استعاد البلدان شروط حوار دبلوماسي عادي

هل إن قمة بايدن-بوتين: لقاء بلا فائدة...؟

هل إن قمة بايدن-بوتين: لقاء بلا فائدة...؟

-- بالنسبة لجو بايدن أيضًا، تعتبر النجاحات الداخلية جوهرية أكثر بكثير من الإنجازات الدولية
-- تم الاحتفاء بالقمة إعلاميا رغم ضعفها من الناحية الاستراتيجية
-- هل تغيّر هذه القمة الوضع الجيوسياسي باتجاه تعاون ثنائي أو متعدد الأطراف؟
-- هذا الاجتماع ترك في الظل القضايا الحقيقيـة للأمـن الجمـاعي في أوروبـا
-- لقد بددا فوضى السياسة الروسية التي انتهجتها إدارة ترامب حيث تعايشت حزم العقوبات مع الثناء على بوتين
-- لم تعد الولايات المتحدة تعامل روسيا على أنها «قوة إقليمية» وهذا يمنح بوتين مزيدًا من الشعبية بين الروس


في نهاية اجتماع قمتهما في جنيف في 16 يونيو، عقد كل من الرئيسين الروسي والأمريكي مؤتمرين صحفيين منفصلين لتهنئة أنفسهما على هذه القمة: “البنّاءة” و”الإيجابية” و “الصّريحة”، ويبدو أن الحوار الروسي الأمريكي قد تجدد من خلال هذه المقابلة “على أعلى مستوى».
   هل تغيّر هذه القمة الوضع الجيوسياسي باتجاه تعاون ثنائي أو متعدد الأطراف؟ أم أن الحديث عن “معطى جديد” بين الولايات المتحدة وروسيا مبالغ فيه؟ في الواقع، كانت انتظارات البطلين منخفضة جدًا تجاه القمة الى درجة أن النجاح كان مضمونًا تقريبًا مسبقًا.
 ان فائدة هذه القمة ليست كما يُعتقد: إنها تتعلق بشكل أساسي بالمشهد السياسي المحلي الروسي والأمريكي.

يوميات نجاح معلن
   كان الحصاد الرسمي لهذا الاجتماع معروفًا مسبقًا.
 وبسبب اجترار رئيسي الدولتين والسلطات السويسرية والمراقبين الدوليين، تم الاحتفاء به إعلاميا رغم ضعفه من الناحية الاستراتيجية.

   بعد أشهر من التوترات والفتن والعقوبات والإجراءات الانتقامية، استعاد البلدان الشروط الأساسية للحوار الدبلوماسي العادي. وبدلاً من وصف نظيره بأنه “قاتل”، انخرط الرئيس الأمريكي معه في نقاش “رفيع المستوى”. وبدلاً من تجديد وتشديد سلسلة العقوبات والعقوبات المضادة، أعلن الزعيمان عودة سفيريهما إلى عاصمة الدولة الأخرى؛ وبدلاً من تأجيج سباق التسلح، أعربا عن قرارهما بتجديد معاهدة البداية الجديدة لتخفيض الأسلحة النووية طيلة 5 سنوات؛ وبدلاً من الغضب من الهجمات الإلكترونية التي يشنها الخصوم، وضع رئيسا الدولتين الأمن السيبراني على جدول أعمال اجتماعاتهما المستقبلية.
   النشوة الطفيفة، ولكن المؤكدة، التي سادت في فيلا لا غرانج على ضفاف بحيرة جنيف، لا ينبغي أن تحجب الحقيقة: نتائج هذا الاجتماع محددة ومتفق عليها. لقد بددت فوضى السياسة الروسية التي انتهجتها إدارة ترامب حيث تعايشت حزم العقوبات مع الثناء على فلاديمير بوتين. وصل التناقض في السياسة الروسية التي انتهجتها الولايات المتحدة إلى درجة أن الاجتماع في جنيف يبدو وكأنه انتصار للتقاليد الدبلوماسية الموروثة من الحرب العالمية الثانية. لأن الهدف الوحيد لفريقي الرجلين كان تجنب أي خطر: تم تفادي المؤتمر الصحفي المشترك؛ والتجول والوجبات معا أيضًا.
   إذا تم تقليص النتائج الدولية، فانه يجب البحث عن الفوائد الجوهرية على مستوى السياسة الداخلية في كل من موسكو وواشنطن... وهنا، فان السردية أقل سخافة.

مكاسب «لعميد»
العلاقات الدولية الروسي
   بالنسبة للزعيم الروسي، فإن اجتماع جنيف هو بالتأكيد نجاح شخصي. تسلط تصريحاته والتغطية الصحفية الروسية للحدث الضوء على عدة عناصر لا ينبغي على الأوروبيين التغاضي عنها.
   فمن ناحية، أشارت السلطات الروسية، عن حق، إلى أن مبادرة القمة كانت أمريكية. ذكّر فلاديمير بوتين باستفاضة أن نظيره هو الذي طلب منه هذا الاجتماع. ويكاد يظهر هنا على أنه “قيدوم” العلاقات الدولية الذي يطلب منه الرئيس الأمريكي “الشاب” المنتخب حديثًا، موعدا. لقد لعب الرئيس الروسي بشكل رائع مع وضعه كأقدم في المنصب الرئاسي.

   من ناحية أخرى، أبرزت وسائل الإعلام الروسية على نطاق واسع، “التكافؤ” بين الخصمين السابقين في الحرب الباردة. ورغم ان الاتحاد الروسي مقطوع الصلة على كل الجبهات تقريبًا بالولايات المتحدة، فقد عرض الرئيس الأمريكي على فلاديمير بوتين ما كان يطالب به منذ فترة طويلة: وضع الشريك الاستراتيجي الذي يضمن توازن العالم. لم تعد الولايات المتحدة تعامل روسيا على أنها “قوة إقليمية”، وهذا يضمن للرئيس الروسي مزيدًا من الشعبية بين السكان الروس. وفي الفترة التي تسبق الانتخابات البرلمانية في سبتمبر المقبل، سيحسب هذا لصالحه من قبل رأي عام روسي قلق بشأن مكانة روسيا في العالم.

   أخيرًا، غذى هذا الاجتماع الحنين إلى الحرب الباردة. تم التعامل مع شؤون هذا العالم على التوالي في مجموعة السبع وفي قمة الناتو للمعسكر الغربي. ثم تم تناولها مع الجانب الآخر، روسيا. كما لو كان الأوروبيون مجرد متفرجين على أمنهم، وكما لو أن الظهور الجيوسياسي لجمهورية الصين الشعبية لم يغير بشكل كامل ميزان القوى في العالم. بالنسبة لفلاديمير بوتين، فإن معاملته كأحد أعمدة العلاقات الدولية ليس فقط أمرًا ممتعًا ولكنه مفيد للغاية في تحالفه غير المتوازن مع جمهورية الصين الشعبية، إذ سيسمح له ذلك بزيادة ثقله في أوراسيا.

ماركة «جو بايدن» الدبلوماسية
   بالنسبة لجو بايدن أيضًا، تعتبر النجاحات الداخلية جوهرية أكثر بكثير من الإنجازات الدولية. استطاع الرئيس الجديد أن ينأى بنفسه وبسهولة عن عدم الانسجام والاتساق والرضا عن النفس لإدارة ترامب، ولكن أيضًا عن التفاؤل بسياسة إعادة الضبط التي طبعت بداية رئاسة أوباما. فمن خلال الظهور حازمًا ضد الرئيس الروسي، تمكّن من مسح ضعف دونالد ترامب أمام الرئيس الروسي نفسه  خلال قمتهما في هلسنكي في يوليو 2018، وبذلك اكتسب حنكة سياسية. لقد حصل بشكل غير مكلف على دعم الحزبين من قبل الطبقة السياسية الأمريكية المعادية لروسيا: الجمهوريون لأنهم غذوا خطاب الحرب الباردة، والذي جدده السناتور الراحل ماكين جزئيًا؛ والديمقراطيون لأنهم يرون روسيا كقوة رجعية.

   كما منحت القمة الرئيس الأمريكي الفرصة للتركيز على قضايا الأمن السيبراني. لقد كانت هذه جزءً لا يتجزأ من الحياة السياسية الوطنية منذ التدخل الروسي في حملة هيلاري كلينتون الانتخابية عام 2016 إلى الهجمات الإلكترونية الأخيرة على خط أنابيب كولونيال في الولايات المتحدة. ومن خلال وضع قضايا الدفاع السيبراني على الأجندة الرسمية للعلاقة الروسية الأمريكية، أرسل جو بايدن إشارة إلى شعبه أكثر منها إلى شريكه، من خلال جعل نفسه رجلًا قويًا قادرًا على مقاومة التدخل الروسي. من المؤكد أن النتائج ستكون هزيلة في مجال تكون فيه السرية هي كل شيء: من الصعب جدًا تحديد هوية الهجمات، ويصعب إيصال الانتقام إلى الرأي العام.

   تمكن جو بايدن أيضًا من تحديد موعد بشأن الحقوق الأساسية، التي أهملها سلفه. منذ حملته الانتخابية، جعل من الترويج للديمقراطية علامته الدبلوماسية. ومن خلال التأكيد على أنه ناقش مصير أليكسي نافالني مع نظيره، استطاع، دون الكثير من المخاطر، وبتكلفة زهيدة، تجديد هذه العلامة.
   ليس لدى إدارة بايدن أوهام بشأن التحول في السياسة الخارجية الروسية. تكوّنا قبل عشر سنوات في خيبة الأمل المريرة لعملية إعادة الضبط التي قام بها باراك أوباما، لا يفكر جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكين في تغيير مسار دبلوماسية بوتين. لكنهما تركا بصماتهما الخاصة على بدء العمل الدبلوماسي للإدارة الجديدة.
   القمة، غير المجدية على المستوى الجيوسياسي، مفيدة جدا لجو بايدن لتطوير ماركته الدبلوماسية الخاصة بالاختلاف مع باراك أوباما.

أوروبا على الهامش
  انخرط البطلان إذن في لوحات مفروضة للتزلج الاستراتيجي. لقد أعادا إحياء الشعور بالحرب الباردة الذي يغريهما ويعززهما بشكل متبادل. لكن هذا الاجتماع ترك في الظل القضايا الحقيقية للأمن الجماعي في أوروبا. إن الأوروبيين هم من يتعين عليهم تناول “المسألة الروسية” بالنظر الى العلاقات عبر الأطلسي.

  هدفت زيارة جو بايدن إلى تعزيز العلاقات عبر الأطلسي، التي اعتبرها سلفه ترامب حملاً ثقيلاً: زيارة نظرائه الأوروبيين من وجهة النظر هذه نجاح رمزي. ومع ذلك، فإن هذه العلاقات ليس لها نفس النتائج على العلاقات الأوروبية الروسية كما كانت في الماضي.

    في الواقع، أدت التوترات الروسية الأمريكية إلى طمأنة بعض الدول الأعضاء (بولندا والولايات المتحدة) بأهميتها الاستراتيجية ودورها “كأفضل متحدث رسمي” عن الموقف الأمريكي في أوروبا. ومع ذلك، فإن التوترات الروسية الأمريكية تخضع الآن لشكل من أشكال اللامركزية في السياسة الدولية، الى درجة أن هذه العلاقة أصبحت الآن ثانوية بالنسبة للمسرح الآسيوي والعلاقة الصينية الأمريكية. لذلك سيكون الإغراء قوياً للولايات المتحدة، في السنوات القادمة، لاحتواء روسيا، ولكن أيضًا لتزويدها بإمكانية أن تكون أكثر استقلالية عن الصين. بوضوح ان واشنطن ترغب في ألا تكون روسيا قوية الى درجة أن تخاطر بتهديد حلفائها، ولا أن تكون ضعيفة وتسقط في فلك الصين.

    قد يفسر هذا التحول لماذا قررت الولايات المتحدة أخيرًا، بعد أن انتقدت بشدة نورد ستريم 2، إسقاط العقوبات المفروضة على شركات معينة في مايو. ومن الواضح أن الولايات المتحدة اختارت برلين بدلاً من وارسو وكييف، حيث أعربت ألمانيا بوضوح عن ارتباطها بالمشروع، الذي أصبح الآن جاهزًا بنسبة 95 بالمائة. لذلك يأمل الألمان والروس في اختتامه هذا الصيف، قبل وصول محتمل للخضر الألمان في ائتلاف، وهذا الحزب الأخير معاديًا للمشروع. في نفس الوقت، يؤدي عدم وجود نتائج مقنعة لمبادرة ماكرون عام 2019 أو الحالات الأخيرة المتعلقة بالأجهزة الأمنية في إيطاليا أو جمهورية التشيك، إلى تقليل الشهية الأوروبية لتطبيع العلاقات مع روسيا. لذلك، في هذه القمة، تجد أوروبا نفسها في وضع ثانوي نسبيًا، وهو ما يجب أن يشجعها للسعي وراء المزيد من الاستقلالية الاستراتيجية.


* أستاذ محاضر في معهد الدراسات السياسية في باريس، وأستاذ سابق للعلوم السياسية في جامعة موسكو.
**الأمين العام لـ مركز البحوث في معهد العلوم السياسية، وأستاذ محاضر في معهد العلوم السياسية في باريس، باحث مشارك في المركز الجغراسياسي للمدرسة العليا للتجارة.