تتم عمليات القتل في أي مكان وزمان:

حمل السلاح في الولايات المتحدة بين الحق والواجب

حمل السلاح في الولايات المتحدة بين الحق والواجب

-- اللوبي القوي، الرابطة الوطنية للأسلحة، يمنع أي شخص من التشريع لمنع المزيد من المذابح
-- الإجراءات الجديدة المتوخاة لن تحل سوى ثلث المشكلة
-- أصبح الحق في حمل السلاح سمة مميزة للهوية الأمريكية


   في مدرسة “أوفالدي”، ومدرسة ثانوية “كولومبين”، وجامعة “فرجينيا للتكنولوجيا” ... ولكن أيضًا في دار سينما في كولورادو، وفي مترو أنفاق نيويورك، وحتى في قاعدة عسكرية في تكساس: تتم عمليات القتل بالأسلحة النارية في أي مكان وزمان في الولايات المتحدة على مدار العشرين عامًا الماضية. لماذا؟ عام 2021، أجرى الأطباء النفسيون دراسة أكدت تشخيصًا شائعًا للغاية: “هؤلاء القتلة جميعهم مرضى تمامًا! هم، في الواقع، وبشكل أكثر دقة: مصابون بالفصام، وبثنائي القطب، واضطراب الشخصية الحدية، إلخ. مرضى وغير معالجين... مرضى ومسلحين.

   كل عملية قتل تطرح مسألتين: الأولى، وهي في غاية التعقيد، وصول الأمريكيين إلى الرعاية النفسية، ولا سيما أجهزة الفحص. والثانية، معروفة الآن لعامة الناس، وهي الوجود المعمّم للأسلحة النارية في الولايات المتحدة. والتفسير المقدم هو التعديل الثاني لدستور الولايات المتحدة، والذي يضمن، أو سيضمن، لكل شخص الحق في حمل سلاح ناري، وهو تعديل يؤيده اللوبي القوي، الرابطة الوطنية للأسلحة، والذي يمنع فعليًا أي شخص من التشريع لمنع المزيد من المذابح... لذلك لا شيء يتغيّر.

العشق الأمريكي للأسلحة
    كما يلخص أندريه كاسبي جيدًا في كتابه عن ثقافة السلاح في الولايات المتحدة:
   «يبدو أن الدورة لا تتغير: مجازر، ومشاعر تنتشر بشكل واسع، ومطالبة قوية بالتغيير التشريعي، وتقاعس الكونجرس عن العمل».
    وحتى لو نجح الجمهوريون والديمقراطيون هذه المرة في الاتفاق أخيرًا، فإن الإجراءات الجديدة المتوخاة “منها ضوابط أكثر صرامة للأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و21 عامًا” لن تحل سوى ثلث المشكلة، وفق حسابات نيويورك تايمز.

   ومع ذلك، فإن لوبي قوي، مثل الرابطة الوطنية للأسلحة، لا يدين بثقله للصدفة. يعشق الأمريكيون الأسلحة النارية كما يعشق الفرنسيون النبيذ: انهم مهتمون بإنتاجها وخصوصياتها، ويحبون استخدامها. وهكذا، فإن لكل سلاح أرضه. لنتذكر أنه في ربيع عام 2020، خلال فترة الحجر الصحي، ظل تجار النبيذ مفتوحين في فرنسا، بينما في الولايات المتحدة، ظلت مخازن السلاح تُعتبر “موادًا أساسية».

   تخبرنا دراسة حديثة أجراها مركز بيو للأبحاث، الجاد للغاية، المزيد عن حب الأمريكيين للأسلحة النارية. من ذلك ان قضية حمل السلاح أصبحت اليوم مسيّسة إلى حد كبير. على سبيل المثال، تأكيدات كاتب العمود الشهير في فوكس نيوز تاكر كارلسون، بعد مذبحة أوفالدي وقبل انتخابات التجديد النصفي المقبلة، ان هدف جو بايدن، هو نزع سلاح كل من لم يصوتوا له! وفي مشهد سياسي شديد الاستقطاب، تمنع هذه الخلافات المستمرة أي نقاش أو أي إجماع أو أي حل.
  هل يمكن للتاريخ أن يوفر هذا الحل إذن؟ بالتأكيد لا، لأنه كما هو الحال دائمًا، فهو متعرج وخاضع لتفسيرات متباينة، ولا يمكن استبداله بعمل المشرّع. في المقابل، يمكن أن يوفر له مسارات للتفكير.

معارك قانونية، نقاشات أكاديمية
   على أي حال، التاريخ حاضر في المناقشات.
   عام 2008، كان على المحكمة العليا للولايات المتحدة أن تحكم في قضية مقاطعة كولومبيا ضد هيلر، ونتيجته هي التي تحدد اليوم قوانين الأسلحة في جميع أنحاء البلاد. ظاهريًا، كانت هذه القضية بسيطة: قدم شرطي مقيم في العاصمة الأمريكية شكوى ضد السلطات التي أجبرته على ترك سلاحه الناري في غرفة خلع الملابس بعد عمله، حيث تم حظر حيازة سلاح في البيوت في واشنطن. في الواقع، شارك رجل عادي يحب الأسلحة لأنه يشاهدها على شاشة التلفزيون، ومؤسسة فكرية محافظة قوية جدًا على استعداد للدفاع عنه، معهد كاتو، في انقلاب تم إعداده جيدًا. كل هذا رواه السيد هيلر نفسه! لكن لنعد إلى حكم المحكمة العليا كما أوضحه القاضي المحافظ أنتونين سكاليا:

   «لا شك في أنّ التعديل الثاني، وفقًا للنصوص والتاريخ، يمنح الفرد الحق في امتلاك السلاح وحمله».
   أي تاريخ يعني؟ من التاريخ الإنجليزي أولاً، وبشكل أكثر تحديدًا، من تاريخ الثورة الإنجليزية الثانية “1689”، والتي انتهت باعتماد وثيقة الحقوق التي تعلن، من بين أمور أخرى، أنه “يمكن للرعايا البروتستانت، للدفاع عن أنفسهم، حيازة أسلحة تتوافق مع حالتهم وما يسمح به القانون».

   غالبا ما يكون التاريخ حاضرا في المحاكم الفيدرالية الأمريكية. يمكن للمؤرخين أيضًا تقديمه عن طريق كتابة مذكرات أصدقاء المحكمة، والتي يضعون فيها معارفهم في خدمة العدالة، أو بشكل أكثر دقة، في خدمة أحد الطرفين الحاضرين. في قضية هيلر، دعّمت مؤرخة قانونية معروفة الأطروحة التي سيتبناها القاضي سكاليا. فقد أكدت جويس لي مالكولم، في مذكرتها التي تتكون من حوالي أربعين صفحة، أن الحق في امتلاك وحمل سلاح ناري في جميع الظروف هو حق إنجليزي، حق فردي.
   وعلى العكس من ذلك، فإن العشرات من الخبراء الدستوريين والمؤرخين الآخرين، المشهورين على حد سواء، يرون أن الحق في حمل السلاح هو حق جماعي، لا يمكن ممارسته بشكل قانوني إلا في إطار ميليشيا تابعة للدولة، وهي ميليشيا يكون وجودها في حد ذاته اختياريًا بالنسبة لهم.

حمل السلاح: حق أم واجب؟
   حق فردي أم حق جماعي؟ من نصدق؟ إن الحجة القائلة بأن الحق في حمل السلاح هو حق فردي وغير قابل للتصرف لأنه إنجليزي، هي حجة مفاجئة، تصمد بشكل سيء أمام اختبار التاريخ الأمريكي، الذي بدأ بثورة الغت بسعادة قوانين صاحبة الجلالة.
   بالإضافة إلى ذلك، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، تم تأطير هذا الحق الإنجليزي بشكل صارم: فقد كان فرديًا فقط لأعضاء النخبة الزراعية، الوحيدين المرخص لهم بامتلاك سلاح للصيد. أما بالنسبة للميليشيات الإنجليزية، فقد تم اختيار أفرادها وتدريبهم وتسليحهم من قبل هذه النخبة الزراعية نفسها التي تبحث عن متعتها. وهكذا يمكن أن يحتفظ بأسلحة رجال الميليشيات هؤلاء، مزوديهم، أو أن يعهد بها بشكل فردي إلى الذين كان عليهم تعلم كيفية استخدامها. لكن الدفاع عن التاج كان واجبًا أكثر منه حقًا.

   ومع ذلك، في المستعمرات الإنجليزية لأمريكا الشمالية، الولايات المتحدة الأمريكية المستقبلية، أصبحت هذه العلاقة بين الواجب والحق أكثر تعقيدًا. لماذا؟ يجب أن نضع في اعتبارنا الظروف الخاصة التي وجد هؤلاء المستوطنين أنفسهم فيها: الحاجة إلى الصيد من أجل البقاء، والحاجة إلى القدرة على الدفاع عن أنفسهم، والبعد عن لندن ... ثم تم الخلط بين واجب الدفاع عن الآخرين وبين الحق الفردي في امتلاك سلاح ناري. وهكذا ظهر نوع من “الحق-الواجب” الغامض بالنسبة لنا اليوم، ولكنه متماسك تمامًا بروح المشرّع في ذلك الوقت. لذلك أصدرت كل مستعمرة قوانين تنص على أن الرجال البيض الأحرار، الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و60 عامًا، يجب أن يخدموا في الميليشيات المحلية بأسلحتهم وذخائرهم. وفي وقت مبكر جدًا من تاريخهم، كان الأمريكيون مسلحين الزاما وضرورة.

   لقد كان لحرب الاستقلال الأمريكية تأثير في قلب الموازين بشكل طفيف لصالح الالتزام. على سبيل المثال فرجينيا: في وثيقة الحقوق لعام 1776، تم التأكيد عليها في المادة 13:
   «الميليشيا المنظمة بشكل جيد، وتتألف من جميع الشعب المدرب على السلاح، هي الدفاع الصحيح والطبيعي والمؤكد عن دولة حرة».
   تحقق الاستقلال، واعتمد الأمريكيون دستورًا جديدًا عام 1787 أخضع، على الأقل من الناحية النظرية، الولايات الفيدرالية الثلاث عشرة لدولة اتحادية موحدة جديدة. وتشير المناقشات الخاصة بالتصديق على هذا الدستور الجديد، إلى أن التوازن يميل إلى جانب اليمين: اقترحت بنسلفانيا ونيوهامشر وماساتشوستس، تعديل الدستور ليتضمّن الاعتراف بالحق الفردي في امتلاك الأسلحة.

   كانت جهودهم الانية بلا جدوى، ولكن عام 1791، تم التوافق بين الأمريكيين، سواء أيدوا الدستور الجديد أم لا، من خلال تمرير سلسلة من التعديلات تسمى “قانون الحقوق”. للاعتراف، من بين أشياء أخرى، بهذا “الحق-الواجب” في حيازة الأسلحة المنسوخ في التعديل الثاني.
   عام 1803، لاحظ سانت جورج تاكر، ناشر أول دليل للقانون الأمريكي، أن مجرد حقيقة كونك مسلحًا في إنجلترا يمكن اعتبارها عملاً حربياً، بينما في الولايات المتحدة، فإن الحق في حمل السلاح معترف به في الدستور، ولن يحلم أحد بمغادرة منزله بدون مسدس أو بندقية. لقد أصبح الحق في حمل السلاح سمة مميزة للهوية الأمريكية.

   ماذا يعني التعديل الثاني اليوم؟ هل ما زال اداة فعالة لضمان أمن دولة حرة؟ هل سيميل الميزان كثيرًا إلى جانب اليمين، على حساب الواجب؟ الأمر متروك للأمريكيين وممثليهم للإجابة على هذه الأسئلة... يمكن للتاريخ فقط أن يمدهم بمسارات للتفكير.

*أستاذ محاضر في الدراسات الأمريكية، جامعة ستراسبورغ