ستوكهولم 1912.. الألعاب الأولى الجامعة ودراما جيم ثورب

 ستوكهولم 1912.. الألعاب الأولى الجامعة ودراما جيم ثورب

عند العاشرة من صباح 6 تموز-يوليو 1912، أعلن ملك السويد غوستاف الخامس، سليل عائلة برنادوت، افتتاح الألعاب الأولمبية الخامسة في ستوكهولم أمام نحو 30 ألف متفرّج تابعوا العرض الافتتاحي ومرور بعثات 28 دولة.
ولاستضافة الألعاب، قامت ستوكهولم بتحسين الملعب الملكي وتأهيله، ورافقت المنافسات التي استمرت حتى 22 تموز-يوليو، وأجريت بعيدًا من الانشغالات في المعارض التجارية وأنشطتها، مباريات فنية تمثلت بمعارض صور ولوحات ومنحوتات، وعزف، وإلقاء الشعر... فكان مزج لتنافس العضلات والأفكار والروح والخيال على غرار الألعاب القديمة.
وتصدّرت الولايات المتحدة ترتيب الميداليات برصيد 25 ذهبية، تلتها السويد (24)، ثم بريطانيا (10 ذهبيات).
وفي تلك الفترة، كان عداء المسافات المتوسطة والطويلة الفرنسي جان بوان، ابن الرابعة والعشرين، حديث القارة الأوروبية. فهو يحمل الرقم القياسي العالمي لسباق 10 آلاف متر (30:58 دقيقة). واستعداداً لقطف الذهب الأولمبي، قصد السويد قبل شهر من موعد الألعاب، ودأب على إجراء تدريباته في غاباتها، منفذًا نظريات النقيب هيبرت المستندة على تعزيز اللياقة البدنية والبناء العضلي، فكان يسير مسافات في الغابات يحمل جذوع الأشجار بمعاونة مدرّبه، فضلاً عن مزاولة التمارين السويدية والمصارعة اليونانية-الرومانية، وفضّل الإقامة بهدوء في شقة خاصة بعيدًا من أفراد بعثة بلاده.
وقبل أيام من الألعاب، تعزّزت حظوظ بوان من خلال تحطيمه الرقم العالمي لسباق 5 ألاف متر (15:05 دقيقة) في لقاء ستوكهولم، لكن النتيجة في "ساعة الحقيقة" اختلفت. إذ فاجأ بطل "اسكندينافيا" الفنلندي هانيس كوليهماينن الجميع وتحديدًا بوان، وخطف الفوز بعدما تجاوزه بفارق متر واحد فقط.
فاز كوليهماينن (22 عاماً) في سباق 5 آلاف م الذي اعتبر من أبرز اللحظات التي عاشتها الألعاب الخامسة، وتقدّم على منافسه في الأمتار الـ60 الأخيرة بعدما أحسن التصرف فوفّر جهوده وخزن طاقته للمرحلة الحاسمة.
ولم يكتف كوليهماينن النباتي الذي شارك في سباق للماراثون في سن السابعة عشرة بميدالية واحدة، إذ نال ذهبيتي سباقي 10 آلاف متر والضاحية، فضلا عن فضية البدل في 3 آلاف متر للضاحية (كل عداء يجتاز مسافة 1000 م)، علما أن سباقي 5 و10 آلاف متر أدرجا عامذاك للمرة الأولى في الألعاب الاولمبية.
واحتاط السويديون لأي مفاجآت في سباق الماراثون لئلا يقعوا في خضم أزمة على غرار ما حصل مع الإيطالي دوراندو بييتري في دورة لندن 1908، فطلبوا من كل مشارك شهادة طبية، لكن مع حلول موعد السباق ارتفعت الحرارة بدرجة كبيرة في هذه المنطقة الشمالية وبلغت مستويات استوائية عالية... ونتيجة ذلك تعرض البرتغالي فرانسيسكو لازارو (21 عاما) إلى ضربة شمس" قاتلة، وهي حادثة الوفاة الأولى من نوعها في تاريخ الألعاب. وفي حادثة ثانية، "تعثر" رامي المطرقة الكندي جيليس وهو يرمي الثقل فوقع على قدمه وكسرها.
وثأرت شرطة العاصمة السويدية للأميركيين في مسابقة شد الحبل، وانتزعت الميدالية الذهبية من حملتها شرطة لندن الذي فاز فريقها على الاميركيين في الدورة الماضية.
في ستوكهولم يهبط الليل عند الثانية فجراً ... ولا يكاد ينام الناس، خصوصاً غير المعتادين على هذا النمط، حتى "تلامس" خيوط الصباح جفونهم بعد نحو أربع ساعات، ما جعل كثرًا من المشاركين غير مستعدين بدنيًا.
هذه المفارقة، وما تقدّم من إنجازات لا يقارن أبدا مع قصة الاميركي الأصل جيم ثورب الفائز بمسابقتي الخماسية والعشارية، القصة التي أرخت تداعياتها وتبعاتها على الألعاب... ولا تزال.
إنها "الدراما" التي أعقبت الانتصار الاستثنائي، ولا تزال الحجارة القرميدية في جدران الاستاد الملكي وأشجار اللبلاب التي تظلّلها تتذكّرها...وكلمات الملك غوستاف في يوم تتويج الفائزين التي وجهّها إليه "سيدي أنت أعظم رياضي في العالم" محفورة على قبره، لكن يبدو أن مشكلة ثورب الأساسية هي مع الشهرة، وهي عدوته من دون شك وجالبة الأذية له.
فبعد أشهر معدودة من "المجد الأولمبي"، أوقف ثورب وجُرّد من ذهبيته بداعي الاحتراف وبعدما ثبت انه تقاضى 25 دولاراً ليلعب مع فريق بيسبول في كارولاينا الشمالية... وربما شفافية هذا اللاعب كبّدته ثمنًا باهظًا، لأن ابطالا كثرًا ومنهم أولمبيون كانوا منخرطين في الفرق الأميركية المحترفة بأسماء مستعارة... ولدى التحقيق معه أجاب ببساطة "لم ألعب من اجل المال، قبلت المشاركة لأني أحبّ اللعبة... ومنذ عامين تفرّغت لاستعد للدورة الاولمبية من أجل حصد الميدالية وتشريف وطني".
وأعيد الاعتبار إلى ثورب رسمياً في 23 تشرين الأول-أكتوبر 1983، وقدّم رئيس اللجنة الاولمبية الدولية آنذاك الإسباني خوان انطونيو سامارانش الميداليتين لعائلته على هامش دورة لوس انجليس عام 1984. وصادف ذلك مرور 31 عامًا على وفاته المأساوية.
كان ثورب نموذجًا صارخًا للبطل المثالي، ولم تخطئ الاستطلاعات الدولية التي اختارته "أفضل رياضي في النصف الأول من القرن العشرين".
وإذا كان هذا وجهًا مظلمًا من الألعاب، اتشح سواده في الجانب الآخر من المحيط، فالسويد عمومًا أرادت الألعاب عرسًا خاصًا ومحطة يكتشف العالم من خلالها شعبًا هادئًا، مسالمًا، نشيطًا، وذا أفق منفتح على المستقبل.
وفي اليوم الأخير من المسابقات أي في 22 تموز-يوليو، قلّد الملك غوستاف الفائزين وأبطال المسابقات الفنية والأدبية الميداليات وبينهم ألمانيان يدعيان غيورغ اوهرود وميكايل اسكاباخ فازا بذهبية الشعر، وكان نتاجهما "أوبريت" تغني الرياضة ومعانيها شبيهة بارجوزات بندار في أيام الإغريق. وقيل يومها إن المؤلف الحقيقي لهذه الأبيات هو البارون بيار دو كوبرتان، الذي فضّل أن يبقى خلف الستارة، واختار ألمانيين ليشارك عبرهما في المسابقة، "للدلالة على دور الألعاب في التقريب بين الشعوب متجاوزة النزاعات" كما أوضح المؤرخ الدكتور فيرنك ميزو.
أمنيات حالمة، مهّدت لإقامة الدورة السادسة عام 1916 في برلين... وأعلن الإمبراطور غيوم الثاني بتاريخ 8 حزيران/يونيو 1913، وفي مناسبة استعراض رياضي محلي كبير، ان الاستعدادات مكثفة لاستضافة ألعاب رائعة... لكن الحرب العالمية الأولى داهمت الجميع وأنستهم الألعاب، بعدما كانت الحروب في العصور القديمة تتوقف كرمى لعيون الألعاب.