هذه الخمسون : ثراء التجربة و الثبات على المبدأ

كأنه بالأمس..كأنه اليوم..و لا حاجة لتنشيط الذاكرة

‏ كأنه بالأمس، كأنه اليوم. و لا يحتاج الأمر لتنشيط الذاكرة و استدعاء بعض أجمل ما احتضنته وديعةً ذهبيةً لا تصدأ ، و لا تُغيرها تقلُبات الحياة المُرة و لا ‏يمحوها الزمن ، و حتى لو تقدمنا في العمر، و غمرنا، أحيانا، إحساس غريب ‏أننا نطعن في الشيخوخة فإننا  كثيرا ما نغالب ذلك الإحساس بقناعتنا أن الكتابة ‏لا تشيخ و نقهر هذا الشعور بما يفيض من الأمل أن « الفجر» يعقبه دوما فجر ‏جديد ...‏

‏ إنني أذكر جيدا ذلك اليوم الذي دعتني فيه الصديقة الصحافية منى غباشي ‏،رحمها الله ، الى زيارة مكاتب جريدة الفجر بشارع ألكترا ، غير بعيد عن مقر ‏جريدة الوحدة التي اُسْتُقدمتُ للعمل بها من تونس ،حيث سبقتني الضحكات  ‏المُجلجلة للكاتب الكبير محمود السعدني ، رحمه الله ، و صفاء حِبْره و رؤيته ‏القومية التي جَند لها قلمَه طول حياته.لم يكن غريبا أن يلتقي محمود السعدني ‏بصاحب هوى عربٍي صَميم آخر تَركَ عالَم البنوك و الأعمال ليستثمر القليل مما ‏عنده منها في مشروع اعلامي يجسد رؤيته الوحدوية و لم يكن قد مضى على اتحاد ‏الامارات العربية المتحدة إلا سنتان و بضعة أشهر،  وعلى الانتصار العربي في ‏حرب أكتوبر إلا تقريبا نفس المدة. إنه الاستاذ عبيد المزروعي ابن عجمان ‏الذي نحت في الصخر ليتعلم و ليُدرك أعلى المناصب  في مؤسسة بنكية ، و ‏مواطن الإمارات المُخلص الذي ساهم في إعلاء صوتها و صورتها ، و سليلُ الأمة ‏التي حمل همومها و أوجاعها.‏
و لم يكن غريبا كذلك، و قد التقى الرجلان على فكرة نبيلة و طموحة ، و في ‏سياق البدايات الصعبة و لكن الحاملة لكل الأفكار الحالمة و المُشَجعة على ‏المبادرات الرائدة أن تحمل شعارا  أمْلَته مُهجة رفيقيْ الطريق الصادقة :«صوت ‏الخليج العربي و الضمير العربي» ..
و لم يكن هذا الشعار إلا صدى لتلك المقولة ‏الشهيرة  والنبيلة التي أطلقها الشيخ زايد آل نهيان «النفط  العربي ليس أغلى من  ‏الدم العربي» أثناء حرب أكتوبر التي كان الذهب الأسود أحد أسلحتها لتحقيق ‏النصر. ‏
رفيق الطريق الثالث ، ابن مصر العربية ، الفنان و رسام الكاريكاتير محمد العكش ، ‏سليل المدرسة الناصرية ، الذي لم يكن يهتم بما يهتم به أغلبية الوافدين على ‏الإمارات من» جمع القرش الأبيض لليوم الأسود «بقدر ما كانت رغبته في أن يعبر ‏بالرسم عن تلك التحولات العميقة التي كان يشهدها المجتمع المحلي و تشهدها ‏الساحة العربية و بما عرفته هذه الأخيرة من نجاحات و انتصارات و خيبات و ‏هزائم أيضا ...لقد ظل محمد العكش وفيا لجريدة الفجر ، و لم ينتقل إلى غيرها ‏كالعديد ممن التحقوا بها ، و واحدا من أبرز أعمدتها ، في كل المراحل و الظروف ‏التي مرت بها ، ظل يراقب و يرسم و يُدير و يَسْتَكتب و يوجه و يُفاوض على ‏حقوق العمال ، و مِحْرارا لما يُمكن أن يُكتب فلا يُحرج ، و لما يمكن أن يُعقد من ‏صداقات و ولاءات ...لم يغادر العكش ، كما كان يُنادى في أغلب الأحيان ، الفجر  إلا بعد أن استوفى التجربة ، بعد إقامة امتدت إلى حوالي 30 عاما مُستظلا بخيمة ‏‏«الفجر» و ربما لا يزال.‏

لقد مرت الفجر ، بفترات ازدهار و عنفوان و تألق ‏أعلامي بفضل فرادة أسلوبها و كفاءة العملين بها و بسبب ثباتها الدائم على خطها ‏التحريري الوحدوي ،داخليا و اقليميا، فلم تشغلها عصبيات جهوية، ولا ‏تحالفات إقليمية بقدر اهتمامها بأن تعلو سيادة الإمارات المُوحدة على أي ‏تجاذبات و صراعات قد تمس من هذه السيادة، مُستلهمة من دروس رئيسها ‏الذي كان أبا للجميع و أخا لسائر حكام الإمارات كما سندا لجميع الدول العربية ‏في فتراتها العصيبة، و في مراحل بنائها الذاتي. هذا النفس الوحدوي عكسه ما ‏اجتمع في إدراتها و مكاتبها  و على صفحاتها من كتاب وإعلاميين و مثقفين من ‏الإمارات و من مختلف الدول العربية عملوا بها أو رسموا مُهج قلوبهم على ‏صفحاتها أو ترددوا عليها أثناء زياراتهم للإمارات ضيوفا أو في مهام  .‏

‏ كم  احتضنتنا الفجر، كم شربنا من فناجين الشاي و القهوة ، كم تناقشنا ، كم ‏حَللنا، كم استشرفنا، كم اختلفنا، و كم شهقنا بكاء أثناء  احتلال بيروت و ‏مجزرة تل الزعتر، و كم تجادلنا عند اتفاقية كامب دافيد و بداية الحرب العراقية ‏الإيرانية، و لكن كم اتفقنا على شجن واحد و ألم واحد ، و أمل واحد أن تنهض ‏هذه الأمة العربية و كم كتبنا مدفوعين بذلك الأمل و لا رقيب علينا إلا شعار «الضمير العربي» و تلك الحرفية التي كنا  نكتسبها يوما بعد يوم.. وكم اجتمعنا ‏على حب و افترقنا على حب أصوات من مختلف بلاد العرب .
من الامارات ‏العربية المتحدة :عبيد المزروعي ، عبد الله المزروعي ،أحمد المزروعي ، عائشة ‏المزروعي، أحمد راشد ثاني، ظبية خميس، نجوم الغانم، و آخرون و آخرون ‏‏.

من فلسطين :شمس الدين الضعيفي(أحد أبرز أصوات فلسطين الحرة ) ، ‏راجح الطل، أحمد كلش( صوتا منظمة التحرير الرسمي.... ) و آخرون. 
من مصر‏‏: أحمد نافع ،أسامة عجاج (كم اختلفنا مع هذين الأخيرين حول اتفاقية كامب ‏دافيد و سياسات الراحل أنور السادات لكنه اختلاف  كانا يقابلانه بكثير من ‏الرقي)، سيد شحم ، نجوى فؤاد ، هندي غيث، محي الدين نافع ، سهير مراد، ‏عبدالفتاح الفيشاوي ( ذاكرتنا الثقافية و الفنية العظيمة )  الراقي خُلُقا و معرفة و ‏ثقافة عبد الوهاب قتاية، و آخرون ممن تحضر صورهم الآن  في ذهني و إن ‏تبعثرت أحرف أسمائهم على لساني ....من العراق : صلاح العامري، عبدالجبار.

‏من لبنان : الرقيق حسن الديراني الذي كنا نستنهض جهوده من أجل المزيد من ‏الاعلانات و آخرون.‏
أعترف الآن ، بعد كل هذه  السنوات الطويلة، و بعد هذا الغياب الكبير عن ‏جريدة الفجر ، غيابٌ امتد لأمد أكاد لا أصدقه ، أنني أنا المتخرجة من قسم ‏الفلسفة بجامعة السوربون ، قد تعلمت الكثير من أصول الكتابة الصحفية  بهذه ‏الجريدة ، و بالذات على يد الإعلامي  المتميز المصري الذي كان يعيش ببيروت ‏الاستاذ علي  جمال الدين صاحب الوكالة الصحافية» أورينت بريس» و الذي ‏كان يمدنا بإنتاج وكالته باستمرار ، وبالذات طريقة وضع العناوين التي تشي ‏- برشاقة - بموضوع المقال دون أن تكشفه بالكامل، و طريقة كتابة الستوري ‏الثقافي بشكل تحسد عليه نفسك، وطريقة إدارة  الحوار و طرح الأسئلة التي ‏تُفاجئ بها محاورَك و قراءَك على حدٍ سواء، كما أنني مدينة أيضا للمرحوم ‏الأستاذ أحمد نافع صاحب الثقافة الرفيعة الذي كنا نقول عنه إنه «صنايعي» ‏صحافة لحرفيته العالية و لعل أبرز ما تعلمت منه ،و قد كان يُثني دائما على ‏أسلوبي و سلامة لغتي ، هو كيف يمكن أن تكتب دون ثرثرة و أن تؤدي بشكل ‏مقتصد ما تريد تقديمه في فقرات طويلة .‏
لقد اختلفنا معه في الخط التحريري للصحيفة أيام كامب دافيد حتى أننا شعرنا و ‏بعض الزملاء من الأقسام أننا نصدر صحيفتين مختلفتين في عدد واحد، و أدرك ‏الأستاذ أحمد نافع الذي كان له الفضل في انتقال الفجر بسلاسة من صحيفة  ‏أسبوعية إلى صحيفة يومية هذه الفجوة فغادر الصحيفة مع الاحترام الذي يليق ‏به .

لقد كان الأستاذ المرحوم أحد أساتذتي في مهنة الكتابة الصحافية و ما زلت ‏على يقين إلى اليوم أنه كان الأجدر بالتربع على عرش الأهرام العريقة من غيره لو ‏لا حسابات السياسة و ولاءاتها .‏
مرحلة « توطين» الفجر كانت ضرورية في  مرحلة من مراحل عطائها فقد نشأ ‏جيل جديد من المتعلمين من خريجي الجامعات العربية و الأجنبية أو من جامعة ‏العين الفتية انضم بعضهم  إلى أسرة الفجر بتشجيع من الأستاذ عبيد المزروعي ‏الذي فتح لهم فرصا عديدة ليكونوا من صحافييها أو مراسليها أو كتابها، و ‏استكتب أحمد المزروعي عددا من طلبة جامعة العين أو من خريجيها و أصدرت ‏الفجر حينذاك ملحقا للشعر النبطي (فجر الشعراء) و قد كنا أصدرنا ملحقا ثقافيا فتحناه لكافة ‏الكتاب العرب، كما استكتب محمد العكش و غيره ممن توالوا على إدارة الصحيفة ‏عددا آخر من هؤلاء الشبان الذين خَطَوا خُطواتهم الأولى في مجال الصحافة و ‏الكتابة الأدبية و أصبحوا بعد ذلك من أعلام الأدب بدولة الإمارات.‏

في فترةٍ ما أبْحَرت الفجر في مراحل عديدة منها ما يخص وضعها الداخلي مثل ‏توالي مدراء التحرير عليها و إدارة مبنى فخم بكل تكاليف إدراته المادية، و ‏الإحاطة بعدد كبير من الصحافيين، و مراسلي الجهات و من الخارج، و إدارة ‏المطبعة التي اقتصر عملها في فترة من الفترات على طبع الصحيفة دون ايرادات ‏أخرى تُذكر ، و إدارة أسطول من السيارات،‏ و الأهم من كل هذا الثقة الكبيرة التي كان يضعها الاستاذ عبيد المزروعي في أغلب ‏مسؤولي الإدارات المختلفة للصحيفة دون رقيب .

ثم تولت السيدة عائشة المزروعي الإدارة العامة ‏للصحيفة ، مُضحية بمنصب هام بإحدى المؤسسات الوطنية الكبرى،و كان عليها أن ترسم ‏، بجدية و صرامة ، خططا جديدة لتطوير «الفجر»‏، و أن تُبقي على مؤسسة الوالد عبيد ‏المزروعي الصحفية العريقة حاضرة على الساحة الإعلامية، وفية لنُبل رسالتها ‏الأولى و رقيها ، مستعينة بوسائل التكنولوجيا الحديثة لتحقيق مزيد الانتشار .‏

في هذه المهمة استعانت السيدة عائشة المزروعي بشاب متعلم مجتهد ‏، قليل الكلام ، كثير الفعل ، تدرج في المهام الصحفية دون أن يقفز على أحدها و ‏هو الدكتور شريف الباسل الذي رافق المديرة العامة في ما يسمى في عالم ‏الاقتصاد برحلة التطوير التي تواصلت بهمة، و شغف كبيرين، و التي  تزين اليوم هذا ‏الاحتفال بالذكرى الخمسين لميلاد هذه المؤسسة الرائدة في تاريخ الصحافة ‏بدولة الإمارات العربية المتحدة.‏

في أواسط هذه الرحلة التحق زوجي رحمه الله عبد المجيد الجمني بالصحيفة ‏مراسلا لها من تونس، ومحللا سياسيا و مترجما لها مقالات من كبريات الصحف ‏الفرنسية. لعل بل الأكيد أن عبد المجيد الجمني وجد في «الفجر» صدى لهواه  ‏العربي القومي و فسحة لأن يكتب في زاويته، و يعبر عن همومه القومية و قد ‏كافأته الفجر حيا و ميتا عن صدقه و إخلاصه قبل حرفيته و تمكنه، فقد أعطى ‏الجريدة الكثير من وقته و صحته و إحساسه بالانتماء لأسرة أصيلة .‏

لكن هل يمكن أن أنسى الحديث عن الجنود المجهولين الذين رافقوا مسيرة « ‏الفجر» منذ بداياتها : 
من الإدارة: السيد آمال راتب، و الصديق ابن الهند يوسف ‏شنالور، و أبناء بلده المصور سوراج، و كرماني، و البدالة رازو، و غيرهم  الذين خدموا ‏الجريدة بإخلاص، و كذلك من الفنيين السيد مصطفى حامد الذي كان يغيب عن ‏الفجر مدة ثم يحمله الحنين إليها، و غيره من زملاء المهنة الذين كانوا أمناء على ‏هذا المنبر لا فقط كمصدر رزق لهم، و لكن امتنانا و وفاء لصاحبه الأستاذ عبيد ‏المزروعي الذي كان يمثل ملجأ لهم، فلم يكن الأستاد عبيد يرد أحدا يطلب عملا أو مساعدة قانونية أو مادية .‏
لِتظل الدار كبيرة عامرة بأصحابها، و موظفيها، و المنتسبين إليها و لْتُحقق الفجر ‏في خمسينيتها و ما بعد خمسينيتها مزيدا من التألق و الألق.و عهدا أن لا ننساها ‏أبدا .‏