تركيا القرن الحادي والعشرين... مشروع فاشل ومقسّم

تركيا القرن الحادي والعشرين... مشروع فاشل ومقسّم


يرى البروفيسور التركي محمد إيف كمان، أن تركيا القرن الحادي والعشرين، جمهورية فاشلة، مُقسمة غير مُتجانسة، ولا يُمكنها أن تخطو نحو التحديث، ولا تحترم حقوق الإنسان، أو الحريات، لها تصنيف ضعيف فب التنمية البشرية، وهي من أسوأ الدول في المساواة بين الجنسين، وغارقة في الفساد والجريمة المُنظمة.
وسأل ايف كمان، في سرد تاريخي على منصة “بوليتركو” الإلكترونية، عن مدى نجاح الجمهورية التركية التي تأسست على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، وهل هي ناجحة منذ البداية؟».

وللإجابة على هذه الأسئلة، اعتبر أنه يجب “تقييم الحالة الجديدة، كيف صُممت؟ أهدافها؟ ما تحقق من هذه الأهداف؟».
كانت الإمبراطورية العثمانية دولة متعددة الجنسيات والأديان وعالمية. من ناحية أخرى، كانت الجمهورية التركية مشروعاً لبناء دولة قومية يقبل في العرق الواحد كأمة، تتظاهر بالحداثة أو أنها ستُصبح حديثة.
وعند سقوطها في 1922، كانت الإمبراطورية العثمانية ملكية دستورية، بعبارة أخرى، كانت ملكية دستورية شبه ديموقراطية. قوض العثمانيون المؤسسات الديموقراطية بإنقلاب ونظام ديكتاتوري مستبد.

حافظت الجمهورية التركية على هذا الإرث، فلم تُحاول بناء دولة ديموقراطية، وتبنت موقفاً إصلاحياً استبدادياً في الركائز الأساسية للنظام الجديد. استبدل حزب الاتحاد والترقس، بحكم الحزب الواحد الممثّل في حزب “الشعب الجمهوري».
وأصبح هناك قائد واحد بدل الباشوات الثلاثة. لذلك، تكون النظام السياسي ذاته، رغم تطوّر النظام من ملكي إلى جمهورية.
تضاءلت الأقليات غير المُسلمة في آسيا الصغرى، ورُفضت الهوية الكردية، وتحول استيعاب الأكراد إلى سياسة دولة. وكان يُنظر إلى “الإسلام الشعبي”، المصطلح الذي ابتكره عالم الإجتماع التركي شريف ماردين للإسلام الصوفي الذي كان له هيكل تنظيمي مستقل نسبياً عن الدولة، على أنه أداة للموقف العلماني.

وصمم هذا الجانب في الإسلام ليكون خادماً مخلصاً للقومية التركية والدولة. وغيّب العلويون والشافعيون، وحاولوا استيعابهم لإيجاد البيئة الدينية المرغوبة.
وفقاً لـ “الكماليين” نسبة إلى الأيديولوجية التأسيسية للجمهورية التركية التي اعتمدها مصطفى كمال أتاتورك، فإن الإسلام العالمي كان ضد هيكل الدولة القومية، ولهذا السبب ابتكروا “إسلاماً تركياً” بعد تطهيره من العرب.
وأسست الجمهورية التركية ديناً جديداً أصبح تحت سيطرة الدولة. ولأن السياسة كانت متفوقة على المنظّمات الدينية منذ الإمبراطورية العثمانية كان يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها “شرعية”. ونتيجة لذلك، تصالح الدين مع الدولة، وأصبح مجرد وسيلة لتبرير الإصلاحات “الكمالية”. نظروا إلى المُنحرفين عن هذا الدين العلماني والمتّسق مع الدولة بـ “الرجعيين”، لملاحقتهم.

وهكذا أصبحت هناك أمة واحدة صممتها الدولة وبنتها، ودين واحد هو “الإسلام السني الرسمي”، الذي صمّمته واستغلّته الدولة، والجمهورية الحديثة غير الديموقراطية، وأُدمجا لبناء الجمهورية التركية.
اليوم، لا يُمكن النظر إلى التحديث التركي على أنه ناجح، لأن الهدف من التحديث كان الوصول إلى مستوى معين من التنمية الموجودة في الغرب.
في الواقع، كان تحديث تركيا في الثلاثينيات يتماشى مع الأنظمة الفاشية في بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، التي كانت قائمة على ديكتاتوريات الحزب الواحد. ولكن عندما خسرت الفاشية الحرب العالمية الثانية، بدأت الحضارة المُعاصرة تتمثّل في اقتصاديات السوق الديموقراطية مُتعدّدة الأحزاب.

ورغم أن تركيا حاولت أن تتماشى مع هذا التطوّر، بالسماح بمعارضة ذات مغزى، إلا أن هذه “الخميرة” لم تكون ناجحة، لأنه على عكس الأنظمة الأوروبية المذكورة أعلاه، لم ينته الاستبداد التركي.
اعتقد “الكماليون” أن هذا التوجه سيكون كافياً لإحلال الديموقراطية رسمياً، لكنهم كانوا مخطئين. أقاموا نظام وصاية، ووازنوا النظام الديموقراطي في كل عقد، لكن هذا النظام لم يستمر بعد الحرب الباردة.

لم يكن أحد في تركيا مهتماً بالديموقراطية الحقيقية في الحرب الباردة. لعبت تركيا دورها في “الناتو” وابتعدت عن الشيوعية، ما أدى إلى انفصالها عن الحلف. وبعد فترة وجيزة من نهاية الجغرافيا السياسية للحرب الباردة، تُركت تركيا وحيدة.
قطعت الحضارة المُعاصرة شوطاً طويلاً، بينما أظهرت تركيا لونها الحقيقي، وبدأت الهجوم. كان بعض المثقّفين الليبراليين المطلعين على الوضع، يصرون على دستور ليبرالي، لكنهم جميعاً تلقّنوا الأيديولوجية “الكمالية».

 كان ما يُسمى بالحركات أو الأحزاب أو القادة الإصلاحيين يُطبّقون الأساليب “الكمالية” عندما تعرضوا للضغط. على سبيل المثال، لم يستطع بولنت أجاويد، رئيس وزراء تركيا الراحل، فهم مسألة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، معتبراً أن دول الإتحاد الأوروبي “اشتراكية وتركيا هي السوق الاستعمارية».
كما فشل سليمان ديميريل، الرئيس التركي السابق، في تحرير تركيا بالاستفادة من اتجاهات الخصخصة واللامركزية.
وتردد تورغوت أوزال، الرئيس السابق، في حل المشكلة الكردية ورفض إلغاء الحظر السياسي. أُتيحت لأجاويد فرصة ثانية، لكنه أهدرها بمنع الحجاب. وواجه ديميريل المصير نفسه عندما أصبح رئيس الدولة العميقة.

وعندما وصل نجم الدين أربكان إلى السلطة، لم يستطع دمج حركته “حزب الرفاه” في النظام بسبب خطابه الذي يحمل نكهة الاشتراكية في الشرق الأوسط والأوتوقراطية الإسلامية.
تُوفي ألب أرسلان تركيش، نائب الرئيس، ولم يجد فرصة لتسوية وضع حزبه “الحركة القومية».
ولم يستطع خليفته دولت بهجلي إقناع الجذور العمالية بحزب جامد. كان هدف مناصري أربكان الوصول إلى الديموقراطية الدستورية الليبرالية، والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكنهم لم يتمكّنوا من إشباع رغباتهم الجشعة، ووجدوا أنفسهم في حضن الدولة العميقة.

وعجز حزب “الشعب الجمهوري” و”الكماليون” عن تحقيق السلام مع مبادئ الديموقراطية الاجتماعية الدولية. ولم يتمكن اليمينيون المركزيون من إقامة الجمهورية مع اقتصاد السوق الليبرالي، والليبرالية الدستورية. لقد كانوا مُحاصرين داخل البساطة الريفية، وبالتالي لم يتمكّنوا من دعم القيم الدولية.
تركيا، اليوم، ليست دولة عرقية قومية، رغم كل المُمارسات الفاشية والاستبدادية. انهارت سياسة الدولة الدينية، ثم انتشرت حركة “الإسلاموية الرجعية” في قلب الدولة.

ساعدت سياسات القمع والإقصاء في أن يُدرك الأكراد هويتهم الوطنية بدل أن يكونوا مجرد عنصر إثني. قُسمت البلاد إلى مئات الفئات مثل الأتراك، والأكراد، والسنة، والعلويين، والإسلاميين العلمانيين، والمُتعلّمين، وغير المُتعلّمين، والمدنيين، وما إلى ذلك.
المشروع المُسمّى بـ “الجمهورية التركية” لم يكن ديموقراطياً، وفشل في تكوين مجتمع مُوحّد.
ويختم إيف كمان قائلاً: “أمام كل هذا، من المستحيل الادعاء بأن الجمهورية التركية، مشروع ناجح».