انكسار الهيمنة الغربية.. هل يقود الخلاف الأوروبي الأمريكي لنظام عالمي جديد؟

انكسار الهيمنة الغربية.. هل يقود الخلاف الأوروبي الأمريكي لنظام عالمي جديد؟


يعيش العالم اليوم مرحلة حرجة، بعد عقود من الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ بدأت التوازنات العالمية تتغير بسرعة.
وتتزايد التوترات بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، في حين تتبوأ الصين موقع القوة الصاعدة التي تنافس الولايات المتحدة على النفوذ العالمي.
وفي هذا السياق، يطرح السؤال نفسه: هل نحن على أبواب ولادة نظام عالمي جديد، أم أن العالم سيدخل مرحلة أكثر تعقيداً وتعددية؟

مسارات لانهيار النظام العالمي
يستعير هال براندز، أستاذ العلاقات الدولية في مدرسة الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، تحليلاً تاريخياً للمؤرخ البريطاني بريندان سيمز، الذي يرى أن الأنظمة الدولية تنهار بثلاث طرق: الهزيمة في الحرب، الانهيار الاقتصادي، أو تآكل القواعد والمعايير. والمفارقة المخيفة اليوم هي أن الولايات المتحدة تواجه جميع هذه التهديدات معاً.
في المحيط الهادئ، يحذر الأدميرال صامويل بابارو، قائد القيادة الأمريكية للمحيطين الهندي والهادئ: «المسار يجب أن يتغير؛ الولايات المتحدة لا تستجيب بالإلحاح الذي يتطلبه التهديد».
وتبني الصين قواتها وتتدرب على خطط لمهاجمة تايوان، وتتسابق لبناء ترسانة نووية قد تضاهي، بل تتجاوز، الترسانة الأمريكية. وإذا خسرت الولايات المتحدة حربًا في المحيط الهادي، وهو احتمال قائم، فإن الضرر على النظام الأمريكي سيكون عميقاً. 

التحديات الاقتصادية القادمة
اقتصادياً، تواجه الولايات المتحدة تحديات غير مسبوقة. فالدين العام يقترب من نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وسيتجاوز قريباً نسبة 119% التي وصلت إليها في نهاية الحرب العالمية الثانية.
ويشير التحليل إلى أنه إذا أصبحت مستويات الإنفاق والضرائب المنصوص عليها في «مشروع القانون الكبير» الذي قدمه ترامب دائمة، فقد يتجاوز الدين العام 200% من الناتج المحلي بحلول عام 2050.
ويحذر هال براندز: «مع نمو الديون والعجز، ستزداد مدفوعات الفائدة وقد ترتفع تكاليف الاقتراض، مما يحد من النمو ويقلل من الإنفاق الدفاعي». والأسوأ من ذلك، أن الإسراف المستمر قد يقوض هيمنة الدولار، ويضعف القدرة الأمريكية على فرض العقوبات، ويضاعف كل المشاكل الاقتصادية الأخرى.
وهناك مشكلة الحمائية المفرطة. فحلفاء الولايات المتحدة يشتكون من أن التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب تجعل من الصعب زيادة الإنفاق الدفاعي.
وفي مؤتمر حضره براندز في طوكيو، كانت الموضوعات السائدة: «الصين تهدد أمن آسيا، بينما الولايات المتحدة تهدد ازدهار المنطقة».

نحو نظام متعدد الأنظمة
الدكتور سمير بوري، مدير مركز الحوكمة العالمية والأمن في تشاتام هاوس، يقدم تشخيصاً أعمق. في تحليله المنشور في سبتمبر 2025، يؤكد أن العالم يتجه نحو «نظام متعدد الأنظمة»، حيث تتعايش وتتفاعل أنظمة دولية متعددة، كل منها يقوم على قيمه وهوياته ومؤسساته الخاصة.
هذا النموذج يكسر مع الماضي ويفرض إعادة تقييم للدبلوماسية والحوكمة العالمية. ويشير بوري إلى أن «الرحلة نحو واقع أكثر تعقيداً ومزيجاً، حيث تتعايش رؤى وعروض مختلفة للحوكمة العالمية وفي بعض الحالات تندمج، قد بدأت للتو».

الصين كمثال للاستقرار
في الأول من سبتمبر 2025، استضافت الصين اجتماع «منظمة شنغهاي للتعاون بلس» في تيانجين، بحضور 20 زعيماً من مختلف أنحاء العالم غير الغربي، وقدم شي جين بينغ الصين كـ»مثال للاستقرار»، في وقت تتسم فيه السياسة الخارجية الأمريكية بالعكس تماماً، بسبب السياسات التجارية العدوانية لترامب وانسحابه من بعض المؤسسات متعددة الأطراف.
وقد أعلن شي عن «مبادرة الصين للحوكمة العالمية»، موضحاً أنها «مصممة لدعم الدور المركزي للأمم المتحدة في الشؤون الدولية بشكل راسخ». ويمكن تفسير هذا على أنه مزيج بين القديم والجديد: الصين تستمر في العمل من خلال منصات متعددة الأطراف القائمة، مع تقديم عروض جديدة خاصة بها.

أوروبا في مفترق طرق
بالنسبة لأوروبا أشار بورغي بريند، رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي، في ندوة IMD في أكتوبر 2025 إلى أن «أعلى تعريفة جمركية في العالم، في رأيي، هي عدم القدرة على التنبؤ». وأضاف أن «الولايات المتحدة لا تزال قوة عظمى، لكن ربما قوة عظمى بلا قوة حقيقية»، في إشارة إلى تجربة أفغانستان التي أظهرت حدود ومخاطر الحرب. بالنسبة لأوروبا، بريند متفائل: «أولئك الذين يستبعدون أوروبا يرتكبون خطأً. لدى أوروبا قدرة على الارتداد». لكنه حذر من أن الخطر الأكبر يتمثل في صعود التيارات الشعبوية. لكن كيشور محبوباني، الخبير السياسي، يذهب أبعد من ذلك، قائلاً إن الطريقة الوحيدة لاستعادة الموقع الجيوسياسي لأوروبا هي النظر في 3 خيارات «يصعب تصورها»: مغادرة حلف شمال الأطلسي، التفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو الانضمام إلى الصين.

«الترامبية» كمقاومة
 للتراجع الأمريكي
على العكس من ذلك يرى الحسن حزين، الباحث المغربي، أن «الترامبية» تمثل في جوهرها مقاومة لتراجع الهيمنة الأمريكية، وتتميز بـ4 عناصر: القومية الاقتصادية: إعطاء الأولوية لحماية الصناعات الأمريكية، السيادية: التأكيد على السيادة الوطنية ورفض التدخل الخارجي، الأحادية: تفضيل الإجراءات الأحادية ورفض قيود التعددية، المعاملاتية: اتباع نهج عملي موجه نحو النتائج.
ويحذر حزين من أن استراتيجية الولايات المتحدة لعزل الصين بالتقرب من روسيا قد تعزز، بشكل متناقض، القوى التصحيحية التي تتحدى المبادئ الأساسية للنظام الليبرالي.

يالطا 2.0 أم نظام عالمي جديد؟
يختتم براندز بتحذير: «ما سيأتي بعد نظام تم تشغيله بطريقة متنورة نسبياً من قبل قوة عظمى متنورة نسبياً، من المؤكد أنه لن يكون جيداً للعالم، أو لأمريكا، كما كان النظام الذي عرفناه منذ عام 1945».
السؤال الآن: هل نشهد ولادة يالطا 2.0، حيث تقسم القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين العالم فيما بينها؟ أم أن العالم يتجه نحو «نظام متعدد الأنظمة» أكثر تعقيداً، حيث تتعايش رؤى متعددة للحوكمة العالمية؟الدكتور بوري يقدم خلاصة واقعية: «إدخال مستقبل أكثر استقراراً للنظام العالمي سيكون مهمة جيلية. وخلال تلك الفترة، ستستمر مخاطر انعدام الأمن واندلاع المزيد من الحروب».