بين لندن وواشنطن.. خرائط جديدة لتسوية الحرب الروسية الأوكرانية

بين لندن وواشنطن.. خرائط جديدة لتسوية الحرب الروسية الأوكرانية


بدت قمة لندن حول مسار الحرب الروسية الأوكرانية منعطفاً سياسياً أعاد ترتيب أولويات العواصم الغربية، فحضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وإعلانه خطة سلام «معدّلة» من عشرين بنداً، ترافق مع نقاشات مكثّفة حول مستقبل الحرب وموقع كييف داخل حسابات الغرب.  التحوّل الأكثر وضوحاً جاء من طبيعة اللغة الدبلوماسية المستخدمة في القمة، والتي عكست شعوراً متزايداً داخل أوروبا بأن الصراع يتّجه إلى مرحلة تتطلّب إعادة ضبط، بدل الإبقاء على إيقاع الاستنزاف المفتوح.
في هذا السياق، يتضح أيضاً أن زيارة وزيرة الخارجية البريطانية، إيفيت كوبر، إلى واشنطن تأتي كخطوة متصلة ضمن تبلور مسار جديد قائم على صياغة مقاربة مشتركة بين لندن وواشنطن تُمهِّد، وفق ما أفادت به مصادر «إرم نيوز»، لمرحلة سياسية تتجاوز منطق الدعم المفتوح نحو «إدارة مضبوطة» للحرب.
خطة السلام التي تحدث عنها زيلينسكي لا تزال غير معلنة رسمياً، لكن المؤشرات المتاحة توضح أنّ كييف دخلت مرحلة مختلفة في التعاطي مع المسار السياسي.
حذف البنود التي وصفها الرئيس الأوكراني بأنها «غير مقبولة» يشير إلى نقاش شاق جرى بين الوفد الأوكراني وشركائه الغربيين حول ما يمكن تسويقه سياسياً داخل أوكرانيا، وما يمكن الدفاع عنه ضمن الأطر الأمنية الأطلسية.

هندسة المسار السياسي
وفق دبلوماسي بريطاني رفيع اطّلع على مسار المناقشات في لندن، فإن «تعديل الخطة ليس نهائياً ولن يكون تنازلاً لأحد، بل هو محاولة لبناء أرضية قابلة للحياة، تُتيح الانتقال من مأزق الحرب المفتوحة إلى لحظة سياسية جديدة». 
ويضيف الدبلوماسي خلال حديثه لـ»إرم نيوز» أنّ «التحدّي اليوم يتمثل في إيجاد معادلة تجمع بين ضرورات الأمن الأوروبي وقدرة كييف على الصمود دون كسر».
هذا التصريح يعكس بوضوح أن لندن تدرك خطورة أي عملية سياسية إذا جاءت على حساب التوازن الدقيق بين الأمن الأوروبي وواقع الميدان، فالخطة المعدّلة ليست نهاية للمسار، إذ قد تكون بداية لمرحلة مفاوضات أطول وأكثر تعقيداً.
وأظهر اجتماع لندن أن بريطانيا تتحرك لاستعادة موقع قيادي داخل المعادلة الأوروبية، خصوصاً في ظل تراجع الحضور الفرنسي في النقاشات الاستراتيجية حول أوكرانيا.  لذا فقد دلّل دخول لندن على خطّ بلورة المقاربة الغربية الجديدة على رغبة بريطانية في لعب دور «الضابط السياسي» للعلاقة بين واشنطن وكييف، ولتوحيد الموقف الأوروبي المتباين.
وتعليقاً على هذا التحول، يقول المصدر البريطاني ذاته إن «المسؤولية التاريخية لبريطانيا في الأمن الأوروبي تجعل من الطبيعي أن تتقدّم في هذه المرحلة الحساسة. نحن لا نحلّ مكان أحد، بل نعمل على تجنيب أوروبا مساراً قد يصبح أكثر كلفة إن لم يُدر بواقعية».
هذا التوصيف يوضح أن لندن تتحرك من موقع «الحاجة» أكثر منه من موقع «الطموح السياسي» فكل تأخر في ضبط إيقاع الحرب يعني عبئاً إضافياً على كل العواصم الأوروبية.

موقف واشنطن
من ناحيتها تتعامل الولايات المتحدة مع الحرب من زاوية مختلفة، فقد بات واضحاً أن الإدارة الأمريكية لم تعد تنظر إلى الصراع باعتباره مواجهة يمكن إدارتها بالمنطق القديم.  وتسرّبت في الأسابيع الماضية إشارات متعددة عن ضيق واشنطن بالمشهد العسكري والسياسي، ما دفعها إلى البحث عن صيغة أكثر صرامة وأقرب إلى حسابات «الاحتواء طويل الأمد» بدل السعي إلى انتصار عسكري مباشر. مصدر دبلوماسي في واشنطن، تحدّث لـ»إرم نيوز» مؤكداً أنّ «الوقت ليس مفتوحاً إلى ما لا نهاية، ونحن بحاجة إلى مقاربة تمنع مزيداً من التصعيد، وتمنح أوكرانيا القدرة على الصمود، دون أن ندخل في مسار استنزاف يرهق شركاءنا الأوروبيين». 
وأضاف أنّ «التنسيق مع بريطانيا في هذه المرحلة بالغ الأهمية، لأنه يمنح المقاربة الغربية انسجاماً أكبر في وجه سياسة روسية متغيّرة».
هذا التعليق الأمريكي يكشف أن واشنطن تنظر إلى زيارة وزيرة الخارجية البريطانية بوصفها خطوة نحو بناء تفاهم عملي حول مستقبل الدعم لأوكرانيا، وتأطير الحرب ضمن استراتيجية يمكن التحكم بتداعياتها.

انقسام أوروبي
ورغم اتفاق القادة في لندن على دعم كييف، تبقى أوروبا في حالة انقسام داخلي حول ما يجب القيام به، فالدول الشرقية تخشى أي تسوية فضفاضة تترك موسكو قادرة على إعادة الهجوم، والدول الغربية تواجه ضغطاً اقتصادياً وسياسياً يجعل استمرار الحرب بلا أفق خياراً مكلفاً، بحسب المصدر البريطاني. 
أما ألمانيا، فتبدو الأكثر حذراً، فيما فرنسا تعيد حساباتها بعد فشل مبادراتها السابقة في خلق مسار سياسي واضح. 
هذا التردد الأوروبي يعزّز أهمية الدور الأمريكي–البريطاني المشترك، إذ يشكلان الثقل السياسي الوحيد القادر على دفع الأوروبيين نحو مقاربة موحدة.
المشهد السياسي بعد قمة لندن يشير إلى أن الغرب لا يبحث حالياً عن «نهاية كلاسيكية» للحرب، بل عن تسوية هجينة تجمع بين وقف التدهور العسكري، ومنع موسكو من فرض شروط قاسية، وتثبيت خطوط تفاوض قابلة للحياة.
هذه «التسوية المقيّدة»، وفق تعبير المصدر الدبلوماسي الأمريكي، ليست انتصاراً لأحد، لكنها محاولة لكبح تراكمات الحرب عبر آلية سياسية تضمن استقراراً نسبياً، وتتيح إعادة تنظيم الأمن الأوروبي على مدى السنوات المقبلة.

مقاربة أوكرانية
من جانبه يرى المحلل الاستراتيجي الأوكراني، ميخايلو هورباتش، أنّ ما يجري اليوم ليس مؤشراً على تخلي الغرب عن أوكرانيا، وإنما هو محاولة لصياغة إطار سياسي يحمي الدولة الأوكرانية على المدى الطويل، في ظل تغيّر موازين القوى والقدرات المتاحة. 
ويعتبر خلال حديثه لـ»إرم نيوز» أن تعديل خطة السلام في لندن كان إشارة إلى إدراك كييف بأن الحرب لا يمكن أن تستمر بمنطق الأعوام الأولى نفسه، وأن الحفاظ على استقرار الدولة يتطلب الانتقال إلى مسار سياسي يخفف الضغط العسكري والاقتصادي. ويضيف أنّ «منع الانهيار لا يتحقق فقط عبر السلاح، بل عبر صياغة ترتيبات تمنع روسيا من استغلال أي فراغ سياسي أو أمني».   ويشدد الخبير على أنّ المسار الجديد لا يهدف إلى فرض تنازلات قسرية، وإنما إلى تدوير الحرب داخل إطار تفاوضي يُبقي أوكرانيا ممسكة بأوراقها الأساسية، مع تقليص مساحة المخاطرة. ويخلص هورباتش إلى أن أوكرانيا ترغب في إنهاء الحرب، لكن «إنهاء الحرب بطريقة صحيحة» يتطلب ضبطاً دقيقاً للخطوات السياسية المقبلة.

إطار براغماتي
بدوره اعتبر الباحث الأمريكي آرون كيلر، المتخصص في السياسات الدفاعية، خلال حديثه لـ»إرم نيوز» أنّ واشنطن تتحرك حالياً ضمن إطار براغماتي هدفه منع الوصول إلى نقطة استنزاف لا يمكن إدارتها، سواء لأوكرانيا أم لأوروبا أم حتى للولايات المتحدة. وبرأيه، فإنّ «نظرية الانتصار الحاسم» لم تعد ممكنة في الحرب الأوكرانية بالشكل الذي بدا مطروحاً في أعوامها الأولى، وأن الســـــــــياسة الأمريكية اليوم تميل إلى نمــــــوذج «الاحتـــــواء المســتدام»، أي خلق بيئـة تفاوضية تضبط التصعيد وتمنــــع روســــــــيا من تحقيق مكاسب استراتيجية طويلة الأمد دون الذهـــــــاب إلى مواجهة مباشرة.

ورأى كيلر أن زيارة وزيرة الخارجية البريطانية إلى واشنطن تأتي ضمن سلسلة خطوات متتابعة لإعادة صياغة السياسة الغربية في اتجاه «وقف تدريجي» لا يُعلن كنهاية رسمية للحرب، وإنما يتحقق عبر مزيج من الضغط السياسي والترتيبات الأمنية واستثمار التحولات التي أظهرتها قمة لندن.
وأكد كيلر أن هذا النوع من التسويات لا يصنع سلاماً فورياً، لكنه يصنع إطاراً يمكن البناء عليه لمنع انهيار أوسع، وهو ما تعتبره واشنطن اليوم أولوية استراتيجية تتقدم على الرغبة في تغيير جذري في خرائط النفوذ.