تشكيل الحكومة الإيطالية رقم 67

لماذا تعاني إيطاليا من عدم الاستقرار السياسي...؟

لماذا تعاني إيطاليا من عدم الاستقرار السياسي...؟

-- على الحكومة الايطالية الحصول على الأغلبية في مجلسين، وهذا يجعل الأمور أكثر تعقيدًا
-- تفويض الصعوبات إلى حكومات التكنوقراط ليس حلاً، وهي علاج أسوأ من العلّة
-- الرغبة في حماية الديمقراطية الإيطالية من الفوضى أدت إلى المزيد من عدم الاستقرار


كلف الرئيس سيرجيو ماتاريلا رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق ماريو دراجي بتشكيل الحكومة الإيطالية رقم 67. ويعود عدم الاستقرار السياسي هذا، بالتأكيد، إلى مؤسسات شبه الجزيرة، ولكن أيضًا إلى فضيحة التمويل غير المشروع للأحزاب في التسعينات.
لم تصمد أكثر من عام وأربعة أشهر وعشرين يومًا، قدمت حكومة جوزيبي كونتي الثانية، المتحالفة بشكل خاص مع الحزب الديمقراطي (يسار) وحركة 5 نجوم الغير قابلة للتصنيف، استقالتها يوم الاثنين 25 يناير، بينما كان رئيس الحكومة لا يزال يأمل في أن يتمكن من توسيع أغلبيته.

بدأ كل شيء في 13 يناير، عندما سحب سلفه، ماتيو رينزي، حزبه ايطاليا فيفا -المولود من انقسام داخل الحزب الديمقراطي -من الائتلاف الحكومي، بسبب الخلافات حول تخصيص أموال خطة التعافي الأوروبية، كما أكد لصحيفة لوموند.

والدور الآن على ماريو دراغي لقيادة المفاوضات لتشكيل حكومة جديدة. وضع ليس الأول من نوعه بالنسبة لإيطاليا: إذا تمكن الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي من تشكيل حكومة، فستكون هي السابعة والستين منذ فترة ما بعد الحرب.

 وبحسب حسابات صحيفة الباريسيان عام 2019، كان متوسط طول الحكومة الإيطالية 384 يومًا منذ عام 1944، مقابل 532 يومًا في فرنسا منذ عام 1958، وإنشاء الجمهورية الخامسة.

خصوصية
يكمن التفسير الأول لعدم الاستقرار هذا في النظام المؤسسي الإيطالي، الذي يكاد يكون فريدًا من نوعه في العالم. فإذا كانت طريقة التصويت للبرلمان الإيطالي، المزج بين نظام الأغلبية لثلث المقاعد والنسبية للثلثين المتبقيين، لا تجعل المهمة سهلة، فإن إيطاليا تتمتع أيضًا بخصوصية تجعل الاتفاقات الائتلافية أكثر تعقيدًا: “نظام الغرفتين المثالي «.
على عكس الجمعية الوطنية الفرنسية، التي لها الكلمة الأخيرة في حال الخلاف مع مجلس الشيوخ، يجب أن يتفق مجلس النواب الإيطالي اليّا مع الغرفة العليا على كل تشريع، مما يؤدي إلى إبطاء فحصه بشكل كبير. من جهة اخرى، فإن الحكومة الإيطالية مسؤولة أمام كلا المجلسين، حيث يتحتّم عليها، اذن، الحصول على أغلبيتين.

و”إذا كان على الحكومة الحصول فقط على موافقة مجلس النواب، لكان الأمر أسهل على جوزيبي كونتي، الذي حصل على اسبقية بحوالي ستين صوتًا”، يوضح ماتيو غالارد، مدير الدراسات في ايبسوس فرانس.
وكان الرئيس السابق للحكومة قد تحصل على أغلبية ضئيلة في مجلس الشيوخ في 19 يناير الماضي، عندما لعب على التهديد بإجراء انتخابات جديدة، الا ان احتمال تصويتين على العدالة عجّل باستقالته. “على الحكومة الحصول على الأغلبية في المجلسين، وهذا يجعل الأمور أكثر تعقيدًا”.  ومع ذلك، لا يبدو أن إيطاليا مستعدة للتراجع عن هذا التفرد.

عام 2006، رفض الإيطاليون تعديل الدستور الذي ينص بشكل خاص على جعل مجلس الشيوخ غرفة الأقاليم، دون التمكن من التصويت على الثقة في الحكومة، بنسبة 61 بالمائة، حيث يخشى اليسار من عدم التضامن بين الشمال والجنوب.
كما تم رفض تعديل مماثل للقانون الأساسي عام 2016 بالنسبة نفسها، بسبب عدم شعبية رئيس الحكومة آنذاك ماتيو رينزي. لذلك يبدو أن نظام الغرفتين الإيطاليتين أمامه مستقبل مشرق.

عملية الأيادي النظيفة
 أو ضرب مصداقية
 جميع الأحزاب
في بداية التسعينات، سيغيّر حدث مجمل الحياة السياسية الإيطالية: عملية الأيادي النظيفة.
تحقيق واسع سلّط الضوء على نظام الفساد والتمويل غير القانوني للأحزاب السياسية، ترسم صوفيا فينتورا، أستاذة العلوم السياسية في جامعة بولونيا، “مما تسبب في تفكك الأحزاب المركزية مثل الحزب الاشتراكي، والحزب الشيوعي سبق ان أضعفه سقوط الاتحاد السوفياتي والديمقراطية المسيحية “، التي سيطرت حتى ذلك الوقت على الحياة السياسية للبلاد. لقد اهتزت وانقلبت هذه الأخيرة الى درجة أن علماء السياسة يؤرخون بداية من هذه الفترة إلى ظهور “الجمهورية الثانية” الإيطالية، التي تلت -بشكل رمزي فقط -الأولى التي نشأت في فترة ما بعد الحرب.

لم تستعد الأحزاب السياسية الإيطالية عافيتها أبدًا. بالطبع، حاول اليمين واليسار طيّ الصفحة عن طريق دفع النظام السياسي الى الاستقطاب حول الائتلافات المبنية على فورزا إيطاليا لهذا، وعلى الحزب الديمقراطي لذاك. ومع ذلك، “ظلّ نظامًا حزبيًا يسعى إلى البقاء؛ فلا اليسار ولا اليمين لديهما القدرة على البحث عن شيء جديد”، تنتقد الباحثة الإيطالية.
تبع ذلك، كما تقول، طابع “الفرجة” في الحياة السياسية تحت تأثير التلفزيون وسيطرة “العابر والزائل”، وهو ما انعكس حتى داخل مؤسسات شبه الجزيرة: منذ عام 1994، غيرت إيطاليا نظام التصويت ثلاث مرات، ممزقة بين النسبية والنسبية المختلطة، وربما لم ينتهي الأمر بعد. “كل أغلبية تضع طريقة تصويت جديدة من المفترض أن تفيدها، يشير ماتيو غالارد، وفي الوقت الحالي، نحن نتحدث عن طريقة تصويت تم التفكير فيها من قبل اليسار وحركة 5 نجوم، على النموذج الألماني.»

مشهد مضطرب
سينتهي هذا الاستقطاب الثنائي عام 2011، تقول صوفيا فينتورا، عندما عجز اليمين “على معالجة أزمة  اليورو ، والمشاكل بين الحلفاء”. وتحت ضغط الاتحاد الأوروبي، دعا ماريو مونتي، المفوض السابق في المفوضية الأوروبية لتصحيح الحسابات.
قرار اتمّ ضرب مصداقية الأحزاب، ومنح أجنحة للحركة الشابة 5 نجوم، والتي تزعم أنها “مناهضة للنظام”، لتدخل البرلمان لأول مرة عام 2013 بـ 163 نائبا، متقدمة على جميع معارضيها.
أدى ظهور 5 نجوم إلى تشويش معالم الأحزاب السياسية، لأن “كونك معاديًا للنظام لا يقول شيئًا عن مواقفك فيما يتعلق بالسياسة الاجتماعية والهجرة والسياسة الأوروبية”، يلاحظ ماتيو غالارد.
وبعيدًا عن كونه حكرا على إيطاليا، فإن “انفجار الأنظمة الحزبية” هذا، كما تشير استطلاعات الرأي، موجود في جميع أنحاء أوروبا، مع ضعف الأحزاب التقليدية في ألمانيا وإسبانيا وفرنسا بالطبع. اتجاه يقترن بصعود اليمين المتطرف في القارة كما في إيطاليا، مع صعود الرابطة وفراتللي دي ايطاليا، وحسب استطلاعات الراي سيحصد الحزبان الفوز داخل الائتلاف اليميني في حال إجراء انتخابات جديدة.

الحكومات التقنية
 علاج أسوأ من العلّة؟
قد تدفع هذه الاستطلاعات السيئة والأزمة الصحية الأحزاب السياسية الأخرى وكذلك الرابطة -تحت ضغط أصحاب المشاريع الصغرى، قاعدتها الانتخابية -لدعم حكومة ماريو دراغي. الا ان تعيين الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، الذي لم ينتخب قط، يحيي ذكرى “الحكومات التقنية” في إيطاليا، التي خلقت “لحل المشاكل التي لا تستطيع الطبقة السياسية معالجتها”، كما تتهم صوفيا فينتورا.
وتستشهد الباحثة الاكاديمية، بحكومات شيامبي عام 1993، ومونتي عام 2011، وبالتالي دراغي اليوم، كمثال. “هناك تعبير باللغة الإيطالية هو ‘تم وضعه في أمان’.
 هذا ما يفعلونه مع هذه الحكومة التقنية، إنهم يضعون البلاد في امان”.
 ومع ذلك، فإن تفويض الصعوبات إلى التكنوقراط ليس حلاً، تؤكد الباحثة: “لقد أنشأنا بشكل غير رسمي ديمقراطية محمية”، أو كيف ان الرغبة في حماية الديمقراطية الإيطالية من الفوضى تؤدي إلى المزيد من عدم الاستقرار.