الهدف تخاطر رقمي من دون الحاجة إلى الكلام أو الكتابة

هل أصبحت قراءة الأفكار ممكنة بفضل التكنولوجيا؟

هل أصبحت قراءة الأفكار ممكنة بفضل التكنولوجيا؟

على رغم التقدم المحرز، ما زلنا بعيدين من تحقيق التواصل التخاطري الشامل، وهناك عوائق كثيرة تحول دون ذلك ومنها دقة فك تشفير الأفكار، لا سيما أن إشارات الدماغ معقدة ومشوشة وفريدة من نوعها لكل فرد.كثيراً ما أبهر مفهوم التخاطر أو نقل الأفكار مباشرة من عقل إلى آخر معظم البشر، وبعدما كان هذا المفهوم محصوراً في عالم الخيال العلمي، أصبح اليوم أقرب إلى الواقع بفضل التطورات السريعة في علم الأعصاب والذكاء الاصطناعي وواجهات الدماغ والحاسوب، وأضحى مجالاً بحثياً نشطاً يشهد تطورات حقيقية تحدث نقلة نوعية في الطب والتواصل.

ومن شركات مثل "نيورالينك" التي تطور رقائق قابلة للزرع إلى الفرق البحثية العالمية التي تفك تشفير إشارات الدماغ آنياً، تتجه التكنولوجيا ببطء نحو جعل التواصل بين العقول ممكناً، ولكن ما مدى قربنا من التخاطر بفضل التكنولوجيا؟ وما التحديات التي لا تزال تعترض طريقنا؟

ما التخاطر التكنولوجي؟
لا يعني التخاطر التكنولوجي حتماً أن البشر سيكتسبون فجأة قدرات خارقة، بل يشير إلى استخدام أجهزة متطورة وخوارزميات ذكاء اصطناعي لقراءة وتفسير ونقل نشاط الدماغ بين الأفراد أو بين دماغ بشري وآلة، ويتحقق ذلك عادة من خلال واجهات الدماغ والحاسوب (BCIs)،
 وهي أنظمة تسجل النشاط العصبي باستخدام أجهزة استشعار، وتترجم تلك الإشارات إلى أوامر.
حالياً، تتيح هذه الواجهات للأفراد التحكم في الأذرع الروبوتية وكتابة الرسائل، أو حتى تحريك مؤشرات الكمبيوتر باستخدام أفكارهم، أما التطور التالي فهو نقل هذه الأفكار إلى دماغ شخص آخر من دون الحاجة إلى الكلام أو الكتابة، وهو صورة من صور التخاطر الرقمي.

إنجازات تقربنا من التخاطر التكنولوجي
شهدت الأعوام الأخيرة إنجازات عدة جعلتنا أقرب إلى التخاطر التكنولوجي، فمثلاً زرعت شركة "نيورالينك" الأميركية أول شريحة دماغية لها في إنسان العام الماضي، 
مما أتاح التواصل الفوري بين الأفكار والأفعال، وكان لافتاً إلى أن هذه الشريحة سمحت للمرضى المصابين بالشلل الكتابة أو تحريك مؤشر باستخدام أفكارهم فحسب.
في الوقت نفسه طور فريق البحث في شركة "ميتا" الأميركية ماسحات دماغية غير جراحية ونماذج ذكاء اصطناعي قادرة على فك تشفير الكلمات المنطوقة بصمت مباشرة من نشاط الدماغ، مما يقربنا من الرسائل القائمة على الفكر.
وفي عام 2023 نجح باحثون في جامعة "تكساس" الأميركية في استخدام الذكاء الاصطناعي لفك تشفير مسوحات الدماغ وتحويلها إلى نص مترابط، وهذا ما يترجم الأفكار إلى كلمات من دون أي تدخل مادي.
ويعمل فريق من الباحثين من جامعة "كيوتو" اليابانية على نظام لتفسير ما يراه الدماغ وتمثيل تلـــــك المعلومــــــــات كصورة معـــــــاد بناؤها.
 يعتمد الفريق في الأساس على مراقبة نشاط الدماغ باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي،
 وإعادة تمثيل ما تراه العين باستخدام شبكة عصبية عميقة، وهي صورة من صور الذكاء الاصطناعي يحاكي آلية عمل الدماغ.
أول جهاز قابل للارتداء للتخاطر في العالم
ولعل أبرز إنجاز في هذا المجال تجلى بتطوير علماء في معهد "ماساتشوستس للتكنولوجيا" الأميركي الشهر الماضي جهازاً يسمى "ألتيريغو"، زعموا أنه أول جهاز قابل للارتداء يشبه التخاطر في العالم ويسمح "بالتواصل الصامت بسرعة التفكير".
تعتمد هذه التقنية وهي عبارة عن سماعة رأس تلبس حول الأذنين كسماعة إذاً، على التوصيل العظمي لترجمة الكلمات غير المنطوقة إلى إشارات، وتستطيع سماعات الأذن رصد الحركات الدقيقة في فم المستخدم ووجهه وعضلات أحباله الصوتية وتحويلها إلى كلمات.
وأفاد المعهد الأميركي بأن هذه التقنية يمكن أن تساعد المصابين باضطرابات الكلام، مثل التصلب اللويحي، على التعبير عن أفكارهم، كما يمكن استخدامها لتمكين التواصل غير اللفظي بين مستخدمين، أو لتوفير إمكان الوصول إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي أو عمليات البحث عبر "غوغل" من دون الحاجة إلى استخدام الهاتف الذكي.
وبحسب العلماء فإن هذه التقنية تشبه "امتداداً طبيعياً للعقل البشري"، وستمنح المستخدمين "قوة التخاطر، ولكن للأفكار التي يرغبون في مشاركتها فحسب"، مؤكدين أن تقنيتهم تختلف عن الاختراقات الأخرى في مجال الواجهات العصبية التي تعتمد على رصد موجات الدماغ أو عمليات الزرع الجراحية.

التطبيقات المحتملة لتقنية التخاطر
تتجاوز فوائد التخاطر التكنولوجي محادثات الخيال العلمي المستقبلية كما نتصورها، إذ يمكنها في المجال الطبي أن تحدث اختراقاً يمكن مرضى الشلل أو التصلب الجانبي الضموري أو من يعانون صعوبات النطق التواصل بسهولة.
ويمتد الأمر إلى مجالات عدة، ففي التعليم والتدريب يمكن أن يصبح نقل المعرفة أسرع إذا أمكن تبادل المعلومات بين الأدمغة، وفي نطاق العمل والإنتاجية يمكن للفرق التعاون بسرعة البرق من دون الحاجة إلى اجتماعات أو كتابة، وفي الواقع الافتراضي وعالم "الميتافيرس" تسمح للمستخدمين التفاعل في عوالم افتراضية من خلال التفكير المباشر بدلاً من الكتابة أو التحدث، ونجد أنه ضمن المجال العسكري والأمني تستثمر الحكومات في "أنظمة قيادة قائمة على التفكير" للجنود.
وفي أقصى حالاتها تفاؤلاً يمكن لتقنية التخاطر التكنولوجي أن تعيد تعريف كيفية تفاعل البشر مع الآلات ومع بعضها بعضاً بصورة كاملة.

التحديات والمخاوف الأخلاقية
على رغم التقدم المحرز ما زلنا بعيدين من تحقيق التواصل التخاطري الشامل، وهناك كثير من العوائق التي تحول دون ذلك ومنها دقة فك تشفير الأفكار، لا سيما أن إشارات الدماغ معقدة ومشوشة وفريدة من نوعها لكل فرد، ولا تزال نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية غير دقيقة بما يكفي لضمان تواصل خال من الأخطاء.
من جهة ثانية تتطلب أجهزة التخاطر الحالية بمعظمها إجراءات جراحية لزرع الأقطاب الكهربائية، وهذا ما يثير مخاوف في شأن الأخطار المترتبة على صحة المستخدم وسهولة الوصول إلى الجهاز، وتعد عمليات الزرع العالية التقنية والأنظمة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي باهظة الثمن حالياً، مما يجعل اعتمادها على نطاق واسع أمراً غير مرجح في المستقبل القريب.
وفي ما يتعلق بالمخاوف فأول ما يتبادر إلى أذهاننا قضايا الخصوصية، فإذا كان من الممكن قراءة الأفكار، كيف نحمي أنفسنا إذاً من اختراق العقول أو المراقبة أو جمع البيانات غير المصرح به؟ وهل ينبغي أن نسمح للشركات أو الحكومات بالوصول إلى بياناتنا العصبية الخاصة؟
ويتوقع المتخصصون أنه خلال الأعوام الـ10 إلى الـ20 القادمة قد نشهد أشكالاً محدودة من التخاطر، 
مثل الرسائل النصية من الدماغ أو التواصل الصامت في بيئات الواقع الافتراضي، وقد يستغرق نقل الأفكار على نطاق واسع وخال من الأخطاء وقتاً أطول،
 ولكن بالنظر إلى سرعة تقدم الذكاء الاصطناعي وعلم الأعصاب، فإن إمكان تحقق ذلك أقرب من أي وقت مضى.