الحركات المناهضة للشهادة الصحية:

فرنســا: ... ولكــن كيـــف وصلنــا إلـــى هنــا...؟

فرنســا: ... ولكــن كيـــف وصلنــا إلـــى هنــا...؟

- لم يتمكن الساسة من رسم الآفاق الجديدة التي فرضها الدخول إلى الحداثة الثانية
- معارضة اللقاح تؤكد رفض الكونية وتأكيد الذاتية الشخصية
- القطيعة مع القيم الكونية تكشف عن الدخول في حداثة ثانية
- تزدهر الهويات المنغلقة، القومية والمتطرفة سياسياً، وثقافياً، ودينيًا، مما يؤدي إلى تفتيت الفضاء العام
- منذ سقوط جدار برلين، لم تسمح التوجهات السائدة للقوى السياسية الكلاسيكية تفادي التفاوت الاجتماعي


مع الاحتجاج الذي يستهدف في نفس الوقت التطعيم في مبدأه الأساسي، والشهادة الصحية، وشخص إيمانويل ماكرون، تستقر فرنسا أكثر من أي وقت مضى في الجانب المظلم من العصر الحديث، حيث تتحول الصراعات الاجتماعية والثقافية إلى قطيعة مع الحداثة، أو بشكل أكثر دقة، مع الحداثة الأولى، تلك التي ولدت مع عصر النهضة، ثم عصر التنوير. وهكذا تدخل بشكل مؤلم في حداثة ثانية كانت قد اقتربت منها بثقة أكبر. لا يمكن اختزال الحداثة الأولى في صور موجزة لانتصار القيم الكونية للعقل والقانون والعلم وروح التنوير على التقاليد أو الدين أو المجتمعات، بل لقد كان تعايشهم، بفضل الديمقراطية، على وجه الخصوص، يسمح بمعالجة ما يقسّم الجسم الاجتماعي دون عنف. لقد كانت مرحلة تاريخية، افتتحت في أوروبا، حيث اجتمعت الكونية والنسبية، والعقل والدين، والمجتمع المنفتح والأمة، مع الاعتراف في بعض الأحيان، بإخفاقات خطيرة.

لطالما هدد خطران رئيسيان هذه الحداثة الأولى، وكلاهما ينبع من ميول إلى انحرافات وتفكك سجلّين، سجلّ القيم الكونية، وقيم أخرى تتعارض معها.
فمن ناحية، أنصار القيم الكونية المرجح دائمًا أن يدعوا احتكار العقل والتقدم، ورفض كل شيء يبدو لهم أنه ينبع من قيم خصوصية ترتكز على الهراء، والهمجية، والعبثية، واللاعقلانية. لقد اتخذت الانحرافات أشكالًا مختلفة في التاريخ. وهكذا، فإن الشيوعية الحقيقية، وخاصة في الاتحاد السوفياتي، زعمت أنها علم -بروليتاري -لدرجة أن ليسينكو، في عهد ستالين، اخذ الزراعة نحو العديد من الإخفاقات. علاوة على ذلك، قدم الاستعمار نفسه بشكل فيه مبالغة، على الأقل في التجربة الفرنسية، كعامل تقدم ومرادف لدخول الشعوب المستعمَرة إلى الحداثة.

ومن ناحية أخرى، غالبًا ما يكون عدم التماهي مع القيم الكونية مرادفًا للانغلاق، والدعوة إلى مجتمع، وأمة، ودين، يفرض تبعية غير مشروطة، وأنماط مختلفة للقطيعة -الحرب، والعنف الجماعي، والرفض العنصري وكراهية الأجانب، إلخ.
لقد وصلت الحداثة الأولى إلى ذروتها مع الثلاثينات المجيدة، ثم حدثت أزمة كبرى، اتخذت شكل الفصل المتسارع بين السّجلّين.

رفض الكونية
من ناحية، كان يُنظر إلى الكونية وبشكل متزايد على أنها متعجرفة ومهيمنة وتنفي ذاتية أو هوية جميع أنواع الناس والجماعات: النساء، وغير الغربيين، والأقليات، وما إلى ذلك. وامتدت عملية الرفض نصف قرن، واليوم ينتج عنها أشكال متطرفة ومكثفة تظهرها تجاوزات تعبئة صيف 2021 المناهضة للقاح، والمناهضة للشهادة الصحية، والمناهضة لماكرون. بالنسبة للذين يتظاهرون أو يشوهون السلطة على الشبكات الاجتماعية، تنطلق استراتيجية إيمانويل ماكرون الصحية من الاستيلاء التعسفي على فكرة الحرية والعقل والطب والعلوم من قبل القوى الاقتصادية والسياسية -وفي بعض الخطب، من قبل اليهود. وتجد المغالاة هنا فضاء، مع إشارات فاحشة إلى المقاومة وارتداء النجمة الصفراء أو الفصل العنصري.
ومع ذلك، فإن هذه القطيعة مع القيم الكونية تكشف عن الدخول في حداثة ثانية. يطرح الاحتجاج موضوعات جديدة، الجسد، والسلامة الجسدية، والذاتية الشخصية، ويطالب بأخلاق، ليست اجتماعية بقدر ما هي ثقافية، ويروّج مفهومًا، أنانيًا بالتأكيد، للحرية، قريبًا من مفهوم الليبرتاريين الأمريكيين. إنه يشهد على استنفاد الحداثة الأولى وقدرة حركاتها الاحتجاجية، بدءً من الأمس بالحركة العمالية، على التعبير عن وجه من التنوير، منفتح على النقاش والتفاوض والحياة الديمقراطية، وجانب آخر، غامض، يتفاوت منسوب الراديكالية فيه.
لا ترتبط الحركة المناهضة للتطعيم والمناهضة للشهادة الصحية بأي واجهة تنويرية، فهي بعيدة كل البعد عنها. مع انها، في الانتقال إلى الحداثة الثانية، قد ظهرت قبلها.

الوجه التنويري للحركات الاجتماعية والثقافية الجديدة
في الواقع، في فرنسا السبعينات، ظهرت الخلافات، وقدمت نفسها من منظورها التنويري، حتى لو كانت في بعض الأحيان تأخذ مسافة من القيم الكونية.
ومع ذلك، فإن الحركة البيئية الناشئة لا يهيمن عليها منطق القطيعة الخالصة. وهذا ينطبق حتى على أولئك الذين يقررون مغادرة المدينة لخوض تجربة العودة إلى الطبيعة، والأكثر تصميماً منهم، يملكون القدرة على أن يكونوا رواد أعمال في اقتصاد حديث يقومون بتجديده. وتنتقد الحركة المناهضة للطاقة النووية في صميمها عدم وجود ديمقراطية في القرارات المتعلقة ببرنامج الطاقة النووية.إن الطعن في الطب، الذي يرسم في نفس السياق، يقوم على الرغبة في تعديل علاقة المريض بالطبيب، وليس القطيعة معه، وهو ما يتضح من نجاح “دليل الأدوية الأكثر شيوعًا” للطبيب برادال، عام 1974 (منشورات سوي): أصبح قارئه على علم الآن، وهالة الطبيب على المحك، وبات عليه أن يوضّح ويشرح، ويرد على انتقادات محتملة، وبشكل عام، يتم قبول وجهة نظر المريض، ومهنة الطب مدعوة للعناية به، وليس فقط بالمرض. لقد أصبح موضوعًا لا يحتج على الطب، بل على تنظيمه. وهكذا، عندما يمارس مرضى الإيدز ضغطًا شديدًا على المختبرات للترخيص للأدوية ضد الوباء بينما لم تكتمل جميع مراحل التحقق من صحتها من قبل السلطات الصحية، فإنهم لا يرفضون البحث في حد ذاته، بل يريدون الوصول إلى ثماره بسرعة. وتظل الثقة في العلوم والطب كبيرة، فهي ببساطة قائمة، أو تطلب علاقات أخرى.

وينطبق نفس الشيء على الأمور التاريخية. تكمن الأهمية هنا في ظهور الذاكرة، بدء من النهوض اليهودي، ثم الأرميني، في السبعينات، والتي لها تأثير على التاريخ، وقادته إلى التحول. انها لم تكن معادية للتاريخ، وإنما تنتقد التأريخ الذي غالبًا ما يكون سردية وطنية حبيسة غطرسة “قومية منهجية”، والتي تغطي ادعاءاتها الإغفال الناتج، وصعوبة المركزية العرقية في التفكير شموليا.

الاحتجاجات القومية التي ظهرت في نفس الحقبة لم تستبعد في الغالب الانتهاكات الإرهابية في كورسيكا، الا ان حركات البريتون والأوكيتان لم تسلك مطلقا طريق العنف، وضغطها ظل ديمقراطيًا ولا يشكك في القيم الكونية، انهم يطلبون الاعتراف بلغة وثقافة وتاريخ ورغبة في “العيش والعمل في البلد».لا بد أن نكون أكثر دقة واكتمالاً، لكن القارئ سيفهم جيداً الأساسيات: ظهر في أعقاب مايو 68، تحت واجهة تنويرية قبل كل شيء، نزاعات مختلفة ظلت مرتبطة بالقيم الكونية وتعطي معنى لفكرة الحداثة الثانية -سيتحدث بعض المفكرين أكثر عن المجتمع ما بعد الصناعي، أو عن ما بعد الحداثة.

الجانب المظلم للحركات الاجتماعية والثقافية الجديدة
ستشغل واجهة الظل، الصغيرة في السبعينات، مساحة اوسع لاحقًا، وتتقاطع مع الواجهة المضيئة، وبدل ان يتوقعوا الكثير من العلم والطب، يعارض فاعلون ذلك اماميا، بشكل أو بآخر. في الآونة الأخيرة، تنتشر الخطابات العلمية والطبية المضادة، وتعرض نفسها بوقاحة على أنها جادة، وتستعير التصنيفات والكلمات وأشكال التعبير من الخطاب العلمي أو الطبي بطريقة غير مراقبة تمامًا. منتحلون، وبعض العلماء أو الأطباء التائهون، يجلبون هنا عناصر نظام فكري مغلق للنقاش. إن كلمات العلماء الحقيقيين والأطباء الأكفاء، لا يتم التشكيك فيها فقط، بل تعتبر غير مؤهلة، عبر المدونات واليوتيوب والشبكات الاجتماعية؛ ان الأخبار الزائفة تزدهر.

وبالمثل في الأمور التاريخية. بينما في البداية، طلبت الذاكرة اليهودية والأرمنية والاستعمارية وغير الاستعمارية والسود وغيرها من التاريخ أن يعترف بالحقائق المرفوضة أو المنسية أو التي تم التقليل من شأنها، تطورت “ثقافة الإلغاء” في العديد من النواحي، إنكار المقاربة التاريخية نفسها، وفي أبعد ما يكون عن الحياة الفكرية في الديمقراطية: تم محو أجزاء كاملة من الماضي، وحل محل النقاش النبذ والشجب والتخويف، وهجمات أخرى.

وهكذا تزدهر الهويات المنغلقة، القومية والمتطرفة سياسياً، وثقافياً، ودينيًا، مما يؤدي إلى تفتيت الفضاء العام... العنف يتربص. وبشكل عام، لم تعد القيم الكونية موضع نقد، وهي جزء من أمتعتهم الخاصة، بل يتم إدانتها ورفضها، وإدانة وشجب من يبشر بها أو يجسدها، سواء أكان من النخب السياسية أم الإعلامية أم الاقتصادية أم الفكرية. وضمن هذه، تظهر فجأة أيضًا، خطابات متشددة ومتطرفة، وميول إلى المكارثية، والوصم، ومنطق القطيعة التي تتفوق على خطابات الحوار والنقاش. ويتم التلويح بالقيم الكونية، ومن جانب واحد، بطريقة تعويذة أو حربية، ويلقي أنصارها الطفل بسرعة في مياه الاستحمام، مما يؤدي إلى دمج أسوأ انزلاقات المناهضين للقاح والمناهضين للشهادة الصحية أو “ثقافة الإلغاء” والوجه المضيء للاحتجاجات المعاصرة: كاتب هذه السطور يصفه البعض “بالذكر الابيض المهيمن”، والبعض الآخر “باليساري الإسلامي”! لم يعد هناك مساحة للحوار والفروق الدقيقة، يزدهر التطرف بجميع اشكاله.

هناك ظرف سيئ، ينفصل فيه الجانب المظلم من الاحتجاجات الجديدة، تلك التي تتوافق مع الدخول إلى حداثة ثانية، وتتعارض مع الجانب المضيء. من جهة، يحتمل أن تكون القيم الكونية قد حرّفت من قبل أولئك الذين ينتحلونها، بما في ذلك باسم الجمهورية أو العلمانية، ومن ناحية ثانية، يتم إنكارها أو خصوصا توظيفها وعكسها، ومن ناحية ثالثة، يواصل الوجه المضيء للحركات الاجتماعية والثقافية الجديدة طريقه. لقد تم إضفاء الطابع المؤسسي على قضية البيئة إلى حد وجودها في كل الخطب السياسية، لكن “الإيكولوجيا العميقة” لا تختفي.لقد استنفدت مناهضة العنصرية الكلاسيكية والكونية إلى حد ما، في حين بدأ يتبلور التركيز على “العرق” من قبل أشخاص “عرضة للعنصرية”، ربما تمهيدًا لحرب الأعراق. إن الحركة من أجل المساواة بين الرجل والمرأة، أو العمل القوي جدًا الجاري حاليًا لمقاومة العنف ضد المرأة، لا يمنعان الكثير من الخطابات الحربية، أو الخطوط العريضة للحرب بين الجنسين، أو التنديد بـ “نظرية النوع الاجتماعي” غير الموجودة. ان الغالبية العظمى من مسلمي فرنسا حريصون على إيجاد مكانهم في المجتمع، مثلهم مثل معتنقي الديانات الأخرى، لكن الإسلام الراديكالي حقيقة واقعة. وفي النقاش العام، لا توجد مساحة كبيرة للفوارق الدقيقة، والمواقف المعتدلة مرفوضة.

مسؤولية النخب
تتحمل النخب مسؤولية في الوضع الحالي. هذا هو الحال أولاً بالنسبة للقادة السياسيين، الذين، بشكل عام، لم يتمكنوا من رسم الآفاق الجديدة التي فرضها الدخول إلى الحداثة الثانية، ولا الاستجابة لمخاوف، وغالبًا صعوبات، أولئك الذين يخشون تركهم في الهامش ولمصيرهم.

منذ سقوط جدار برلين، لم تسمح التوجهات السائدة، التي كانت واثقة تمامًا، على اليمين كما على اليسار، ولأسباب تتعلق بالميزانية والإدارة، والمنفتحة جدًا على الليبرالية الجديدة والسوق، لم تسمح للقوى السياسية الكلاسيكية أن “تتجنب” التفاوت والظلم الاجتماعي؛ وأدت أزمة التمثيل السياسي إلى تفاقم النظام الرئاسي المدرج اصلا في قلب الجمهورية الخامسة. إن عيوب الدولة الإدارية وإخفاقاتها، والاتصال الحكومي الذي يقترب أحيانًا من الأكاذيب، كما كان الحال مع مسالة الكمامات والاختبارات، ولوائح اتهام الوزراء، وقضية بن علا، وما إلى ذلك، كلها عوامل أدت إلى تفاقم انعدام الثقة. وقد لوحظ هذا منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فالسلطة الحالية ليست وحدها موضع التساؤل، لكنها فشلت حتى الآن في استعادة الثقة.

ما هي نتيجة التمسك بأساليب التفكير التي تشهد على الدخول إلى الحداثة الثانية تحت يافطة انحراف القيم الكونية؟ رفضهم أو جهلهم ليس بالأمر الجديد. لكن هناك شيئًا آخر في الوضع الحالي: أولئك الذين لا يثقون في العلم والطب والتاريخ، يشيرون باستمرار إلى ما يمكن أن يكون حقيقة علمية وطبية وتاريخية، ويلوحون ببيانات ومعلومات ودراسات، ويقترحون أحيانًا تفكيرًا معقدًا ومرتبا، وحجج تحتوي على كل مظاهر العقل. ويمكن أن يتغذى إنتاج ومحتوى هذه الحقائق الزائفة العالمية والشاملة من اعمال جادة، يسرفون ويبالغون في تفسير نتائجها، أو تخلط دون خجل مع اعتبارات وهمية. ولكن كيف تلتزم أقسام كاملة من المجتمع بالأخبار الكاذبة بهذه الطريقة؟ وما هي الآليات التي تضمن نشرها أو حتى نجاحها؟

يمكننا أن نعتقد أن الشخصية الرقمية في الوقت الحاضر لها دور كبير في هذا: عندما لا يكون هناك نقاش حقيقي، عندما يحل الاتصال الافتراضي محل العلاقة الشخصية، عندما يتم اعتبار الذين في حوزتهم المعرفة والمعلومة والمعارف والمهارات، على انهم منغلقون على ذواتهم، يبدو أن كل شيء، وما يقولونه، وما يقال أو يكتب في مكان آخر، صحيح. ان الإنترنت يسمح بالوصول إلى قدر هائل من البيانات، ويصبح الجميع، مسترشدين بما يدور على الشبكات الاجتماعية، عالمًا وطبيبًا ومؤرخًا بمفرده، دون اجتياز أي من الاختبارات التي تثبت صحة مثل هذه الصفة. وتتم المصادقة على صحة هذا التنصيب الذاتي من قبل مستخدمي الإنترنت الذين يتقاسمون نفس الأفكار والمعرفة الزائفة عن قناعة، والذين يمكن أن يكونوا كثيرين، مما يؤدي إلى زيادة الاعتراف بـ “الأقران” الذين يشرّعون ما يسمّى بصدق أو حتى علمية ما يعمّم.

لكن من الذي يسقط في التيار، أو يحتمل أن يسقط هكذا؟ يجب أن نعود هنا إلى أوج الحداثة الأولى، وبالتالي إلى الثلاثينات المجيدة، وإلى اثنين من خصائصها. الأولى هي أنهما حملا للجميع ولكل فرد، لنفسه ولأولاده، الوعد بعالم أفضل، ومستقبل مشرق، وحركية تصاعدية. والذين، لاحقا، انتابهم شعور، له ما يسنده أم لا، أن هذا الوعد لم يشملهم، أو أنه لم يتم الوفاء به، أو أنه لم يكن كذلك، فانهم يعتقدون أن النخب، تعيد إنتاج نفسها بخطاب يتضمن وعودا لصالحها، وفيما تبقى، خطب في قطيعة مع الواقع.

إحباط واستياء وحنق وغضب، في بعض الأحيان، وشعور بالخداع وبعدم الاعتراف أو الاحترام، قد أدى إلى فضول محموم، ويقين بالقدرة على إعلام النفس، بالاستغناء على النخب التي تعتبر كاذبة، والاقتناع بالقدرة على تقرير المصير ذاتيا حيثما سيكون بدون أفق.السمة الثانية للحداثة الأولى: حتى الثمانينات، كانت تستند إلى مبدأ الصراع الاجتماعي -الصراع البنيوي بين الحركة العمالية وأرباب العمل -الذي تمدد بآفاق المعاملة السياسية. ووجدت الانتظارات والمطالب الاجتماعية والمخاوف والهواجس والآمال، أيضًا شيئًا يمكن ان يمثّلها بشكل ملموس، كان هناك مستقبل للجميع، وليس فقط للمسيطرين، والذي يمكن التفاوض بشأنه بين هذا وذاك. لقد ولت تلك الأيام، وجزء كبير من الذين يتخلّفون ويتدحرجون هكذا اليوم، ينقلبون ضد أولئك الذين يستمرون في الادعاء بأنهم يجسدون العقل أو القانون.

ما ورد أعلاه لا يستنفد التحليل. لطالما حاربت الخلفية القديمة القيم الكونية باسم التقاليد أو المسيحية أو القومية المتطرفة أو العادات المتجذرة بعمق في الثقافة الفرنسية؛ وبالتالي، هناك مجموعة لا حصر لها من اللجوء إلى السحر، أو الشعوذة والتعويذات، أو إلى الأدوية غير التقليدية.
والآن ما العمل؟

إلى أي مدى يمكن لتحليل مثل الذي نقترحه أن يلقي ضوءً مفيدًا في مواجهة الطوارئ، وبالتالي العمل في المجال الصحي؟
نقطتان تبرزان هنا. الأولى هي المخاطر التي تسارعت من خلال عمليات التفكك التي تم تحليلها انفا. إن رفض العقل، ولكن أيضًا الانعكاس، واستخدام الفئات التي تحاكيها مدين كثيرًا لغياب العلاقات الحقيقية بين الفاعلين في الأعمال والسياسة والاقتصاد والطب، وما إلى ذلك، من ناحية، ومن ناحية أخرى أولئك الذين سينحرفون بسبب عدم التبادل، والاستماع إليهم، واحترامهم. من المحتمل أن تكون قد تشكلت نواة صلبة غير قابلة للاختزال، وقطاعية طائفية، يصعب مواجهتها. لكن كل الذين ينحرفون ليسوا موجودين، فمن المهم ابتكار أو ترويج أي شيء يمكنه إعادة تشكيل أشكال ملموسة من النقاش والتبادل، مع احترام الجميع، وتجنب أي تنحية، أو أي وصم بالنسبة للذين لم يعودوا يروا أنفسهم بشكل عفوي في خطاب النخب. عودة الثقة تستدعي سياسات الاعتراف والاحترام.

النقطة الثانية هي قبول مبدأ الصراع. إن عدم رفض من يفكر “بشكل سيء” من دون معنى لا يكفي: مواقفهم مرتبطة بمعاني اجتماعية وثقافية وسياسية، لا تنتظر كلها أن تحل، بل ان يتم التعاطي معها. من وجهة النظر هذه، فإن الالتفاف على “الهيئات الوسيطة” النموذجية لسياسة إيمانويل ماكرون يتعارض مع عمل طويل الأمد يهدف إلى الحد من خلال المناقشة اللاعقلانية والتجاوزات والعنف احتجاجا على الاستراتيجية الصحية الذي يستدعيه الاستعجال وخطورة الموقف. نحن بحاجة إلى مزيد من الديمقراطية، والمزيد من المعالجة السياسية لما يقسّم الجسم الاجتماعي، الأمر الذي يتطلب الوجود المستقل للوساطات، ولا سيما من خلال إعادة سحر التمثيل السياسي.
العودة إلى العلاقات الحقيقية، المعالجة الديمقراطية للنزاعات: كلما تم قبول هذه المطالب من قبل أولئك الذين يشغلون مناصب السلطة والنفوذ، كلما وجدت الديناميكيات الخاصة بالحركات الاجتماعية والثقافية الجديدة في واجهتها المضيئة فرص عمل. سوف يتراجع رفض القيم الكونية. لذا فإن الحداثة الثانية لن تخلو من الصراعات، بل على العكس تمامًا. لكنها ستعرف كيف تتعامل معها.


* عالم الاجتماع والأستاذ في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، مؤلف كتاب “من أجل ديمقراطية مقاتلة” (منشورات روبر لافون)، و “اليهود والمسلمون والجمهورية” (مع فهراد خسروخافار، منشورات روبر لافون) و”اللاسامية للشباب” (منشورات سوي).