رئيس الدولة يؤكد دعم الإمارات لتسوية النزاعات والتحديات في العالم عبر الحوار والحلول الدبلوماسية
القوة الناعمة زمن الحرب
وراء بريق يوروفيجن، الحرب الأخرى بين روسيا وأوكرانيا
-- كان تنظيم موسكو نهائياً عام 2009، بميزانية 30 مليون يورو، بمثابــة الخطوة الأولى في اســـتراتيجية الانفتــاح على الغرب
-- انتصار أوركسترا كالوش لا يغير ميزان القوى العسكرية، لكنه دليل على نجــاح الســلطات الأوكرانية في تغيير صورة البــلاد
-- وجدت الهوية الأوكرانية في يوروفيجن وسيلة لتأكيد ذاتها والتعريف بها في أوروبا
-- ساهم فوز روسلانا عام 2004، مع تنظيم كييف للمسابقة عام 2005، في إظهار الهوية الأوكرانية للجمهور الأوروبي العريض
يمثل الانتصار العريض لمرشحي أوركسترا كالوش الأوكراني في يوروفيجن 2022 خطوة مهمة في المواجهة الدائرة بين البلدين في مجال التأثير والنفوذ منذ عام 2004.
مسابقة الأغنية الأوروبية 66، التي عقدت يوم السبت 14 مايو في تورينو، ليست استثناءً من القاعدة الثابتة للأحداث الثقافية أو الرياضية الكبرى ذات التغطية الإعلامية العالية: تم تقديمها على أنها ترفيه غير سياسي منذ إنشائها عام 1956، استخدمت يوروفيجن، هذا العام مرة أخرى، كحلبة مواجهة بين القوى، ومنافسة بين القوى الناعمة الوطنية.
يتم ترشيح المترشحين من قبل المجموعات السمعية والبصرية العامة الأعضاء في اتحاد البث الأوروبي، المؤسسة المنظمة. ولذلك، فإنهم يرتدون ألوان الدولة، ومكلفون بوظيفة عامة للغاية، تتمثل في الترويج لهوياتهم الوطنية بطريقة مباشرة ودقيقة إلى حد ما. ومع ذلك، أعطت الحرب في أوكرانيا للمراحل النهائية لهذه النسخة، لهجة دراماتيكية بشكل خاص: في 25 فبراير، في اليوم التالي للغزو، استبعد الاتحاد الإذاعي الأوروبي المرشح الروسي والمجموعة السمعية البصرية العامة من المنافسة.
من جهة اخرى، فإن الانتصار العريض للمرشحين المقدمين من أوكرانيا، أوركسترا كالوش، يعزز النتائج التي حصلت عليها سلطات كييف لدى الرأي العام الأوروبي. لقد استفادت أغنيتهم “ستيفانيا” من تدفق تعاطف حقيقي من المشاهدين الأوروبيين، وخاصة في بولندا ودول البلطيق ومولدوفا.
وكما هو الحال في وسائل الإعلام، تصارعت أوكرانيا وروسيا عن بعد على مسرح يوروفيجن، وتحت أنظار 200 مليون مشاهد من أكثر من 40 دولة، صراع كانت فيه الهوية الوطنية الأوكرانية والتوجه الجيوسياسي للدولتين ومكانتهما في القارة، على المحك.
من المؤكد أن التوترات بين كييف وموسكو هي الخيط الأحمر للتاريخ السياسي الحديث للمسابقة. فمرة أخرى هذا العام، المسابقة، التي غالبًا ما تكون فنا هابطا وأحيانًا ساخرة ممتعة، مدت الأوروبيين بمرآة مشوهة ولكنها مضيئة لعملية توازن القوى الجارية في قارتهم. مشوهة، لأن أوكرانيا انتصرت في يوروفيجن بعد أسابيع قليلة من خوفها على وجودها. ومضيئة، لأن روسيا ممنوعة الآن من هذا المنتدى أيضًا. إن تتبع المسارات الخاصة والمتباينة لاستراتيجيات القوى الناعمة الروسية والأوكرانية، يجعل من الممكن فهم الصراع الجاري حاليًا من أجل إدارة السرديات الوطنية بشكل أفضل.
تأكيد الهوية الأوكرانية
منذ عام 2004، زمن “الثورة البرتقالية” وتوسيع حلف الناتو ليشمل دول البلطيق، وجدت الهوية الأوكرانية في يوروفيجن وسيلة لتأكيد ذاتها، ولإظهار نفسها والتعريف بها في أوروبا ككل. وبطريقة مرحة، اخذت مشاهدين أوروبيين شهودا للتذكير بوجودها المستقل.
روسلانا، المرشحة التي قدمتها المجموعة السمعية البصرية العامة الأوكرانية، كانت قد اتخذت موقفًا واضحًا لصالح الرئيس المستقبلي فيكتور يوشينكو ورئيس الوزراء المستقبلي يوليا تيموشينكو والحركات الموالية لأوروبا ضد الحركات المهيمنة المؤيدة لروسيا في كييف. فعلت المغنية ذلك خارج المسابقة، ولكن أيضًا خلال المسابقة، لا سيما من خلال الجمع بين كلمات الأغاني باللغة الإنجليزية -وهي علامة على التوجه الأوروبي -وباللغة الأوكرانية -وهي لغة كانت تعتبر حتى ذلك الحين لهجة في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي.
حينها، كانت الدولة الأوكرانية، التي ولدت عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، تسعى إلى تأكيد هويتها اللغوية والثقافية والإعلامية، وبالتالي الوطنية، على الساحة الأوروبية في مواجهة الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية الروسية. النسخة الأولى -الرمزية -من مواجهة داود ضد جالوت.
ووقتها، كانت موسكو قلقة بشأن هذا الانتصار، وعلى نطاق أوسع، من هذه الثورة الملونة التي بدأت حراكا ينافس الهيمنة الروسية في أراضي الاتحاد السوفياتي السابق. لقد كانت المظاهرات في أوكرانيا -في ساحة الاستقلال (ميدان) -بمثابة حافز للثورات “البرتقالية” في جورجيا عام 2003، وثورة “التوليب” عام 2005 في قرغيزستان.
ففي هذه الثورات السياسية، كما حدث في يوروفيجن، خشيت روسيا من الحركات النابذة التي دفعت الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السابقة نحو الغرب -الجمهوريات السوفياتية، التي من بينها دول البلطيق ومولدوفا وجورجيا وأرمينيا وكازاخستان وقيرغيزستان، وطبعا أوكرانيا. سار كل شيء كما لو أن يوروفيجن كانت للجمهوريات السوفياتية بمثابة منصة للوصول إلى أوروبا الغربية دون المرور عبر موسكو.
روسلانا، ملهمة مؤيدة لأوروبا
كرست مسابقة الأغنية الأوروبية استراتيجية العلامة التجارية الوطنية هذه من خلال شخص روسلانا: لقد أصبحت هذه الأخيرة لاحقًا نائب (2006-2007) في البرلمان الأوكراني، رادا، لأن مكانتها كمُلهمة مؤيدة لأوروبا تم تكريسها من قبل المسابقة وفوزها، وهو الأول منذ انضمام أوكرانيا إلى اتحاد الإذاعات الأوروبية عام 1993.
لقد سمح هذا الفوز لأوكرانيا، وفقًا لقواعد المسابقة، باستضافة المرحلة النهائية من المسابقة لأول مرة، وبالتالي الاستفادة من انتشارها الإعلامي الواسع للغاية. ومن عاصمة ريفية لدولة منسية من الاتحاد السوفياتي السابق، أصبحت كييف عاصمة جذابة وديناميكية –في تمايز تام عن موسكو في التمثّلات الجماعية الأوروبية.
باختصار، ساهم فوز روسلانا عام 2004، مع المسابقة التي نُظمت في كييف عام 2005، في إظهار الهوية الأوكرانية للجمهور الأوروبي العريض. وهذه هي الهوية التي يتم التنازع عليها اليوم، بالخطب والسلاح، في غزو أوكرانيا. ونفهم حينها أن مسابقة يوروفيجن تشكل، بالنسبة لموسكو كما لكييف، رهانا محددا ولكنه حقيقي:
فهو يسمح بمخاطبة مباشرة الرأي العام في القارة بالمعنى الواسع، من الدول الاسكندنافية إلى المغرب، ومن البرتغال إلى القوقاز.
يوروفيجن، كأس العالم، الأولمبياد ...
بعد هذا الانتصار، انخرطت كييف وموسكو في مبارزة تأثير ونفوذ عن بعد، لا سيما عندما استضافت العاصمة الروسية نهائي المسابقة الموسيقية عام 2009، بعد فوز المرشح الروسي ديما بيلان عام 2008. بالنسبة لاتحاد روسيا آنذاك، حان الوقت لاستراتيجية قوة ناعمة تقوم على الهيبة الدولية وتأكيد مكانة الدولة على الساحة الإعلامية. وتجلى ذلك في مسابقة عام 2008 بأغنية كُتبت بالكامل باللغة الإنجليزية بعنوان “صدقوا».
تنظيم نهائي يوروفيجن عام 2009، بميزانية 30 مليون يورو، كان بمثابة الخطوة الأولى في استراتيجية الانفتاح على الغرب. وقد أظهر للعالم أن العقد الأسود للتسعينات وأزمة عام 2008 صارتا من الماضي. وأثبتت “البطاقات البريدية” السمعية والبصرية التقليدية لمسابقة الأغنية الأوروبية للرأي العام الغربي مدى تحديث روسيا، التي أصبحت غنية نسبيًا بفضل مكاسب النفط غير المتوقعة، وكانت أيضًا لمواجهة صور كييف عام 2005.
وكان على تنظيم أكبر المسابقات الرياضية -التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة -المساهمة في استراتيجية التأثير هذه من خلال السماح بالوصول المباشر إلى الراي العام الأجنبي. وهكذا، من خلال استضافة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014 في سوتشي (37 مليار يورو من الاستثمارات المعروفة) وكأس العالم لكرة القدم عام 2018 (27 مليار يورو)، حاولت روسيا -مرة أخرى -إثارة الإعجاب في الخارج. اتحد القديم والجديد في هذه الخطة العشرية: تبنى الاتحاد الروسي الوصفات القديمة للاتحاد السوفياتي من خلال إبراز تفوقه الرياضي، لكنه أكملها بإتقان الصورة الغربية بالكامل، التي تقدمها وسائل الإعلام العامة المعاد تنظيمها. واستكملت الواجهات الإعلامية لكل من “روسيا اليوم” و “سبوتنيك” باللغات الأجنبية هذه الترسانة بإتاحة الوصول إلى النقاشات العامة الأوروبية للصحافة الحكومية الروسية.
فشل روسي
سمحت هذه الاستراتيجية لروسيا بان تكون مرئية أكثر، وباستعادة ظهورها وحضورها الإعلامي، لكنها لم تسلم من الانتقاد والجدل: بالطبع جراء عملياتها العسكرية في جورجيا (2008)، وأوكرانيا (2014) وسوريا (2015)، ولكن أيضًا بسبب الخلافات المالية والبيئية التي أثارتها الاستثمارات الباذخة المتعلقة بهذه المسابقات.
ان التناقض صارخ بشكل خاص بين الجهود المبذولة والنتائج المسجلة. بالتأكيد، بين عام 2009 واليوم، اكتسبت روسيا شهرة في أوروبا الغربية. وبالتأكيد، أن “روسيا اليوم” و “سبوتنيك” جعلتا صوت السلطات الروسية مسموعًا في كل مكان في أوروبا، في حين أن روسيا لم تكن مسموعة حتى ذلك الوقت. ومع ذلك، إذا كانت موجات التعاطف حقيقية، فإنها تقتصر على الجناح المحافظ للرأي العام والساحات السياسية الوطنية. إن عقدًا طويلًا من القوة الناعمة الروسية على الصعيد الدولي، من يوروفيجن 2009 إلى كأس العالم 2018، ينتهي اليوم بالفشل.
صراع لقيادة السردية
يشير التاريخ الحديث لـ يوروفيجن، بطريقة مؤكدة، إلى الاسبقية التي تتمتع بها كييف ضد موسكو في الصراع من أجل أن تكون مرئية وقيادة السردية. والانتصار العريض لأوركسترا كالوش يوم السبت 14 مايو، لا يغير طبعا ميزان القوى العسكرية، لكنه دليل على نجاح السلطات الأوكرانية في تغيير صورة البلاد في جميع أنحاء أوروبا. وتحديدا عندما عانت من عدة هجمات في غاية الخطورة على سيادتها واقتصادها وأراضيها.
عام 2014، بعد ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا واندلاع الأعمال العدائية في دونباس، كان على أوكرانيا تعليق مشاركتها في يوروفيجن. ومستفيدة من هذا الغياب، حاولت روسيا توسيع نفوذها داخل الاتحاد الإذاعي الأوروبي وبين مشاهدي التليفزيون من خلال انتقادها علنًا للمتسابقة النمساوية كونشيتا ورست، التي فازت باللقب بأغنية “انهض مثل طائر الفينيق».
كان الهدف السياسي لروسيا حينها أن تتولى زمام قيادة الحركات الرجعية الأوروبية. ومن بين الدوافع المتكررة للسلطات الحكومية: الحاجة إلى محاربة انحدار الغرب المسيحي في مواجهة “مخاطر” العصر –”دعاية المثليين”، والأسلمة، واليسارية...
مسابقة يوروفيجن 2015، التي عقدت لحظة استعداد موسكو للتدخل في سوريا، كانت بمثابة تحول في القوة الناعمة الروسية كزعيمة للاليبراليين في أوروبا. وكانت حادثة كونشيتا ورست بالنسبة لروسيا أحد العناصر الأساسية في هذه السردية، الأمر الذي منحها مهمة الدفاع عن أوروبا ضد انحدارها الذاتي.
جددت أوكرانيا موقفها السياسي خلال مسابقة 2016 التي فازت بها جمالا بأغنية “1944”، والتي أشارت إلى ترحيل ستالين لتتار القرم. وكان انتقام أوكرانيا من روسيا حينها متعدد الأبعاد لكييف. لقد منحت المرشحة الأوكرانية بلادها انتصارًا ثانيًا سعت إليه روسيا دون جدوى. لكنها، خاصة، ذكّرت أوروبا بمصير هذه المنطقة وسكانها الذين تم ضمّهم بشكل غير قانوني؛ ومشيرة إلى أن القرم تنتمي إلى أوكرانيا؛ ومؤكدة، من خلال الوسيط الرمزي لـ اتحاد البث الأوروبي ويوروفيجن، رغبة كييف في الحصول على مكانها في أوروبا. وقد أبرز الاستهجان الذي عانى منه المرشحون الروس خلال نسختي 2015 و2016 التدهور العام لصورة روسيا في أوروبا.
روح المقاومة الأوكرانية
إن استبعاد روسيا من مسابقة 2022 ليس سوى عقوبة -رمزية لكنها مقيدة -أخرى ضد موسكو. إنه يمثل رفضًا، من جانب أوروبا بالمعنى الواسع، لغزو أوكرانيا، تمامًا كما كان استبعاد صربيا عام 1995 يعني إدانة رئاسة ميلوسيفيتش زمن حروب يوغوسلافيا السابقة (1992-1995).
يكرس هذا الاستبعاد أيضًا اتجاهين عميقين في استراتيجيات التأثير الأوروبية. من ناحية، الجهود التي بذلتها روسيا على مدار عقد لجذب، وتوحيد، والتأثير، وأخيرًا زعزعة استقرار الأوروبيين في المجالات الإعلامية والرياضية والثقافية لم تحقق أهدافها.
ومن ناحية أخرى، في اللحظة التي كان فيها مصير أوكرانيا مهددًا للغاية، تقدم يوروفيجن في المقابل للبلاد إمكانية إظهار روح المقاومة أمام الأوروبيين مباشرة. وعلى غرار الاتصال الحربي المباشر والفعال للرئيس فولوديمير زيلينسكي، تؤكد القوة الناعمة الأوكرانية في يوروفيجن انها في خدمة الحفاظ على الهوية الأوكرانية.
لا شك أن الأداء الموسيقي والرقص الذي قدمته أوركسترا كالوش خلال الدور النهائي في 14 مايو 2022 في تورينو سيُنسى بسرعة. الا ان تأثيرات القوة الناعمة الأوكرانية ستكون طويلة الأمد، وستجعل من الممكن تأكيد الهوية الوطنية الأوكرانية من خلال أخذ الأوروبيين مباشرة كشهود.
* أستاذ محاضر في معهد الدراسات السياسية بباريس
-- انتصار أوركسترا كالوش لا يغير ميزان القوى العسكرية، لكنه دليل على نجــاح الســلطات الأوكرانية في تغيير صورة البــلاد
-- وجدت الهوية الأوكرانية في يوروفيجن وسيلة لتأكيد ذاتها والتعريف بها في أوروبا
-- ساهم فوز روسلانا عام 2004، مع تنظيم كييف للمسابقة عام 2005، في إظهار الهوية الأوكرانية للجمهور الأوروبي العريض
يمثل الانتصار العريض لمرشحي أوركسترا كالوش الأوكراني في يوروفيجن 2022 خطوة مهمة في المواجهة الدائرة بين البلدين في مجال التأثير والنفوذ منذ عام 2004.
مسابقة الأغنية الأوروبية 66، التي عقدت يوم السبت 14 مايو في تورينو، ليست استثناءً من القاعدة الثابتة للأحداث الثقافية أو الرياضية الكبرى ذات التغطية الإعلامية العالية: تم تقديمها على أنها ترفيه غير سياسي منذ إنشائها عام 1956، استخدمت يوروفيجن، هذا العام مرة أخرى، كحلبة مواجهة بين القوى، ومنافسة بين القوى الناعمة الوطنية.
يتم ترشيح المترشحين من قبل المجموعات السمعية والبصرية العامة الأعضاء في اتحاد البث الأوروبي، المؤسسة المنظمة. ولذلك، فإنهم يرتدون ألوان الدولة، ومكلفون بوظيفة عامة للغاية، تتمثل في الترويج لهوياتهم الوطنية بطريقة مباشرة ودقيقة إلى حد ما. ومع ذلك، أعطت الحرب في أوكرانيا للمراحل النهائية لهذه النسخة، لهجة دراماتيكية بشكل خاص: في 25 فبراير، في اليوم التالي للغزو، استبعد الاتحاد الإذاعي الأوروبي المرشح الروسي والمجموعة السمعية البصرية العامة من المنافسة.
من جهة اخرى، فإن الانتصار العريض للمرشحين المقدمين من أوكرانيا، أوركسترا كالوش، يعزز النتائج التي حصلت عليها سلطات كييف لدى الرأي العام الأوروبي. لقد استفادت أغنيتهم “ستيفانيا” من تدفق تعاطف حقيقي من المشاهدين الأوروبيين، وخاصة في بولندا ودول البلطيق ومولدوفا.
وكما هو الحال في وسائل الإعلام، تصارعت أوكرانيا وروسيا عن بعد على مسرح يوروفيجن، وتحت أنظار 200 مليون مشاهد من أكثر من 40 دولة، صراع كانت فيه الهوية الوطنية الأوكرانية والتوجه الجيوسياسي للدولتين ومكانتهما في القارة، على المحك.
من المؤكد أن التوترات بين كييف وموسكو هي الخيط الأحمر للتاريخ السياسي الحديث للمسابقة. فمرة أخرى هذا العام، المسابقة، التي غالبًا ما تكون فنا هابطا وأحيانًا ساخرة ممتعة، مدت الأوروبيين بمرآة مشوهة ولكنها مضيئة لعملية توازن القوى الجارية في قارتهم. مشوهة، لأن أوكرانيا انتصرت في يوروفيجن بعد أسابيع قليلة من خوفها على وجودها. ومضيئة، لأن روسيا ممنوعة الآن من هذا المنتدى أيضًا. إن تتبع المسارات الخاصة والمتباينة لاستراتيجيات القوى الناعمة الروسية والأوكرانية، يجعل من الممكن فهم الصراع الجاري حاليًا من أجل إدارة السرديات الوطنية بشكل أفضل.
تأكيد الهوية الأوكرانية
منذ عام 2004، زمن “الثورة البرتقالية” وتوسيع حلف الناتو ليشمل دول البلطيق، وجدت الهوية الأوكرانية في يوروفيجن وسيلة لتأكيد ذاتها، ولإظهار نفسها والتعريف بها في أوروبا ككل. وبطريقة مرحة، اخذت مشاهدين أوروبيين شهودا للتذكير بوجودها المستقل.
روسلانا، المرشحة التي قدمتها المجموعة السمعية البصرية العامة الأوكرانية، كانت قد اتخذت موقفًا واضحًا لصالح الرئيس المستقبلي فيكتور يوشينكو ورئيس الوزراء المستقبلي يوليا تيموشينكو والحركات الموالية لأوروبا ضد الحركات المهيمنة المؤيدة لروسيا في كييف. فعلت المغنية ذلك خارج المسابقة، ولكن أيضًا خلال المسابقة، لا سيما من خلال الجمع بين كلمات الأغاني باللغة الإنجليزية -وهي علامة على التوجه الأوروبي -وباللغة الأوكرانية -وهي لغة كانت تعتبر حتى ذلك الحين لهجة في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي.
حينها، كانت الدولة الأوكرانية، التي ولدت عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، تسعى إلى تأكيد هويتها اللغوية والثقافية والإعلامية، وبالتالي الوطنية، على الساحة الأوروبية في مواجهة الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية الروسية. النسخة الأولى -الرمزية -من مواجهة داود ضد جالوت.
ووقتها، كانت موسكو قلقة بشأن هذا الانتصار، وعلى نطاق أوسع، من هذه الثورة الملونة التي بدأت حراكا ينافس الهيمنة الروسية في أراضي الاتحاد السوفياتي السابق. لقد كانت المظاهرات في أوكرانيا -في ساحة الاستقلال (ميدان) -بمثابة حافز للثورات “البرتقالية” في جورجيا عام 2003، وثورة “التوليب” عام 2005 في قرغيزستان.
ففي هذه الثورات السياسية، كما حدث في يوروفيجن، خشيت روسيا من الحركات النابذة التي دفعت الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السابقة نحو الغرب -الجمهوريات السوفياتية، التي من بينها دول البلطيق ومولدوفا وجورجيا وأرمينيا وكازاخستان وقيرغيزستان، وطبعا أوكرانيا. سار كل شيء كما لو أن يوروفيجن كانت للجمهوريات السوفياتية بمثابة منصة للوصول إلى أوروبا الغربية دون المرور عبر موسكو.
روسلانا، ملهمة مؤيدة لأوروبا
كرست مسابقة الأغنية الأوروبية استراتيجية العلامة التجارية الوطنية هذه من خلال شخص روسلانا: لقد أصبحت هذه الأخيرة لاحقًا نائب (2006-2007) في البرلمان الأوكراني، رادا، لأن مكانتها كمُلهمة مؤيدة لأوروبا تم تكريسها من قبل المسابقة وفوزها، وهو الأول منذ انضمام أوكرانيا إلى اتحاد الإذاعات الأوروبية عام 1993.
لقد سمح هذا الفوز لأوكرانيا، وفقًا لقواعد المسابقة، باستضافة المرحلة النهائية من المسابقة لأول مرة، وبالتالي الاستفادة من انتشارها الإعلامي الواسع للغاية. ومن عاصمة ريفية لدولة منسية من الاتحاد السوفياتي السابق، أصبحت كييف عاصمة جذابة وديناميكية –في تمايز تام عن موسكو في التمثّلات الجماعية الأوروبية.
باختصار، ساهم فوز روسلانا عام 2004، مع المسابقة التي نُظمت في كييف عام 2005، في إظهار الهوية الأوكرانية للجمهور الأوروبي العريض. وهذه هي الهوية التي يتم التنازع عليها اليوم، بالخطب والسلاح، في غزو أوكرانيا. ونفهم حينها أن مسابقة يوروفيجن تشكل، بالنسبة لموسكو كما لكييف، رهانا محددا ولكنه حقيقي:
فهو يسمح بمخاطبة مباشرة الرأي العام في القارة بالمعنى الواسع، من الدول الاسكندنافية إلى المغرب، ومن البرتغال إلى القوقاز.
يوروفيجن، كأس العالم، الأولمبياد ...
بعد هذا الانتصار، انخرطت كييف وموسكو في مبارزة تأثير ونفوذ عن بعد، لا سيما عندما استضافت العاصمة الروسية نهائي المسابقة الموسيقية عام 2009، بعد فوز المرشح الروسي ديما بيلان عام 2008. بالنسبة لاتحاد روسيا آنذاك، حان الوقت لاستراتيجية قوة ناعمة تقوم على الهيبة الدولية وتأكيد مكانة الدولة على الساحة الإعلامية. وتجلى ذلك في مسابقة عام 2008 بأغنية كُتبت بالكامل باللغة الإنجليزية بعنوان “صدقوا».
تنظيم نهائي يوروفيجن عام 2009، بميزانية 30 مليون يورو، كان بمثابة الخطوة الأولى في استراتيجية الانفتاح على الغرب. وقد أظهر للعالم أن العقد الأسود للتسعينات وأزمة عام 2008 صارتا من الماضي. وأثبتت “البطاقات البريدية” السمعية والبصرية التقليدية لمسابقة الأغنية الأوروبية للرأي العام الغربي مدى تحديث روسيا، التي أصبحت غنية نسبيًا بفضل مكاسب النفط غير المتوقعة، وكانت أيضًا لمواجهة صور كييف عام 2005.
وكان على تنظيم أكبر المسابقات الرياضية -التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة -المساهمة في استراتيجية التأثير هذه من خلال السماح بالوصول المباشر إلى الراي العام الأجنبي. وهكذا، من خلال استضافة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014 في سوتشي (37 مليار يورو من الاستثمارات المعروفة) وكأس العالم لكرة القدم عام 2018 (27 مليار يورو)، حاولت روسيا -مرة أخرى -إثارة الإعجاب في الخارج. اتحد القديم والجديد في هذه الخطة العشرية: تبنى الاتحاد الروسي الوصفات القديمة للاتحاد السوفياتي من خلال إبراز تفوقه الرياضي، لكنه أكملها بإتقان الصورة الغربية بالكامل، التي تقدمها وسائل الإعلام العامة المعاد تنظيمها. واستكملت الواجهات الإعلامية لكل من “روسيا اليوم” و “سبوتنيك” باللغات الأجنبية هذه الترسانة بإتاحة الوصول إلى النقاشات العامة الأوروبية للصحافة الحكومية الروسية.
فشل روسي
سمحت هذه الاستراتيجية لروسيا بان تكون مرئية أكثر، وباستعادة ظهورها وحضورها الإعلامي، لكنها لم تسلم من الانتقاد والجدل: بالطبع جراء عملياتها العسكرية في جورجيا (2008)، وأوكرانيا (2014) وسوريا (2015)، ولكن أيضًا بسبب الخلافات المالية والبيئية التي أثارتها الاستثمارات الباذخة المتعلقة بهذه المسابقات.
ان التناقض صارخ بشكل خاص بين الجهود المبذولة والنتائج المسجلة. بالتأكيد، بين عام 2009 واليوم، اكتسبت روسيا شهرة في أوروبا الغربية. وبالتأكيد، أن “روسيا اليوم” و “سبوتنيك” جعلتا صوت السلطات الروسية مسموعًا في كل مكان في أوروبا، في حين أن روسيا لم تكن مسموعة حتى ذلك الوقت. ومع ذلك، إذا كانت موجات التعاطف حقيقية، فإنها تقتصر على الجناح المحافظ للرأي العام والساحات السياسية الوطنية. إن عقدًا طويلًا من القوة الناعمة الروسية على الصعيد الدولي، من يوروفيجن 2009 إلى كأس العالم 2018، ينتهي اليوم بالفشل.
صراع لقيادة السردية
يشير التاريخ الحديث لـ يوروفيجن، بطريقة مؤكدة، إلى الاسبقية التي تتمتع بها كييف ضد موسكو في الصراع من أجل أن تكون مرئية وقيادة السردية. والانتصار العريض لأوركسترا كالوش يوم السبت 14 مايو، لا يغير طبعا ميزان القوى العسكرية، لكنه دليل على نجاح السلطات الأوكرانية في تغيير صورة البلاد في جميع أنحاء أوروبا. وتحديدا عندما عانت من عدة هجمات في غاية الخطورة على سيادتها واقتصادها وأراضيها.
عام 2014، بعد ضم شبه جزيرة القرم من قبل روسيا واندلاع الأعمال العدائية في دونباس، كان على أوكرانيا تعليق مشاركتها في يوروفيجن. ومستفيدة من هذا الغياب، حاولت روسيا توسيع نفوذها داخل الاتحاد الإذاعي الأوروبي وبين مشاهدي التليفزيون من خلال انتقادها علنًا للمتسابقة النمساوية كونشيتا ورست، التي فازت باللقب بأغنية “انهض مثل طائر الفينيق».
كان الهدف السياسي لروسيا حينها أن تتولى زمام قيادة الحركات الرجعية الأوروبية. ومن بين الدوافع المتكررة للسلطات الحكومية: الحاجة إلى محاربة انحدار الغرب المسيحي في مواجهة “مخاطر” العصر –”دعاية المثليين”، والأسلمة، واليسارية...
مسابقة يوروفيجن 2015، التي عقدت لحظة استعداد موسكو للتدخل في سوريا، كانت بمثابة تحول في القوة الناعمة الروسية كزعيمة للاليبراليين في أوروبا. وكانت حادثة كونشيتا ورست بالنسبة لروسيا أحد العناصر الأساسية في هذه السردية، الأمر الذي منحها مهمة الدفاع عن أوروبا ضد انحدارها الذاتي.
جددت أوكرانيا موقفها السياسي خلال مسابقة 2016 التي فازت بها جمالا بأغنية “1944”، والتي أشارت إلى ترحيل ستالين لتتار القرم. وكان انتقام أوكرانيا من روسيا حينها متعدد الأبعاد لكييف. لقد منحت المرشحة الأوكرانية بلادها انتصارًا ثانيًا سعت إليه روسيا دون جدوى. لكنها، خاصة، ذكّرت أوروبا بمصير هذه المنطقة وسكانها الذين تم ضمّهم بشكل غير قانوني؛ ومشيرة إلى أن القرم تنتمي إلى أوكرانيا؛ ومؤكدة، من خلال الوسيط الرمزي لـ اتحاد البث الأوروبي ويوروفيجن، رغبة كييف في الحصول على مكانها في أوروبا. وقد أبرز الاستهجان الذي عانى منه المرشحون الروس خلال نسختي 2015 و2016 التدهور العام لصورة روسيا في أوروبا.
روح المقاومة الأوكرانية
إن استبعاد روسيا من مسابقة 2022 ليس سوى عقوبة -رمزية لكنها مقيدة -أخرى ضد موسكو. إنه يمثل رفضًا، من جانب أوروبا بالمعنى الواسع، لغزو أوكرانيا، تمامًا كما كان استبعاد صربيا عام 1995 يعني إدانة رئاسة ميلوسيفيتش زمن حروب يوغوسلافيا السابقة (1992-1995).
يكرس هذا الاستبعاد أيضًا اتجاهين عميقين في استراتيجيات التأثير الأوروبية. من ناحية، الجهود التي بذلتها روسيا على مدار عقد لجذب، وتوحيد، والتأثير، وأخيرًا زعزعة استقرار الأوروبيين في المجالات الإعلامية والرياضية والثقافية لم تحقق أهدافها.
ومن ناحية أخرى، في اللحظة التي كان فيها مصير أوكرانيا مهددًا للغاية، تقدم يوروفيجن في المقابل للبلاد إمكانية إظهار روح المقاومة أمام الأوروبيين مباشرة. وعلى غرار الاتصال الحربي المباشر والفعال للرئيس فولوديمير زيلينسكي، تؤكد القوة الناعمة الأوكرانية في يوروفيجن انها في خدمة الحفاظ على الهوية الأوكرانية.
لا شك أن الأداء الموسيقي والرقص الذي قدمته أوركسترا كالوش خلال الدور النهائي في 14 مايو 2022 في تورينو سيُنسى بسرعة. الا ان تأثيرات القوة الناعمة الأوكرانية ستكون طويلة الأمد، وستجعل من الممكن تأكيد الهوية الوطنية الأوكرانية من خلال أخذ الأوروبيين مباشرة كشهود.
* أستاذ محاضر في معهد الدراسات السياسية بباريس