قد يكون مصدر هذا التقسيم نهر السين

باريس الشرقية، باريس الغربية: الانقسام السياسي الأبدي

باريس الشرقية، باريس الغربية: الانقسام السياسي الأبدي

- لقد مرت مائة وخمسون عامًا منذ أن صوت غرب باريس مثل الشرق، والارتقاء بمستوى العاصمة لم يغيّر شيئًا
- في انتخابات عام 1876، الدوائر التي حصد فيها اليمين 25 بالمائة من الأصوات وكأنّها الخريطة السياسية الحالية!
- لقد نجا هذا الانقسام من الحروب والاحتلال وموجات الهجرة المتتالية وتحولات الوجه الاقتصادي والاجتماعي للعاصمة
- لا يزال ناخبو اليمين متجذرين في أكثر الدوائر ثراءً، وتظل مناطق الشرق، الأقل ثراءً، متجهة لليسار

- ضواح تميل بوضوح إلى اليسار وأخرى تتّجه إلى اليمين

   نزهات جماهير الأحد في الغرب، التعبئة الاجتماعية في الشرق. هذه صورة كاريكاتورية، لكن التسلسل الانتخابي الأخير أكد في صناديق الاقتراع استمرار هذا الانقسام السياسي المثير الذي يتم فرضه على الجغرافيا الباريسية. في الانتخابات التشريعية الأخيرة، كانت كتل الاتحاد الشعبي والبيئي والاجتماعي الجديد من جهة، والنهضة من الجهة الأخرى متجانسة الى درجة أنها ألهمت، على الشبكات الاجتماعية، خريطة برلين الشرقية والغربية أثناء الحرب الباردة... طرافة كاشفة عن عالمين.
    يُحتمل أن يكون مصدر هذا التقسيم نهر السين. كان النهر يزوّد باريس منذ فترة طويلة، حيث تتدفق البضائع من المناطق الشرقية. و”كانت باريس، حتى الإمبراطورية الثانية، أكبر ميناء فرنسي”، يذكّر لوسيل دوبوي، المؤرخ المتخصص في باريس.

  هذا النهر المغذّي، كان يأتي بالمواد الخام التي يحتاجها تجار الخردة والحرفيون في منطقة سانت أنتوان، بينما يتم إنزال نبيذ بورجوندي بواسطة قوة عاملة وفيرة على أرصفة بيرسي.  استقر السكان الكادحون حول المحاور الرئيسية أو الأرضية. وكان “فاوبورغ سان دوني كان صناعيًا جدا لأنه يقع على طول الطرق الشمالية التي تزوّد باريس حتى لي هال”، يتابع المؤرخ.

مع هوسمان، التبرجز
   بينما يشارك الناس في النشاط الاقتصادي في الشمال الشرقي للمدينة، كان الأرستقراطيون والبرجوازيون يتطلعون إلى الغرب وغاباته الغنية بالطرائد والإقامات الملكية. أقام بلزاك منزله في ريف باسي، بينما استقر البرجوازيون الآخرون في أوتوي. في هذا الاتجاه، احتلت باريس هوسمان مساحة أكبر، مع بناء أحياء من الصفر، مثل تلك الموجودة في أوبرا أو إتوال، مساحات حضرية يتعذر على الطبقات العاملة الوصول إليها.
   لفترة طويلة، كان هناك مزيج اجتماعي ما بفضل المباني التي تضم، حسب الطوابق، جميع طبقات المجتمع. لكن في القرن التاسع عشر، كان هناك توزيع مكاني أوضح للطبقات الاجتماعية، مع الأحياء الأنيقة والأحياء الشعبية الأخرى.
   «كان وصول هوسمان علامة على تبرجز المدينة، يفكك ديشفير لوسيل دوبوي. يتمتّع سكان المباني السكنية الجديدة بوسائل الرفاه الحديثة، مع الماء والغاز، لكن الأثرياء فقط هم الذين يمكنهم السكن هناك ... باستثناء غرف الطابق العلوي، تحت العليّة، حيث لا تعيش أسرة فقيرة، وإنما المعينة المنزلية المسخّرة لخدمة من هم في الأسفل».  

جغرافيا حددتها الثورة الصناعية
   قامت الثورة الصناعية بتثبيت التقسيم الاجتماعي شرق-غرب والذي سبق رسمه: تم إنشاء المصانع بشكل رئيسي في شرق باريس، بالقرب من الطبقات العاملة ... ولعلّ لأسباب بيئية أيضًا. لأن الرياح التي تهب باتجاه الشرق ربما دفعت الأغنياء إلى الاستقرار في الغرب، ليحتموا من الهواء البائس بدخان المصانع.
   في روايته باريس، يصف إميل زولا، عام 1897، الفرق في الغلاف الجوي بين نصفي المدينة: “يبدو شرق المدينة بأكمله، احياء الفقر وأماكن العمل، مغمورًا بالدخان المحمر، حيث يمكن استنشاق أنفاس مواقع البناء والمصانع؛ بينما، في اتجاه الغرب، نحو مناطق الثروة والمتعة، تتلاشى كارثة الضباب، وتكون مجرد حجاب رقيق من البخار لا يتحرك».
   منذئذ، فقدت باريس ملابسها الصناعية، لكن المعارضة الثقافية باقية. بعيدًا عن أي إحصائيات، فإن التنزه البسيط يسمح بأخذ قياس الانقسام. عام 1977، أثار أستاذ العلوم السياسية جان رانجر “جغرافيا حضرية شبه حدسية يمكن لأي متجوّل فضولي أن يمارسها”. من جانب، غُطيت الجدران بملصقات جان لوك ميلينشون أو صور مجمّعة تندد بالسلطة الأبوية؛ وعلى الجانب الآخر، نجد الكارياتيدات الثابتة والبدلات وربطات العنق الخارجة من البنوك... من الثقافة إلى السياسة، هناك خطوة واحدة.

ترسيم راسخ
    كانت ثورات القرن التاسع عشر تختمر في وسط باريس وشرقها. حواجز أيام يونيو 1848 تحاصر شرق باريس في ذلك الوقت. في فجر الأسبوع الدموي، لم تواجه قوات فرساي، التي دخلت من جنوب الدائرة السادسة عشرة لسحق الكومونة، أي مقاومة صريحة في تلك الشوارع، التي لم تكن تميل كثيرا إلى دعم المتمردين. أثناء التقدم نحو وسط المدينة أصبحت المعارك حيّة وقاتلة.
   هذا الوضع السياسي، أكده صندوق الاقتراع كما حلله جان رانجر. في انتخابات عام 1876، كانت المقاطعات التي حصد فيها اليمين “الملكي حينها والأقلي” على الأقل 25 بالمائة من الأصوات، واقعة في الدوائر السابعة والثامنة والسادسة عشرة بالكامل، وفي معظم الدائرة السادسة، وفي جزء كبير من الدائرة السابعة عشرة والاولى والتاسعة. وباستثناء الدائرة الخامسة عشر، يبدو وكأننا فعلا امام الخريطة السياسية الحالية!
   وبالمثل، فإن نتائج اليسار عام 1936 “أكثر من 60 بالمائة من الأصوات” رسمت خطوطًا قريبة من تلك المؤيدة لفرانسوا ميتران في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية لعام 1974. أخيرًا، أقرت التشريعية الأخيرة هذا التقسيم بهلال من الدائرة الثامنة عشرة إلى الدائرة الرابعة عشرة، والتي أرسلت حصريًا إلى مجلس النواب مرشحي الاتحاد الشعبي والبيئي والاجتماعي الجديد.
   بعد مائة وخمسين عامًا، اخترقت هذه الجغرافيا الانتخابية أعمال ما بعد هوسمان، والتي أعادت تشكيل باريس في بداية الجمهورية الثالثة. لقد نجا هذا الانقسام من الحروب والاحتلال وموجات الهجرة المتتالية وتحولات الوجه الاقتصادي والاجتماعي للعاصمة. تقلص عدد السكان من الطبقة العاملة، وانفجر عدد الكوادر، وأصبحت المدينة قطاع خدمات، وتم استبدال العاملين لحسابهم الخاص بالموظفين، وفقد إجمالي السكان 700 ألف نسمة منذ عام 1930، لكن كل هذا لم يؤثر: هذا الخط من ترسيم الحدود باق، فكيف نفسّر هذا الثبات في المشهد السياسي؟

البرجوازية الموروثة، البرجوازية الإبداعية
   أولاً، إذا كانت باريس قد تميزت بتبرجز قوي، مع ارتفاع مذهل في أسعار العقارات الذي لم تسلم منه أحياء الطبقة العاملة في الشرق، فإن أعلى متوسط للدخل لا يزال يتركز في الغرب ووسط المدينة. وعلى العكس من ذلك، في الشرق “خاصة في الشمال الشرقي” من العاصمة، تتركز جيوب الفقر المتبقية، والأحياء ذات الأولوية لسياسة المدينة، ومعدلات الإسكان الاجتماعي المرتفعة.
   اذن، لم يمحو تبرجز شرق باريس التفاوتات في الدخل مع الغرب. “لا يزال الناخبون اليمينيون متجذرين في أكثر الدوائر ثراءً. وتظل مناطق الشرق، الأقل ثراءً، متجهة إلى اليسار”، يشدّد الباحث ماثيو غالارد، مدير الدراسات في إبسوس.
   ثم، إذا كان عدد كبير من الكوادر يعيشون الآن في باريس الشرقية، ومنطقة مثل الحي الحادي عشر تقدم العديد من زخارف “الاحياء الجميلة”، فإن هذه البرجوازية مميزة. “إلى الشرق من باريس، يعيش كوادر مرتبطون بالمهن الثقافية والمهن الفكرية والمدرّسين وما إلى ذلك”، يشرح ماثيو غالارد. قام الجغرافي الأمريكي ريتشارد فلوريدا بتجميعهم في “الطبقة الإبداعية”، القريبة من طبقة “البوبو” الفرنسية.
   « لم يكن لهذه البرجوازية الوسائل للذهاب إلى غرب العاصمة الذي، علاوة على ذلك، لم يكن بالضرورة مرغوبا جدا بالنسبة لها”، يتابع مستطلع الآراء. تتكون برجوازية غرب باريس، الموروثة أكثر، من عدد أكبر من كوادر القطاع الخاص أو من المهن الليبرالية. وظائف لا تروّج لنفس القيم –ويؤثر ذلك على الاختيار داخل خلوة التصويت.

الموروثات السياسية للأحياء
   أخيرًا، بعيدًا عن الحياد، تحمل الفضاءات أجواء خاصة. جو حيّ ما يساهم في تشكيل رأي الناخب، سكانه يستوعبون الوافدين الجدد، الذين يمكن ان ينتقلوا من معسكر إلى آخر أو جعل تصويتهم راديكاليا. أظهرت الدراسات التي أجريت بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، أن العامل الذي يعيش في منطقة شعبية يصوت للشيوعيين أكثر مما إذا كان يعيش في منطقة برجوازية.
   وعلى الرغم من انخفاض عدد السكان العاملين بين 1954 و1975، فقد تم الحفاظ على التصويت الشيوعي في مناطق الطبقة العاملة، مما دفع عالم الاجتماع دومينيك ميرلي إلى القول إن “التقاليد السياسية المحلية استمرت في التأثير على أصوات السكان رغم تجدّدهم بقوة”. حتى أن جان رانجر ربط السلوك الانتخابي بـ “التضاريس التي شكلها الإنسان على مدى تاريخ طويل».
   من الواضح أن السكان قد يتغيرون ويختلطون، ويبقى، على اليسار خصوصا ، أعمال ومنظمات جماهيرية وأحزاب تنقل التراث السياسي لمنطقة ما. إن تعبئة الاتحاد الشعبي والبيئي والاجتماعي الجديد، التي اجتاحت إلى حد كبير شرق باريس خلال الانتخابات التشريعية، هي مثال على ذلك. “في بعض الدوائر المحورية، مثل الدائرة الخامسة، والتي تنتقل بسهولة من اليمين إلى اليسار، لا يوجد تأثير الانجذاب هذا، لأن هذه الأحياء أكثر توازناً من الناحية السياسية”، يثري ماتيو غالارد.
   ان هذا التقسيم السياسي والثقافي في باريس، يمتدّ إلى ما وراء الطريق الحزامية، ويقسّم أيضًا الضواحي الداخلية.
تميل الضواحي الشرقية والشمالية بوضوح إلى اليسار، في حين أن الضواحي الواقعة إلى الغرب من باريس راسخة بقوة على اليمين. “في هذه المناطق، نجد نفس التركيبة السكانية كما في باريس،
لكن خصوصياتهم تتزايد. في الضواحي الغربية، ربما يلعب التأثير الكاثوليكي دورًا أكبر، بينما في الضواحي الشمالية الشرقية، أقل بوبو وأكثر شعبية”. وهكذا تؤكد الضواحي الاتجاهات الباريسية بتفاقمها.

*مؤلف كتاب “حروب اللغات -لم تقل الفرنسية كلمتها الأخيرة” “منشورات فرانسوا بورين، 2019»