناتو.
   وعلى عكس جورجيا، كان ردّ فعل المجتمع الدولي سريعًا على غزو القرم عام 2014 من خلال فرض عقوبات على روسيا. وردّ مرة أخرى في 24 فبراير 2022، يوم غزو أوكرانيا، من خلال فرض عقوبات جديدة أكثر صرامة.
   في السنوات الثماني الماضية، لم تكن العقوبات كافية لدحر روسيا، ولم تنجح في منع الغزو الحالي.
 وهذه المرة، من غير المستبعد أن تجبر شدة العقوبات الجديدة موسكو على السعي لحل على طاولة المفاوضات بدلاً من السلاح ...

*طالبة دكتوراة في تاريخ العلاقات الدولية، جامعة لوفان الكاثوليكية