رئيس الدولة: الدورة تعزز الحوار والتعارف والتنافس بين شباب العالم على أرض الإمارات
حيوان سياسي شرس:
دونالد رامسفيلد، الرجل الذي لا خطة له...!
- خوض الولايات المتحدة الحرب بلا خطط لإعادة بناء العراق؛ كان اختيارًا متعمدًا
- قال عنه هنري كيسنجر ذات مرة إنه “أكثر الرجال عديمي الضمير” الذي قابله على الإطلاق
- لم يكن رامسفيلد مهتمًا حقًا بالعراق، كان يرى ساحة المعركة كمختبر لمفهومه الجديد للحرب الحديثة
- يشير عنوان مذكراته إلى إحدى مقولاته التي تليق بحكيم عجوز في كتاب رسوم متحركة
- دفاعه عن «القنابل الذكية» لكسب الحرب في العراق هي أكثر استراتيجياته كارثية
حيوان سياسي شرس، خبير في الخدع البيروقراطية، كان وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، الذي لم يكن يعرف شيئًا عن الجغرافيا السياسية، أصل التدمير المخطط للعراق. توفي دونالد رامسفيلد، أصغر وزير دفاع في الولايات المتحدة وأكبرهم سنّا، وربما أسوأهم، يوم الثلاثاء 29 يونيو عن عمر يناهز 88 عامًا. ولايته الأولى، التي استمرّ فيها أكثر من عام بقليل، بعد أن عينه الرئيس جيرالد فورد عن عمر يناهز 43 عامًا، لم تسفر عن أي نتيجة. الثانية، تحت حكم جورج دبليو بوش، استمرت ست سنوات، حتى استقالته عن عمر يناهز 74 عامًا، وخلال هذه الفترة، كان مسؤولاً جزئياً عن الحرب في العراق، وخصوصا مذنباً بسلوك “سيئ” أسفر عن مئات الآلاف من القتلى (منهم أكثر من 4400 أمريكي) ، وزعزعة استقرار الشرق الأوسط.
«لعين صغير لا يرحم»
وقّع ثمانية من الجنرالات الأمريكيين المتقاعدين، رسالة في مطلع عام 2006، يطالبون فيها باستقالته. ومتوقعًا أن يتولى الديمقراطيون مجلسي الكونجرس، لأسباب ليس أقلها عدم شعبية الحرب، أرسل رامسفيلد استقالته إلى بوش عشية الانتخابات النصفية، وقبلها بوش غداة الانتخابات.
خلال معظم مسيرته، التي بدأت عام 1963 بتنصيبه الأول (خدم ثلاث فترات) كممثل جمهوري لإلينوي في الكونغرس الامريكي، صاغ رامسفيلد سمعة راسخة كحيوان سياسي ماهر ومقاتل.
في أحد التسجيلات السرية لريتشارد نيكسون، يمكن سماعه وهو يصفه بأنه “اللعين الصغير، ليس في قلبه أي رحمة” (وهي كانت إطراء حقيقيا في فم نيكسون). كما قال عنه هنري كيسنجر ذات مرة، إنه الرجل “الأكثر انعداما للضمير” الذي قابله على الإطلاق (نتخيل انه قالها بشيء من الغيرة).
جاءت نقطة التحول في حياة رامسفيلد عام 1970، عندما عينه نيكسون لرئاسة مكتب الفرص الاقتصادية. ثم شغل بعد ذلك منصب سفير لدى الناتو، ثم مستشارًا للبيت الأبيض، قبل أن يصبح رئيس مكتبه. وقام دونالد رامسفيلد بدوره بانتداب، كمساعد، من كان معه في البرلمان، ريتشارد تشيني.
عندما اضطر نيكسون إلى الاستقالة، تعزز موقع الرجلين لأن فورد، الذي خلف نيكسون، كان صديقًا لرامسفيلد، الذي سبق ان عرفه في الكونجرس. وتسبب رامسفيلد وتشيني معًا في خسارة كيسنجر لمنصبه كمستشار للأمن القومي، وفي انقلاب فورد (والحزب الجمهوري) على سياسة الانفراج مع السوفيات (كان هذا بلا شك مصدرا لهذا الإعجاب التكتيكي والعداء الاستراتيجي من كيسنجر).
تشيني رامسفيلد، ثنائي ماكر على رأس الدولة
بعد هزيمة فورد عام 1976، تحول رامسفيلد إلى عالم الأعمال وجنى ثروته من خلال رئاسة شركة الأدوية سيرل، وشركتين أخريين. في التسعينات، عاد إلى السياسة الدفاعية وشارك في عدة لجان. أهمّها، في نهاية ذاك العقد، كان هدفها تقييم قدرة كوريا الشمالية على بناء صواريخ باليستية (وخلصت، من بين أشياء أخرى، إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية قللت بشكل جدي من تقدير التهديد).
عندما تم انتخاب جورج دبليو بوش رئيسًا للولايات المتحدة، فكر أولاً في منح رامسفيلد منصب مدير وكالة المخابرات المركزية. ومع ذلك، فإن دان كوتس، الذي اعتقد بوش في البداية أنه سيصبح وزيراً للدفاع، لم يكن متحمسًا بما يكفي للدفاع الصاروخي، مما دفع تشيني (نائب الرئيس حينها) الى اقتراح صديقه القديم ومعلمه رامسفيلد، ليحلّ محله (تم تعيين كوتس بعد فترة طويلة جدا مديرًا للاستخبارات الوطنية، ثم أقاله دونالد ترامب).
لقد أثر الثنائي تشيني ورامسفيلد على التاريخ بشكل لم يسبق له مثيل من قبل نائب رئيس ووزير دفاع (أو شخصيات أمريكية أخرى غير الرئيس).
في البداية، بصفتهما سادة حقيقيين للبيروقراطية، عرف كل منهما جيدًا كيفية صد المنافسين الأقوياء أو المؤثرين، ورسم الدوائر حولهم لعزلهم.
للحيلولة دون اجتماع مجلس للأمن القومي يتوقعان أنه سيصوت ضد رؤيتهما، اعتاد رامسفيلد إرسال أحد مرؤوسيه ليعلن أنه لا يمكنه اتخاذ أي قرار في غياب الوزير -وإذا لم ينجح ذلك، يذهب تشيني إلى المكتب البيضاوي لإقناع بوش بعكس القرار الذي تم اتخاذه للتو (الا ان هذا تغيّر خلال العامين الأخيرين من رئاسة بوش، حيث فهم هذا الأخير في النهاية لعبتهما، وأدرك عواقب ذلك الكارثية).
بعد ذلك، في الفترة التي سبقت غزو العراق، قرر رامسفيلد عدم تصديق وكالة المخابرات المركزية، التي زعمت أن صدام حسين لا يمتلك أسلحة دمار شامل، وأنه ليس على ارتباط بتنظيم القاعدة -حذر من وكالة المخابرات، يأتي دون شك من خبرته في اللجنة المسؤولة عن تقييم قدرة كوريا الشمالية على بناء صواريخ باليستية. لذلك أخذ رامسفيلد على عاتقه إنشاء مكتب استخباراته الخاص، المسمى “مكتب التخطيط الخاص”، يختص في جمع البيانات الأولية الخام، وإبراز المصادر التي تؤكد قناعاته.
وربما كان الأمر الأكثر كارثية، هو دفاعه المتحمّس عن فكرة أخرى تبناها في إحدى اللجان في أواخر التسعينات، وهي “التحول العسكري”، والتي بموجبها أصبحت شبكات الاستخبارات الالكترونية و “القنابل الذكية” (ثمار ثورة الإلكترونيات الدقيقة) فعالة للغاية ودقيقة الى درجة أنها يمكن أن تمكّن الولايات المتحدة من كسب الحروب بعدد أقل من القوات على الميدان.
متّبعا هذا المنطق، خفّض رامسفيلد الانتشار العسكري المخطط له في العراق من 500 ألف جندي إلى 140 الفا فقط. بمعنى ما، أثبتت الحقائق أنه على صواب: بمساعدة معداتهم المتطورة للغاية، نجحت القوات البرية من هزم الجيش العراقي وفي احتلال بغداد رغم انخفاض القوة البشرية -أقل بكثير مما اعتبره الجنرالات ضروريا. ومع ذلك، فقد كان مخطئًا في نقطة لم يكن يعتقد أنها مهمة ... لكنها كانت كبيرة جدًا: هؤلاء الجنود البالغ عددهم 140 ألفًا كانوا بعيدين جدًا عن كونهم عددًا كافياً للاحتفاظ بالمنطقة (بعد احتلال قرية، ينطلق الأمريكيون مرة أخرى في اتجاه العاصمة، تاركين وراءهم الفوضى أو ما هو أسوأ) أو تفادي التمرد والحرب الأهلية التي أعقبت ذلك واستمرت تسع سنوات أخرى.
العراق: التوجه التدمير
كان رامسفيلد دوغماتيًا بشأن “التحول” الى درجة أنه حتى بعد عامين من بدء هذه المرحلة الثانية من الحرب، رفض الاعتراف بوجود تمرد، وأمر مساعديه بعدم نطق هذه الكلمة. (للإشارة للمتمردين تحدث ذات مرة عن “تافهين” غير منظمين). لقد كان يتذكر حرب فيتنام بما يكفي ليعرف أنه إذا كان هناك تمرد، فيجب مواجهته بسياسة تقمعه. وهذا يعني ترك الكثير من القوات في الميدان لفترة طويلة... اختيار لم يكن من بين خياراته.
لم يكن رامسفيلد مهتمًا حقًا بالعراق، كان يرى ساحة المعركة كمختبر لمفهومه الجديد للحرب الحديثة، وأراد استخدام غزو العراق كرادع ضد آخرين يعارضون توسع الولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، والتي اعتبرها الكثيرون آنذاك، حقبة تفوق الولايات المتحدة على المسرح الدولي بدون منازع.
أثناء التحضير للحرب، انتزع رامسفيلد من وزارة الخارجية التخطيط لعمليات “التدخل والاستقرار والتحول” التي ستتبع مرحلة القتال في حرب العراق. ثم منع أي شخص في البنتاغون من الاشراف عليها. لم يكن يريد أن تكون هناك عمليات استقرار -تسمى أيضًا “بناء الأمة”. اذن، خاضت الولايات المتحدة الحرب دون أي خطط لإعادة بناء البلاد، ولم يكن ذلك سهواً، بل كان اختيارًا متعمدًا -خطة رامسفيلد كانت ألا تكون هناك خطة... وندرك الى اي كارثة قاد هذا الخيار.
كان رامسفيلد أيضًا كاذبًا من الدرجة الاولى. طوال فترة توليه منصب وزير الدفاع، كتب إلى مساعديه آلاف المذكرات القصيرة -التي سرعان ما أصبحت تُعرف باسم “رقاقات الثلج” -لطرح الأسئلة أو استحضار الأفكار، والتي يتناقض الكثير منها مع أسئلة وأفكار واردة في مذكرات أخرى كتبها سابقا.
ومن خلال الاحتفاظ ببعض المختارات عن عمد، يمكن حتى أن نعتقد بأثر رجعي، أنه كان يملك موهبة معرفة الغيب. وهذا هو بالضبط ما فعله رامسفيلد في مذكراته “المعروف والمجهول”، وهو كتاب جمع فيه بعضًا من رقائقه -عندما لا يقوم، في فصول معينة، بإعادة كتابة التاريخ. - من أجل ان يرسخ الاعتقاد بأنه لم يرسل عددًا أقل من الرجال مما أوصى به الجنرالات، وأنه كان يدرك دائمًا مخاطر التمرد، وأنه تلقى بشكل إيجابي وجهات النظر المتباينة لمرؤوسيه أو ضباطه (تصريح جعل العديد من الجنرالات يضحكون كثيرًا عندما قرأوا الكتاب).
«قبل عشر سنوات بدأ العمل الطويل والصعب لتحرير 25 مليون عراقي، وكل أولئك الذين لعبوا دورًا في التاريخ يستحقون احترامنا وتقديرنا “، يتفاخر الشخص الذي ترك البلاد في حالة كارثية.
كُتبت في أكتوبر 2003، بعد سبعة أشهر من الغزو، كانت إحدى مذكراته (على ما يبدو) واحدة من أذكى المذكرات التي كتبها على الإطلاق: “اليوم نفتقر إلى المؤشرات التي من شأنها أن تسمح لنا بمعرفة ما إذا كنا سننتصر أو نخسر الحرب العالمية على الإرهاب. هل نعتقل أو نقتل أو نثبط أو نثني كل يوم المزيد من الإرهابيين أكثر مما تقوم المدارس ورجال الدين المتطرفون بتجنيده وتدريبه ونشره ضدنا؟»
لقد كان سؤالًا رائعًا، وكان من الممكن أن يكون أكثر صلة إذا طرحه قبل عامين، أو حتى شهرين. لكن الأهم من ذلك، أنه لا يوجد دليل على أن رامسفيلد تابع هذه الفكرة على الإطلاق. لم يكلف أحدًا أبدًا بتصميم نظام يوفر البيانات أو يغير استراتيجية الولايات المتحدة لحل هذه المشكلة. ولا يسع المرء إلا أن يتساءل عما إذا لم تكن الملاحظة المعنية مجرد مسرحية (أو، بصراحة أكثر، طريقة لتغطية أردافه).
أو ربما كان مجرد ثمرة عقل كسول ومربك. على سبيل المثال، كان رامسفيلد متحمسًا بشأن “التحول العسكري” ليس فقط كأساس لاستراتيجيته في حرب العراق، ولكن أيضًا كاستراتيجية تغيير البنتاغون -دليل لطريقة جديدة تمامًا لتحديد أنواع الأسلحة التي يجب شراؤها وأي نوع من القوات العسكرية يجب تصوّرها. ومع ذلك، في غضون ست سنوات كوزير للدفاع، لم يزل رامسفيلد سوى نظامين قديمين للمدفعية فقط، وهما مروحية شايان، والمدفع المحمول كروسيدر، وهي بقايا لم تحظ بقبول كبير حتى داخل الجيش، الذي كان يملك هذين النوعين من الأسلحة.
ليس خطئي
لم يعترف رامسفيلد في مذكراته بأي خطأ، اعترف فقط ببعض الأخطاء الفادحة التي نسبها إلى آخرين، عادة وكالة المخابرات المركزية أو الديموقراطيين أو وسائل الإعلام أو غيرهم ممن قال إنهم غالطوه. بالنسبة لشخص كان شخصية عامة لفترة طويلة، بدا أنه متهور ومن دون بصيرة بشكل مدهش. خذ واحدة من تلك العبارات الأكثر شهرة، والتي قالها ردا على حرس وطني متجه إلى العراق تساءل لماذا هو والجنود الآخرون تلقوا الكثير من الأسلحة التي لم تكن مناسبة لهذه الحرب. رد رامسفيلد متجاهلاً: “إنك تخوض حربًا بالجيش الذي لديك، وليس بالجيش الذي قد يكون لديك، أو تتمنى أن يكون لديك لاحقًا».
هذا المنطق يمكن أن ينطبق إذا تم غزو بلدك فجأة وكان عليك أن تدافع عن نفسك بأي وسيلة متاحة، ومهما كانت غير ملائمة. الا ان الحرب ضد العراق، أطلقتها الولايات المتحدة -وبالإمكان أن نقول، رامسفيلد نفسه -وكان لديه كل الوقت الذي يحتاجه لجعل الجيش أكثر قدرة على التعامل معها. لكن الحقيقة هي أنه لا يريد جيشًا أفضل، لأنه لا يعتقد أنه بحاجة إليه... وكان مخطئا.
يشير عنوان مذكراته إلى جوهرة أخرى مأخوذة من هذه المجموعة من المقولات التي تليق بحكيم عجوز في كتاب رسوم متحركة. كان قالها في مؤتمر صحفي عام 2002: “هناك المعلوم، وهناك أشياء نعرف أننا نعرفها. كما نعلم ايضا أن هناك المجهول المعروف، أي أننا نعلم أن هناك أشياء لا نعرفها. ولكن هناك أيضًا المجهول المجهول -الأشياء التي لا نعرف اننا لا نعرفها «.
إنها حقيقة بديهية شائعة جدًا، أساسيات نظرية المعرفة. لكن رامسفيلد استخدمها مرارًا وتكرارًا كذريعة لعدم توقع ما قد يحدث. تمرد، على سبيل المثال (“خطر” توقّعه العديد من الأشخاص الآخرين، لكنه ببساطة رفض الاستماع إليهم). باختصار، إنها ذريعة لارتكابك كل شيء بشكل خاطئ. في فيلمه الوثائقي حول رامسفيلد “المعروف المجهول”، الذي أصدره عام 2014، يسأل إيرول موريس وزير الدفاع السابق عن الدروس التي تعلمها من حرب فيتنام. لا تنسوا أنه خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، شهد رامسفيلد، بصفته عضوًا في الكونغرس، وسفيرًا، ورئيسًا للموظفين في البيت الأبيض، جميع مراحل التدخل الأمريكي في هذه الحرب -الطلقات الأولى، وتصعيد الصراع، وأخيراً الهزيمة. إليكم رد دونالد رامسفيلد حرفيا وبالكامل على إيرول موريس: “هناك أشياء تسير بشكل حسن، وأخرى بشكل سيء... هذه المرة لم تنجح... إذا كان هذا درسًا، فعندئذ نعم، إنه درس «. ربما كان دونالد رامسفيلد، في أعماقه، رغم خبرته وموهبته وفنون مكره وخداعه، مجرد صدفة فارغة.
- قال عنه هنري كيسنجر ذات مرة إنه “أكثر الرجال عديمي الضمير” الذي قابله على الإطلاق
- لم يكن رامسفيلد مهتمًا حقًا بالعراق، كان يرى ساحة المعركة كمختبر لمفهومه الجديد للحرب الحديثة
- يشير عنوان مذكراته إلى إحدى مقولاته التي تليق بحكيم عجوز في كتاب رسوم متحركة
- دفاعه عن «القنابل الذكية» لكسب الحرب في العراق هي أكثر استراتيجياته كارثية
حيوان سياسي شرس، خبير في الخدع البيروقراطية، كان وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، الذي لم يكن يعرف شيئًا عن الجغرافيا السياسية، أصل التدمير المخطط للعراق. توفي دونالد رامسفيلد، أصغر وزير دفاع في الولايات المتحدة وأكبرهم سنّا، وربما أسوأهم، يوم الثلاثاء 29 يونيو عن عمر يناهز 88 عامًا. ولايته الأولى، التي استمرّ فيها أكثر من عام بقليل، بعد أن عينه الرئيس جيرالد فورد عن عمر يناهز 43 عامًا، لم تسفر عن أي نتيجة. الثانية، تحت حكم جورج دبليو بوش، استمرت ست سنوات، حتى استقالته عن عمر يناهز 74 عامًا، وخلال هذه الفترة، كان مسؤولاً جزئياً عن الحرب في العراق، وخصوصا مذنباً بسلوك “سيئ” أسفر عن مئات الآلاف من القتلى (منهم أكثر من 4400 أمريكي) ، وزعزعة استقرار الشرق الأوسط.
«لعين صغير لا يرحم»
وقّع ثمانية من الجنرالات الأمريكيين المتقاعدين، رسالة في مطلع عام 2006، يطالبون فيها باستقالته. ومتوقعًا أن يتولى الديمقراطيون مجلسي الكونجرس، لأسباب ليس أقلها عدم شعبية الحرب، أرسل رامسفيلد استقالته إلى بوش عشية الانتخابات النصفية، وقبلها بوش غداة الانتخابات.
خلال معظم مسيرته، التي بدأت عام 1963 بتنصيبه الأول (خدم ثلاث فترات) كممثل جمهوري لإلينوي في الكونغرس الامريكي، صاغ رامسفيلد سمعة راسخة كحيوان سياسي ماهر ومقاتل.
في أحد التسجيلات السرية لريتشارد نيكسون، يمكن سماعه وهو يصفه بأنه “اللعين الصغير، ليس في قلبه أي رحمة” (وهي كانت إطراء حقيقيا في فم نيكسون). كما قال عنه هنري كيسنجر ذات مرة، إنه الرجل “الأكثر انعداما للضمير” الذي قابله على الإطلاق (نتخيل انه قالها بشيء من الغيرة).
جاءت نقطة التحول في حياة رامسفيلد عام 1970، عندما عينه نيكسون لرئاسة مكتب الفرص الاقتصادية. ثم شغل بعد ذلك منصب سفير لدى الناتو، ثم مستشارًا للبيت الأبيض، قبل أن يصبح رئيس مكتبه. وقام دونالد رامسفيلد بدوره بانتداب، كمساعد، من كان معه في البرلمان، ريتشارد تشيني.
عندما اضطر نيكسون إلى الاستقالة، تعزز موقع الرجلين لأن فورد، الذي خلف نيكسون، كان صديقًا لرامسفيلد، الذي سبق ان عرفه في الكونجرس. وتسبب رامسفيلد وتشيني معًا في خسارة كيسنجر لمنصبه كمستشار للأمن القومي، وفي انقلاب فورد (والحزب الجمهوري) على سياسة الانفراج مع السوفيات (كان هذا بلا شك مصدرا لهذا الإعجاب التكتيكي والعداء الاستراتيجي من كيسنجر).
تشيني رامسفيلد، ثنائي ماكر على رأس الدولة
بعد هزيمة فورد عام 1976، تحول رامسفيلد إلى عالم الأعمال وجنى ثروته من خلال رئاسة شركة الأدوية سيرل، وشركتين أخريين. في التسعينات، عاد إلى السياسة الدفاعية وشارك في عدة لجان. أهمّها، في نهاية ذاك العقد، كان هدفها تقييم قدرة كوريا الشمالية على بناء صواريخ باليستية (وخلصت، من بين أشياء أخرى، إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية قللت بشكل جدي من تقدير التهديد).
عندما تم انتخاب جورج دبليو بوش رئيسًا للولايات المتحدة، فكر أولاً في منح رامسفيلد منصب مدير وكالة المخابرات المركزية. ومع ذلك، فإن دان كوتس، الذي اعتقد بوش في البداية أنه سيصبح وزيراً للدفاع، لم يكن متحمسًا بما يكفي للدفاع الصاروخي، مما دفع تشيني (نائب الرئيس حينها) الى اقتراح صديقه القديم ومعلمه رامسفيلد، ليحلّ محله (تم تعيين كوتس بعد فترة طويلة جدا مديرًا للاستخبارات الوطنية، ثم أقاله دونالد ترامب).
لقد أثر الثنائي تشيني ورامسفيلد على التاريخ بشكل لم يسبق له مثيل من قبل نائب رئيس ووزير دفاع (أو شخصيات أمريكية أخرى غير الرئيس).
في البداية، بصفتهما سادة حقيقيين للبيروقراطية، عرف كل منهما جيدًا كيفية صد المنافسين الأقوياء أو المؤثرين، ورسم الدوائر حولهم لعزلهم.
للحيلولة دون اجتماع مجلس للأمن القومي يتوقعان أنه سيصوت ضد رؤيتهما، اعتاد رامسفيلد إرسال أحد مرؤوسيه ليعلن أنه لا يمكنه اتخاذ أي قرار في غياب الوزير -وإذا لم ينجح ذلك، يذهب تشيني إلى المكتب البيضاوي لإقناع بوش بعكس القرار الذي تم اتخاذه للتو (الا ان هذا تغيّر خلال العامين الأخيرين من رئاسة بوش، حيث فهم هذا الأخير في النهاية لعبتهما، وأدرك عواقب ذلك الكارثية).
بعد ذلك، في الفترة التي سبقت غزو العراق، قرر رامسفيلد عدم تصديق وكالة المخابرات المركزية، التي زعمت أن صدام حسين لا يمتلك أسلحة دمار شامل، وأنه ليس على ارتباط بتنظيم القاعدة -حذر من وكالة المخابرات، يأتي دون شك من خبرته في اللجنة المسؤولة عن تقييم قدرة كوريا الشمالية على بناء صواريخ باليستية. لذلك أخذ رامسفيلد على عاتقه إنشاء مكتب استخباراته الخاص، المسمى “مكتب التخطيط الخاص”، يختص في جمع البيانات الأولية الخام، وإبراز المصادر التي تؤكد قناعاته.
وربما كان الأمر الأكثر كارثية، هو دفاعه المتحمّس عن فكرة أخرى تبناها في إحدى اللجان في أواخر التسعينات، وهي “التحول العسكري”، والتي بموجبها أصبحت شبكات الاستخبارات الالكترونية و “القنابل الذكية” (ثمار ثورة الإلكترونيات الدقيقة) فعالة للغاية ودقيقة الى درجة أنها يمكن أن تمكّن الولايات المتحدة من كسب الحروب بعدد أقل من القوات على الميدان.
متّبعا هذا المنطق، خفّض رامسفيلد الانتشار العسكري المخطط له في العراق من 500 ألف جندي إلى 140 الفا فقط. بمعنى ما، أثبتت الحقائق أنه على صواب: بمساعدة معداتهم المتطورة للغاية، نجحت القوات البرية من هزم الجيش العراقي وفي احتلال بغداد رغم انخفاض القوة البشرية -أقل بكثير مما اعتبره الجنرالات ضروريا. ومع ذلك، فقد كان مخطئًا في نقطة لم يكن يعتقد أنها مهمة ... لكنها كانت كبيرة جدًا: هؤلاء الجنود البالغ عددهم 140 ألفًا كانوا بعيدين جدًا عن كونهم عددًا كافياً للاحتفاظ بالمنطقة (بعد احتلال قرية، ينطلق الأمريكيون مرة أخرى في اتجاه العاصمة، تاركين وراءهم الفوضى أو ما هو أسوأ) أو تفادي التمرد والحرب الأهلية التي أعقبت ذلك واستمرت تسع سنوات أخرى.
العراق: التوجه التدمير
كان رامسفيلد دوغماتيًا بشأن “التحول” الى درجة أنه حتى بعد عامين من بدء هذه المرحلة الثانية من الحرب، رفض الاعتراف بوجود تمرد، وأمر مساعديه بعدم نطق هذه الكلمة. (للإشارة للمتمردين تحدث ذات مرة عن “تافهين” غير منظمين). لقد كان يتذكر حرب فيتنام بما يكفي ليعرف أنه إذا كان هناك تمرد، فيجب مواجهته بسياسة تقمعه. وهذا يعني ترك الكثير من القوات في الميدان لفترة طويلة... اختيار لم يكن من بين خياراته.
لم يكن رامسفيلد مهتمًا حقًا بالعراق، كان يرى ساحة المعركة كمختبر لمفهومه الجديد للحرب الحديثة، وأراد استخدام غزو العراق كرادع ضد آخرين يعارضون توسع الولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، والتي اعتبرها الكثيرون آنذاك، حقبة تفوق الولايات المتحدة على المسرح الدولي بدون منازع.
أثناء التحضير للحرب، انتزع رامسفيلد من وزارة الخارجية التخطيط لعمليات “التدخل والاستقرار والتحول” التي ستتبع مرحلة القتال في حرب العراق. ثم منع أي شخص في البنتاغون من الاشراف عليها. لم يكن يريد أن تكون هناك عمليات استقرار -تسمى أيضًا “بناء الأمة”. اذن، خاضت الولايات المتحدة الحرب دون أي خطط لإعادة بناء البلاد، ولم يكن ذلك سهواً، بل كان اختيارًا متعمدًا -خطة رامسفيلد كانت ألا تكون هناك خطة... وندرك الى اي كارثة قاد هذا الخيار.
كان رامسفيلد أيضًا كاذبًا من الدرجة الاولى. طوال فترة توليه منصب وزير الدفاع، كتب إلى مساعديه آلاف المذكرات القصيرة -التي سرعان ما أصبحت تُعرف باسم “رقاقات الثلج” -لطرح الأسئلة أو استحضار الأفكار، والتي يتناقض الكثير منها مع أسئلة وأفكار واردة في مذكرات أخرى كتبها سابقا.
ومن خلال الاحتفاظ ببعض المختارات عن عمد، يمكن حتى أن نعتقد بأثر رجعي، أنه كان يملك موهبة معرفة الغيب. وهذا هو بالضبط ما فعله رامسفيلد في مذكراته “المعروف والمجهول”، وهو كتاب جمع فيه بعضًا من رقائقه -عندما لا يقوم، في فصول معينة، بإعادة كتابة التاريخ. - من أجل ان يرسخ الاعتقاد بأنه لم يرسل عددًا أقل من الرجال مما أوصى به الجنرالات، وأنه كان يدرك دائمًا مخاطر التمرد، وأنه تلقى بشكل إيجابي وجهات النظر المتباينة لمرؤوسيه أو ضباطه (تصريح جعل العديد من الجنرالات يضحكون كثيرًا عندما قرأوا الكتاب).
«قبل عشر سنوات بدأ العمل الطويل والصعب لتحرير 25 مليون عراقي، وكل أولئك الذين لعبوا دورًا في التاريخ يستحقون احترامنا وتقديرنا “، يتفاخر الشخص الذي ترك البلاد في حالة كارثية.
كُتبت في أكتوبر 2003، بعد سبعة أشهر من الغزو، كانت إحدى مذكراته (على ما يبدو) واحدة من أذكى المذكرات التي كتبها على الإطلاق: “اليوم نفتقر إلى المؤشرات التي من شأنها أن تسمح لنا بمعرفة ما إذا كنا سننتصر أو نخسر الحرب العالمية على الإرهاب. هل نعتقل أو نقتل أو نثبط أو نثني كل يوم المزيد من الإرهابيين أكثر مما تقوم المدارس ورجال الدين المتطرفون بتجنيده وتدريبه ونشره ضدنا؟»
لقد كان سؤالًا رائعًا، وكان من الممكن أن يكون أكثر صلة إذا طرحه قبل عامين، أو حتى شهرين. لكن الأهم من ذلك، أنه لا يوجد دليل على أن رامسفيلد تابع هذه الفكرة على الإطلاق. لم يكلف أحدًا أبدًا بتصميم نظام يوفر البيانات أو يغير استراتيجية الولايات المتحدة لحل هذه المشكلة. ولا يسع المرء إلا أن يتساءل عما إذا لم تكن الملاحظة المعنية مجرد مسرحية (أو، بصراحة أكثر، طريقة لتغطية أردافه).
أو ربما كان مجرد ثمرة عقل كسول ومربك. على سبيل المثال، كان رامسفيلد متحمسًا بشأن “التحول العسكري” ليس فقط كأساس لاستراتيجيته في حرب العراق، ولكن أيضًا كاستراتيجية تغيير البنتاغون -دليل لطريقة جديدة تمامًا لتحديد أنواع الأسلحة التي يجب شراؤها وأي نوع من القوات العسكرية يجب تصوّرها. ومع ذلك، في غضون ست سنوات كوزير للدفاع، لم يزل رامسفيلد سوى نظامين قديمين للمدفعية فقط، وهما مروحية شايان، والمدفع المحمول كروسيدر، وهي بقايا لم تحظ بقبول كبير حتى داخل الجيش، الذي كان يملك هذين النوعين من الأسلحة.
ليس خطئي
لم يعترف رامسفيلد في مذكراته بأي خطأ، اعترف فقط ببعض الأخطاء الفادحة التي نسبها إلى آخرين، عادة وكالة المخابرات المركزية أو الديموقراطيين أو وسائل الإعلام أو غيرهم ممن قال إنهم غالطوه. بالنسبة لشخص كان شخصية عامة لفترة طويلة، بدا أنه متهور ومن دون بصيرة بشكل مدهش. خذ واحدة من تلك العبارات الأكثر شهرة، والتي قالها ردا على حرس وطني متجه إلى العراق تساءل لماذا هو والجنود الآخرون تلقوا الكثير من الأسلحة التي لم تكن مناسبة لهذه الحرب. رد رامسفيلد متجاهلاً: “إنك تخوض حربًا بالجيش الذي لديك، وليس بالجيش الذي قد يكون لديك، أو تتمنى أن يكون لديك لاحقًا».
هذا المنطق يمكن أن ينطبق إذا تم غزو بلدك فجأة وكان عليك أن تدافع عن نفسك بأي وسيلة متاحة، ومهما كانت غير ملائمة. الا ان الحرب ضد العراق، أطلقتها الولايات المتحدة -وبالإمكان أن نقول، رامسفيلد نفسه -وكان لديه كل الوقت الذي يحتاجه لجعل الجيش أكثر قدرة على التعامل معها. لكن الحقيقة هي أنه لا يريد جيشًا أفضل، لأنه لا يعتقد أنه بحاجة إليه... وكان مخطئا.
يشير عنوان مذكراته إلى جوهرة أخرى مأخوذة من هذه المجموعة من المقولات التي تليق بحكيم عجوز في كتاب رسوم متحركة. كان قالها في مؤتمر صحفي عام 2002: “هناك المعلوم، وهناك أشياء نعرف أننا نعرفها. كما نعلم ايضا أن هناك المجهول المعروف، أي أننا نعلم أن هناك أشياء لا نعرفها. ولكن هناك أيضًا المجهول المجهول -الأشياء التي لا نعرف اننا لا نعرفها «.
إنها حقيقة بديهية شائعة جدًا، أساسيات نظرية المعرفة. لكن رامسفيلد استخدمها مرارًا وتكرارًا كذريعة لعدم توقع ما قد يحدث. تمرد، على سبيل المثال (“خطر” توقّعه العديد من الأشخاص الآخرين، لكنه ببساطة رفض الاستماع إليهم). باختصار، إنها ذريعة لارتكابك كل شيء بشكل خاطئ. في فيلمه الوثائقي حول رامسفيلد “المعروف المجهول”، الذي أصدره عام 2014، يسأل إيرول موريس وزير الدفاع السابق عن الدروس التي تعلمها من حرب فيتنام. لا تنسوا أنه خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، شهد رامسفيلد، بصفته عضوًا في الكونغرس، وسفيرًا، ورئيسًا للموظفين في البيت الأبيض، جميع مراحل التدخل الأمريكي في هذه الحرب -الطلقات الأولى، وتصعيد الصراع، وأخيراً الهزيمة. إليكم رد دونالد رامسفيلد حرفيا وبالكامل على إيرول موريس: “هناك أشياء تسير بشكل حسن، وأخرى بشكل سيء... هذه المرة لم تنجح... إذا كان هذا درسًا، فعندئذ نعم، إنه درس «. ربما كان دونالد رامسفيلد، في أعماقه، رغم خبرته وموهبته وفنون مكره وخداعه، مجرد صدفة فارغة.