روسيا تستعد لملء الفراغ الذي خلّفته الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية

روسيا تستعد لملء الفراغ الذي خلّفته الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية


تناول الباحث الأمريكي توماس كنِت، زميل أول في مجلس السياسة الخارجية الأمريكية، والمتخصص في الشؤون الروسية تحولات موسكو الأخيرة في المساعدات الخارجية، خاصة في ظل تراجع الدور الأمريكي في هذا المجال، ومحاولة الكرملين تقديم نفسه بديلاً تنموياً عالمياً، في مناطق نفوذ واشنطن السابقة. وقال الكاتب في مقال بمجلة «ناشونال إنترست» إن انسحاب الولايات المتحدة من بعض برامج المساعدات، وتراجع حضور الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، فتح الباب أمام روسيا لإعادة التموضع فاعلاً دولياً بديلاً.  وأضاف أن موسكو تُعدّ الآن العدة لإنشاء إطار مؤسسي موحّد يضم مشاريعها الثقافية والإنسانية والتعليمية المنتشرة، لتقديمها للعالم ضمن جهود تنموية متماسكة، وليست مجرد أدوات ناعمة متناثرة. وأشار الكاتب إلى أن أكثر من 12 جهة روسية رسمية، منها وزارات وجامعات ومؤسسات دينية، تعمل في مجال المساعدات والمبادرات الإنسانية والثقافية، لكنها تعاني من ضعف التنسيق، وغياب الرؤية الاستراتيجية. وتابع قائلاً إن غياب بنية مؤسسية قوية شبيه بما تمثله الوكالة الأمريكية يجعل هذه الجهود ضعيفة الأثر، وغير قادرة على إحداث نفوذ طويل الأمد.

بريماكوف والمقاربة الأمنية للمساعدات
وأوضح الكاتب أن الكرملين أوكل مهمة إعادة تنظيم الجهود الروسية في هذا المجال إلى يفغيني بريماكوف، رئيس وكالة «روسوترودنيتشستفو»، وهو حفيد الدبلوماسي الشهير يفغيني بريماكوف الأب. وأكد الكاتب أن بريماكوف لا يُخفي الطبيعة السياسية الصريحة لهذه المبادرات، بل يرى فيها أداة لتحقيق أهداف الأمن القومي الروسي، من خلال تعزيز نفوذ موسكو في الخارج وبناء علاقات استراتيجية جديدة. وأضاف أنه يُركّز على «قابلية القياس السياسي» لأي مشروع تنموي، أي مدى تأثيره على ولاء النخب المحلية في الدول المتلقية، ومدى قدرته على خلق بيئة إعلامية واجتماعية أكثر انفتاحاً على الرواية الروسية.

إفريقيا في صميم الرؤية الروسية
ورأى الكاتب أن روسيا تضع القارة الإفريقية في قلب استراتيجيتها الجديدة، خاصة في دول مثل مالي، وأنغولا، والجزائر، التي تشهد فراغاً في الدعم الأمريكي.  وأشار الكاتب إلى أن موسكو تسعى لتقديم نفسها شريكاً لا يتدخل في السياسات الداخلية، ولا يربط مساعداته بشروط قيمية مثل الديمقراطية أو حقوق الإنسان.
لكن الكاتب نبّه إلى أن روسيا تفتقر للخبرات والبنية المؤسسية الكافية التي تؤهلها لمنافسة الصين مثلاً، التي تتمتع بقدرات تمويل ضخمة، وآليات ناعمة أكثر فاعلية، مثل برامج تبادل المنح الدراسية، وتمويل البنية التحتية.

أزمة الثقة ومشكلات داخلية
ولفت الكاتب إلى أن وكالة «روسوترودنيتشستفو» واجهت منذ إنشائها اتهامات متعددة، بينها الفساد، وضعف الشفافية، واستخدام البرامج الثقافية غطاءً للتجسس أو الدعاية السياسية. وأضاف أن الوكالة كانت من بين الكيانات الروسية التي فرض عليها الاتحاد الأوروبي عقوبات في 2022، لتورطها في الترويج للرواية الرسمية حول غزو أوكرانيا. وأوضــــح الكاتب أن هذه التحديــــات أدّت إلى طـرح عدة مقترحات لإصلاح الوكالة، بما في ذلك ضمّها مباشرة إلى مكتب الرئاسة، أو إعادة هيكلتها مؤسسة ذات طبيعة اقتصادية مرنة، إلا أن أياً من هذه الإصلاحات لم ينفذ فعلياً حتى الآن.
 طموح المنافسة وحدود الإمكانات
أشار الكاتب إلى أن بريماكوف يعترف بعجز روسيا حالياً عن منافسة اللاعبين الكبار في التنمية الدولية مثل الولايات المتحدة أو الصين. وبدل ذلك، يسعى إلى مقارنة الدور الروسي مع دول أوروبية متوسطة، مثل فنلندا، التي تملك تأثيراً تنموياً في العالم، رغم إمكاناتها المحدودة.
وأكد الكاتب أن الخطة الروسية تنطلق من مبدأ «التحرك ضمن الممكن»، أي بناء النفوذ خطوة بخطوة في البيئات الجاهزة سياسياً أو الثقافية، دون محاولة فرض حضور واسع لا تملك موسكو أدواته.
ورأى الكاتب أن روسيا، رغم محدودية إمكاناتها، تسعى للاستفادة من تراجع الدور الأمريكي لطرح نفسها قوة بديلة في المجال التنموي، خاصة في الدول التي تنظر بعين الشك إلى شروط المساعدات الغربية. وأضاف أن هذا الطموح لا يقتصر على المساعدات الاقتصادية أو الإنسانية، بل هو جزء من معركة سرديات أوسع، تحاول فيها موسكو فرض روايتها قوة مسؤولة وعادلة وغير استعمارية.
وأكد الكاتب أن نجاح هذه الاستراتيجية يعتمد على قدرة موسكو على توحيد مؤسساتها، وتحسين كفاءة أدواتها، وتقديم نموذج جذّاب يُقنع النخب والمجتمعات بأن الشراكة مع روسيا قد تكون أقل كلفة وأكثر استقلالية من الشراكة مع الغرب.