في مواجهة الهجوم المضاد الأوكراني

هكذا تُراجع روسيا خطتها الاتصاليّة...!

هكذا تُراجع روسيا خطتها الاتصاليّة...!

-- يلاحظ شكل من أشكال التأخير في بناء خطاب إيجابي حول التقدم الأخير للعملية الخاصة
-- لطالما استند الخطاب الروسي إلى موضوع «القلعة المحاصرة» حيث يعمل الخوف كرافعة لتوحيد السكان


   شهد شهر سبتمبر الجاري تنفيذ أوكرانيا لهجمات مضادة ناجحة في كل من منطقة خاركيف (شمال شرق) وفي منطقة خيرسون (جنوب). استعادت كييف آلاف الكيلومترات المربعة التي احتلها الجيش الروسي سابقًا.    ترافقت هذه الهجمات مع بث صور عديدة للقوات الروسية وهي تفر من القتال في حركة ذعر نسبية باستثناء بعض الانسحاب الاستراتيجي المنظم -ويبدو انها تركت وراءها كمية كبيرة من المعدات العسكرية في حالة جيدة

   في مواجهة هذا التقدم الأوكراني والانسحاب غير المنظم للقوات الروسية، اضطرت القنوات الدعائية الرئيسية للكرملين إلى مراجعة مرتجلة للخطاب الذي تردده حتى تلك اللحظة، والموجّه إلى الرأي العام الروسي وبقية العالم.

تراجع الجيش
وتردد الإعلام
   خلال الأيام القليلة الماضية، انتشرت صور الأراضي التي استعادتها القوات الأوكرانية على المدونات، ولكن أيضًا على الشبكات الاجتماعية. ولئن تم حظر بعضها في روسيا، فإن العديد من السكان يعرفون كيفية التحايل على هذه العوائق. وعلى الرغم من أن الكرملين حاول منع الوصول إلى المعلومات الموضوعية حول غزو أوكرانيا، إلا أنه يجد صعوبة في إنكار حقيقة الوقائع التي يمكن التحقق منها. وفي هذا السياق، تبنى الإعلام الروسي خطابًا يبدو أنه عائم، لغياب خط توجيهي واضح.

   على سبيل المثال، في 11 سبتمبر، حاولت صحيفة روسيسكايا غازيتا، وهي وسيلة إخبارية معروفة بقربها من السلطة، التقليل من شأن المكاسب الأوكرانية. كانت المناورة عرجاء إلى حد ما، لأنه لئن امتدح المقال عملية نفذتها مروحية روسية من طراز ميل مي-25 لمنع القوات الأوكرانية من عبور نهر، كان يكفي للقراء الرجوع إلى خريطة لإدراك أن مكان العملية ذاته يقع في الجزء الخلفي من الأراضي التي كانت تسيطر عليها روسيا في السابق.

    والأهم من ذلك، إذا كانت وسائل الإعلام المقربة من الحكومة تتفاعل دائمًا بسرعة مع تطورات النزاع مع بقائها على الخط المشار إليه، فإننا نلاحظ شكلاً من أشكال التأخير في بناء خطاب إيجابي حول التقدم الأخير للعملية الخاصة.
   بالتّوازي، بدأت قنوات تلغرام في نقل خطاب يسعى إلى تنسيب منجز القوات الأوكرانية، والنكسات الروسية. وإن لم يكن جديدًا، فإن خطابا مبلورا بطريقة جيدة بدأ يطفو على السطح اليوم لتوضيح أن الصعوبات التي تواجه القوات الروسية لا تُعزى إلى الجيش الأوكراني بقدر ما تُعزى إلى الناتو، الذي ربما نشر قواته على الميدان، وإلى مقاتلين أجانب مستقلين.

إمكانية رسملة من قبل المحافظين الروس؟
   يطرح هذا النوع من الحجج من قبل المحافظين الروس والقوميين المتشددين الذين خلصوا إلى استنتاج مفاده بما أنه لا يواجه فقط القوات الأوكرانية ولكن أيضًا تحالفا أطلسيا لا يسمّيه، يجب على الكرملين وضع حد لـ “ضبط النفس” الذي أظهره حتى الآن وضرب أوكرانيا بشكل أكثر عنفًا. لذلك رحبت هذه الأطراف بإطلاق الصواريخ الروسية في 12 سبتمبر، والتي استهدفت البنية التحتية المدنية في خاركيف وأماكن أخرى، مما حرم ملايين الناس مؤقتًا من الماء والكهرباء.    وسبق لهذا الجزء الأكثر يمينية من الطيف السياسي الروسي ان توتر بسبب اغتيال داريا دوغينا، في 20 أغسطس، ابنة المنظر الأوراسي الشهير ألكسندر دوغين ونجمة صاعدة لهذه الحركة. سرعان ما اتهمت موسكو أوكرانيا بارتكاب الجريمة، ونفت هذه الاخيرة أي تورط لها، وتزعم أن الاجهزة الروسية وراء الانفجار المميت.

    لقد أراد الكثيرون، خطأ، تقديم دوغين على أنه عقل فلاديمير بوتين. وكان مع ذلك شخصية أساسية في الأوراسية، وهو تيار إيديولوجي متعدد الاشكال ولد في عشرينات القرن الماضي وشهد نهضة في التسعينات. وعلى هذا النحو، يمكن أن يكون للهجوم الذي استهدفه على الأرجح، واغتال ابنته، تأثير على الأطراف الأكثر محافظة. وبما ان الأوراسية تيار واسع الانتشار، ودوغين شخصية مشهورة، فان هذه الحلقة قد تكون ساهمت في زيادة تطرف الذين يعاتبون الرئيس الروسي على موقفه الرّخو جدا.

    بالإضافة إلى ذلك، لطالما استند الخطاب الروسي إلى موضوع “القلعة المحاصرة” حيث يعمل الخوف كرافعة لتوحيد السكان حول سلطة قوية تشتهر بأنها الوحيدة القادرة على حمايتها. ومع ذلك، فإن هذا النهج لا يكون فعالاً إلا إذا كانت السلطة في وضع يمكّنها من ضمان أمن مواطنيها بشكل فعلي.

    وفي هذا الصدد، لئن يسمح هجوم 20 أغسطس، بتبرير استمرار العمل العسكري في أوكرانيا، فانه يضعف مصداقية هذه الكفاءة الأمنية. وحتى لو تم استغلال هذا الهجوم لتبرير “العملية الخاصة” في أوكرانيا، تظل الحقيقة أنه يخاطر بتعزيز موقف المحافظين الذين قد يخشون، مثل عائلة دوغين، على سلامتهم. وقد يؤدي هذا إلى تصاعد التوترات بين هذه التيارات السياسية الراديكالية والسلطة القائمة على حساب الكرملين.

رهان الوقت
   أخيرًا، وراء العمليات العسكرية الجارية حاليًا في أوكرانيا، يمكن أن يمثل الوقت مشكلة لكلا الجانبين. بالنسبة لروسيا، التي ستضطر إلى تعديل استراتيجيتها في أعقاب الهجوم المضاد، قد يتعلق الأمر بالصمود في مواقعها والحد من خسائرها، بينما تنتظر حلول الشتاء لمساعدتها عسكريًا وسياسيًا.
   ويمكن أن يحاول الكرملين بعد ذلك احتواء تراجع قواته بينما يراهن في الوقت نفسه على الضّجر الغربي. وهذا الأخير ستغذيه تحولات الرأي العام الخاضع لضغوط التضخم المزدوجة وأزمة الطاقة المحتملة التي ستتفاقم بسبب الشتاء. وفي هذا السياق، لا غرابة في أن الأصوات الغربية، التي تبيّن قربها الأكيد من موسكو، تدعو أكثر من أي وقت مضى لرفع العقوبات، الأمر الذي من شأنه أن يعطي جرعة اوكسيجين منعشة للاقتصاد والسلطة الروسية، وبالتالي زيادة قدرتها على التحمل.

   بالنسبة لأوكرانيا أيضًا، يتعلق الأمر بعدم تجاهل عامل الوقت. إن حلول فصل الشتاء، الذي عادة ما يؤدي إلى إبطاء سير العمليات العسكرية، تبرز أهمية استعادة أكبر قدر ممكن من الأرض في المناطق المحتلة بأسرع ما يمكن، ولكن أيضًا على استقرار هذه المكاسب الإقليمية، التي تتطلب موارد كثيرة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الدعم الغربي ضروري لأوكرانيا التي لا تزال تعتمد على الأسلحة والدعم المالي الخارجي، ويجب أن تكون قادرة على إظهار أن هذه المساعدة مثمرة من أجل الحفاظ على حافز للدول التي تدعمها.

   تبقى أن المناقشات جارية في أوروبا لوضع سقف لسعر الغاز والنفط الروسي. وإذا تم اتخاذ هذه الإجراءات، يمكن أن تلعب موسكو أوراقًا أخرى لكسب الوقت وإبطاء التحركات العسكرية الأوكرانية. وإذا كان إنشاء منطقة محايدة حول محطة الطاقة النووية زابوريزهيا يُذكر بشكل متكرر، فإن التفاوض على معاهدة تتعلق بهذا الهيكل المدني يمكن أن يكون سبيلا يتم الاستفادة منه لكسب الوقت في المجال العسكري، على الأقل في هذه المنطقة الجغرافية، مع ممارسة ضغط معين على الغربيين. ويمكن للآلة الخطابية الروسية، هنا مرة أخرى، أن تحاول نسج خطاب إيجابي يهدف إلى تقديم هذه المناورات لصالح الكرملين.


*محللة جيوسياسية، عضو مشارك في مختبر أبحاث كلية السوربون للأعمال -معهد السوربون بباريس، جامعة باريس 1 بانثيون -سوربون، كرسي “المعايير والمخاطر”، كلية السوربون للأعمال.