قضية الفرنسي غريفو:

ثقافة الـ (كومبرومات) الروسية هي الاصل...!

 ثقافة الـ (كومبرومات) الروسية هي الاصل...!

- ولد الـ (كمبرومات) في سياق انفتاح روسيا السوفياتية على الغرب تحت حكم ستالين
- بنجامان غريفو، المتحدث الرسمي باسم الحكومة الفرنسية آخر ضحايا فيديو فضائحي
- يمكن التساؤل عن تشابه طريقة عمل بافلينسكي بممارسة كان الكرملين في السابق سيّدها
- ممارسة ساهمت في ثقافة ابتزاز حقيقية في روسيا وفي بلدان الاتحاد السوفياتي السابق
- يعد الـ (كمبرومات) الأشهر في عهد بوتين، شريط بطله دونالد ترامب


الجمعة 14 فبراير، 2020: أعلن بنجامان غريفو، مرشح الأغلبية الرئاسية في الانتخابات البلدية في باريس والمتحدث الرسمي باسم الحكومة، انسحابه من الحملة بعد نشر “فيديو جنسي” يورطه مباشرة. بعد أربعة أيام، الثلاثاء الموافق 18 فبراير، تم توجيه الاتهام للفنان الروسي بيوتر بافلينسكي وصديقته ألكسندرا دي تاديو،
اللذان تلقيا الفيديو (سجّل في مايو 2018)، بتهمة “التعدي على خصوصية الحياة الخاصة” و”بث تسجيل ينطوي على تصريحات او مشاهد ذات طابع جنسي حصل عليها بموافقته أو منه، بدون موافقة المعني بالأمر”.

بافلنسكي،الذي اعترف علنا بارتكابه العملية، شرح أنه أراد التنديد بـ “نفاق” غريفو -الذي، حسب قوله، “يستند بشكل مستمر إلى القيم العائلية” من اجل استقطاب الناخبين، لكنه “يفعل عكس ذلك”، الى جانب كشف “ميكانيك السلطة”.
 وصل بيوتر بافلينسكي، المولود في 8 مارس 1984 في لينينغراد، في 13 يناير 2017 الى فرنسا حيث حصل على وضع اللاجئ السياسي بسبب الاضطهاد الذي تعرض له في روسيا.

ودون اتهام بافلنسكي بأنه تمّ توجيهه عن بعد من قبل الأجهزة السرية الروسية في أعقاب مشاكل غريفو مع قناة ار تي فرانس، يمكن أن نتساءل عن تشابه طريقة عمله مع ممارسة كان الكرملين في السابق سيّدها: استغلال الـ “كمبرومات”، الذي يعني تسريب اشياء ومواد معينة، سواء حقيقية، أو ملفقة، للتشهير بشخصية ما (سياسية، اقتصادية ...) روسية أو أجنبية أو، إذا لم يتم الكشف عنها علنًا، للتلاعب بها وتوظيفها.

ممارسة ساهمت في “ثقافة ابتزاز” حقيقية في روسيا وفي بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، والتي لهذا السبب وصفها استاذ العلوم السياسية الأمريكي كيث داردن بـ “دول الابتزاز”.
ولئن أصبح مصطلح “كمبرومات” الآن تحت قلم الصحفيين الفرنسيين، فإن أصله ومكانته في الثقافة السياسية الروسية يظلان غير معروفين لعامة الناس، ومن ثمّ ضرورة العودة الى التاريخ.

جنس وكذب وكي جي بي
ولد الـ “كمبرومات” في سياق انفتاح روسيا السوفياتية على الغرب تحت حكم ستالين، في البداية لأغراض الدعاية والتجسس. في أبريل 1929، عندما ولدت شركة إينتوريست في الاتحاد السوفياتي، لم يتخيل الكثيرون أن الهدف الرئيسي للكرملين لم يكن تشجيع تنمية السياحة الأجنبية والصداقة بين الشعوب، بقدر ما هو مراقبة الغرب، وإذا أمكن، للحصول على “كمبرومات”، مصطلح بوليسي انتشر على وجه التحديد في الثلاثينات.

خلال الحرب الباردة، أصبح جمع الـ “كمبرومات”، لا سيما في غرف الفنادق، نشاطًا كاملاً للـ “كي جي بي”، حيث قام بتعبئة جيش صغير من العملاء ليلا ونهارا.
وتستنجد الأجهزة السرية السوفياتية بانتظام بخدمات المومسات من أجل توريط شخصيات سياسية ومن أوساط الاعمال. وعند النجاح، تصبح “التسويات” أعوان نفوذ تتمثل مهمتهم بمجرد عودتهم، في مواجهة الخطابات المعادية للسوفيات من خلال رواية، على سبيل المثال، أن الاتحاد السوفياتي دولة مثل أي بلد آخر، وأن الغرب سيستفيد من ممارسة الأعمال التجارية معه.

نادراً ما ينجح الـ “كي جي بي” في اصطياد اسماك كبيرة ليجعل منها جواسيس. عام 1954، قام جهاز المخابرات السوفياتي بتجنيد الملحق العسكري للسفارة البريطانية، جون فاسال، من خلال صور تظهره في السرير مع عدة رجال. تم خيانة فاسل عام 1961 على يد ضابط رفيع المستوى في المخابرات السوفياتية انتقل الى الغرب، أناتولي غوليتسين، وتم القبض على فاسال في سبتمبر 1962.
تطبع الحالة بقوة المخيلة: يُظهر مشهد من فيلم قبلات جيدة من روسيا (1963) عملاء سوفيات يصورون العميل الشهير 007 وهو يمارس الجنس في فندق مع عميلة سوفياتية، تاتيانا رومانوفا، خلف مرآة في اتجاهين.
واحتلت قضية موريس ديجيان العناوين الرئيسية عام 1964: تم استدعاء السفير الفرنسي بشكل عاجل إلى باريس، حيث كان في حوزة المخابرات السوفياتية تسجيل فيديو لمغامرته مع ممثلة.

دمقرطة الـ “سكستاب”
الـ “كمبرومات” في شكله الأكثر فحشا، “السكستاب -فيديو جنسي”، تمت دمقرطته بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي. فمع ظهور حرية التعبير والإعلام المستقل (والقابل للفساد) وتطوّر الشبكات الإجرامية المنظمة، لم تعد الحكومة تحتكر هذه الممارسة.في نفس الوقت، فإن الخبرة المكتسبة والبنية التحتية لأجهزة المخابرات السوفياتية، التي بقيت كما هي، شجعت على رسكلة عدد من عملاء الـ “كي جي بي” السابقين لخدمة الخواص. تجدر الإشارة إلى أن نفس الظاهرة يتم ملاحظتها في جميع الدول الناتجة عن تفكك الاتحاد السوفياتي -فكل إقليم سوفياتي على أراضيه فرع من الـ “كي جي بي” (كي جي بي أوكرانيا، كي جي بي جورجيا، إلخ)، وبالتالي العديد من العملاء ذوي الخبرة في مجال الـ “كمبرومات”.

في السياق الفوضوي للجزء الأول من التسعينات في روسيا -كانت فترة تذبذب تشريعي، لا سيما فيما يتعلق بمفهوم التشهير -، لوحظ إضفاء الطابع الديمقراطي على “كمبرومات” لأول مرة في الصحافة. وأصبح نشر وثائق التجريم والتوريط متاحا للجميع مقابل مبالغ متفاوتة للصحف.
حاولت الحكومة الروسية استعادة احتكار “كمبرومات” خلال النصف الثاني من التسعينات، بعد إعادة انتخاب يلتسين وإنشاء جهاز الأمن الفيدرالي للاتحاد الروسي، الوريث غير المباشر للـ “كي جي بي”.  بعد ذلك بعامين، انفجرت القضية التي اطاحت بوزير العدل شخصيًا، فالنتين كوفاليوف.

في يونيو 1997، نشرت دورية روسية متخصصة في كشف المستور عن الشخصيات السياسية، سري للغاية مقالًا يشير الى وجود شريط فيديو -عمره عامان -يقضي فيه كوفاليوف وقتا ممتعا مع بغايا. والادهى، نعلم، في هذا الفيديو، ان كوفاليف كان في ساونا تابعة لإحدى المنظمات الإجرامية الأكثر شهرة في روسيا.

المعلومات الواردة في الفيديو الجنسي الفاضح لكوفاليوف أتت من مصرفي يبلغ من العمر 35 عامًا مقرّب من المافيا الروسية، أركادي أنغيليفيتش. مستشعرًا اعتقاله، طلب أنغيليفيتش من أصدقائه في المنظمة الاجرامية تزويده بتسجيل فيديو للوزير، وهو “كمبرومات” يعتزم استخدامه للمقايضة. لم يتسع الوقت لأنغيليفيتش حتى يستخدم وثيقة الادانة: تم اكتشاف الفيديو الفاضح في منزله الثاني بعد عملية تفتيش.

صعود بوتين
مستوحاة من سابقة وزير العدل، ازدهرت السكستاب في جميع أنحاء البلاد (سيتم إنشاء موقع مخصص لوثائق التجريم بجميع أنواعها، عام 1999 وسيشهد نجاحًا هائلاً)؛ ومن سخرية القدر سيكون من ضحاياه المدعي العام يوري سكوراتوف نفسه. بعد الأزمة الاقتصادية في أغسطس 1998، هاجم المدعي العام حاشية بوريس يلتسين، واتهم العديد من المقربين منه بالإثراء بالاحتيال عن طريق اللعب على قيمة السندات الصادرة عن الدولة. كما طالت الفضيحة بوريس بيريزوفسكي، أشهر الاوليغارش، وهو رجل ثري مقرّب من عشيرة يلتسين.

 للتخلص من سكوراتوف، يقرر الاوليغارش استخدام الـ “كمبرومات”. مارس 1999، بناءً على تعليمات من بيريزوفسكي، القناة الأولى في البلاد والتي يعتبر الأوليغارش المساهم الرئيسي فيها، ORT، بثت شريطا حيث نرى رجلاً “يشبه المدعي العام” يستمتع بخدمات مومستين. نفي المعني بالأمر وتاكيده وصراخه بانها عملية تركيب واستخدام لمؤثرات خاصة، لم تسعفه. اقاله بوريس يلتسين من منصبه، “في انتظار تسليط الضوء على هذه القضية”.فلاديمير بوتين، الاداري المخلص الذي أحضره الرئيس من بلدية سانت بطرسبرغ لتعيينه رئيسا لجهاز الأمن الفيدرالي للاتحاد الروسي، دُعي ليكون بمثابة الضامن: الرئيس الروسي المستقبلي لعب دوره بالكامل، مؤكدا صحة الفيديو. ومن خلال المشاركة في صلب سكوراتوف، انتهي بوتين بالفوز بمزايا “الأسرة”، ولا سيما تاتيانا دياتشينكو، ابنة يلتسين، التي تقنع الرئيس المسنّ والمريض بتعيينه رئيسا للوزراء، كطريقة ليكون خليفته.

السكستاب الروسي 2.0
في السنوات الألفين، مع فلاديمير بوتين في الرئاسة، تم تعزيز الاتجاهات المعتمدة في السابق: من ناحية،
 تميل التقنيات الرقمية الجديدة إلى زيادة هشاشة الأهداف المحتملة، مما يسمح بإنتاج وتوزيع فوري تقريبا للـ “كمبرومات”، من خلال أي شخص، وبتكلفة أقل، وعلى نطاق لم يسبق له مثيل من قبل. وفي الوقت نفسه، أصبح استخدام الـ “كمبرومات” في روسيا مجددا من اختصاص الدولة. وبتوظيف خدمات الهاكرز، يحتفظ الكرملين بالحق في استخدام السكستاب ضد معارضي النظام، وفي سياق الحرب الباردة الجديدة، ضد أهداف أجنبية.

إن هذه العمليات لا تلقى دائمًا النجاح المتوقع. عام 2009، كان كايل هاتشر، دبلوماسي أمريكي في موسكو، ضحية لسكستاب ابتزاز، لكن استحالة تمييزه على صور الفيديو المنشورة على موقع روسي، سمحت لوزارة الخارجية الأمريكية بإدانة “كمبرومات” الملفق. عام 2010، اندلعت حرب حقيقية للفيديوهات الفاضحة التي دبرها الكرملين، مع دور الطعم كاتيا جيراسيموفا، والمعروفة باسم “مومو”. ومن بين أهدافها، الخصم الشاب لبوتين البالغ من العمر 25 عامًا، إيليا إياشين. ولكن على عكس المعارضين الآخرين الذين كانوا ضحايا “مومو غيت”، غادر اياشين شقة كاتيا دون أن يلمس الكوكايين الذي قدمته إليه، وخصوصا، روي قصته بالتفصيل للصحافة.

في الآونة الأخيرة، عام 2016، تم تصوير ميخائيل كاسيانوف، رئيس وزراء بوتين السابق (2000-2004) انتقل إلى المعارضة، دون علمه، من قبل عشيقته في السرير وهو ينتقد عدة شخصيات أخرى من المعسكر الليبرالي. وكان الهدف من الكشف عن هذا الفيديو واضحًا: زرع الفتنة داخل معارضة خارج النظام وغير متجانسة اصلا.
 ويبقى تأثير هذه العمليات مرة أخرى نسبيا. لقد ازداد الرأي العام الروسي صلابة، وبات من الصعب ان يُصدم، كما كان الحال في التسعينات.

في الواقع، يعدّ الـ “كمبرومات” الأكثر شهرة في عهد بوتين، هو شريط سكستاب خيالي: إنه الدش الذهبي المفترض (شريط تبول) ، حيث قام الرئيس المستقبلي دونالد ترامب بزيارة موسكو عام 2013 ، ويظهر صحبة مومسات تلقين مقابل مالي للتبول على سرير في غرفة فندق سبق ان اقام فيه الثنائي أوباما.
تم الكشف عن القضية في أوائل عام 2017 من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي على أساس معلومات مقدمة من عميل المخابرات البريطانية السابق، كريستوفر ستيل.
 ويشك بعض المتخصصين مثل ألينا ليدنيفا من جامعة كلية لندن، في وجود هذا الشريط رغم سوابق ترامب في مسائل المغامرات الجنسية؛ ومهما كانت الحقيقة، فإن الكشف عنه لم يكن له أي تأثير على حياة رئيس من تفلون، نجا من محاولة إقالة... تماما عكس بنجامان غريفو.

أندريه كوزوفيتش*أستاذ محاضر مخوّل بتوجيه البحوث في جامعة ليل حيث يدرّس التاريخ الروسي والترجمة منذ عام 2008.