«البديل» الألماني يؤسس جناحا شبابيا.. إجراء تنظيمي أم بداية لـ «مأسسة»
عزّز حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف صعوده في استطلاعات الرأي، بإعلان تنظيم شبابي جديد أربك المشهد السياسي في البلاد.
«جيل ألمانيا» هو الجناح الشبابي الجديد للحزب، والذي صاحبت ولادته في مدينة غيسن احتجاجات صاخبة واحتكاكات عنيفة مع الشرطة، في مؤشر على أن هذا التأسيس لا يمثل مجرد إجراء حزبي عابر أو حدث محلي محدود، بل هو تطور سياسي يهدد «الديمقراطية الألمانية»، ويضع الأحزاب التقليدية أمام امتحان صعب.
وجاءت المنظمة الجديدة بعد إعلان حزب البديل، في آذار- مارس الماضي، عن حل المنظمة السابقة «شباب البديل» إثر تصنيفها من قبل الاستخبارات الألمانية (هيئة حماية الدستور) كتيار متطرف، وهو ما وجد فيه الخبراء محاولة «لتجنب المخاطر القانونية».
وتشترط المنظمة الجديدة العضوية في حزب البديل كمدخل للانضمام إليها، أي أن ثمة ارتباطا مباشرا بالحزب الأم، على عكس المنظمة السابقة المنحلّة.
واللافت أن حزب البديل نفسه حديث النشأة قياسا إلى التاريخ الطويل للأحزاب المكرّسة في ألمانيا؛ إذ تأسس في العام 2013 وحقق نتائج «مذهلة» في فترة قياسية، بعد أن حلّ في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت في فبراير الفائت في المرتبة الثانية على مستوى البلاد بعد التحالف المسيحي؛ إذ حصل على أكثر من 20 بالمئة من أصوات الناخبين، ليصبح «خصما عنيدا» وليس مجرد مجموعة من الغاضبين والناقمين وحليقي الرؤوس.
ويرى خبراء، في سياق الحديث عن مخاطر هذا الجسم السياسي الجديد، أن هذه المنظمة الشبابية ستضمن لحزب البديل تدريب قوى بشرية مؤدلجة، وستسهم بالتالي بشكل مبكر في رفده بنخب وقادة من الجيل الشاب يملكون «كاريزما» وتأثيرا.
«دروس تحذيرية»
وأثبتت تجارب أوروبية مماثلة كيف أن المنظمات الشبابية للحركات اليمينية شكّلت مصدرا ثابتا لإنتاج كوادر حزبية ساهمت لاحقا في توسيع نفوذ هذه الحركات داخل المشهد السياسي في هذا البلد أو ذاك؛ ففي إيطاليا مثّلت حركة الشباب القومي التابعة لحزب «إخوة إيطاليا» أداة رئيسة لإعداد وجوه شابة صعد بعضها مع حكومة جورجيا ميلوني الحالية.
وفي فرنسا، لعبت منظمة «الجبهة الوطنية للشباب» دورا محوريا في تشكيل الجيل الذي صعد مع مارين لوبان؛ إذ كانت المنظمة منذ التسعينيات «مصنعا للكوادر» التي انتقلت من الهوامش الراديكالية إلى صلب حملة «إعادة تلميع» حزب التجمع الوطني اليميني وجعله مقبولا انتخابيا.
وتكرر الأمر ذاته في النمسا؛ إذ وفرت منظمة شباب حزب الحرية رافعة سياسية مهمة منذ التسعينيات، فظهر من بين صفوفها عدد من الشخصيات التي وصلت لاحقا إلى مناصب عليا.
ويتابع الخبراء أن هذه الأمثلة وغيرها، التي شهدتها كذلك هنغاريا وبولندا، وجعلت «السرديات القومية» المتطرفة مقبولة في الفضاء العام، تقدّم دروسا تحذيرية لألمانيا، وتكشف أن المنظمات الشبابية ليست مجرد هياكل حزبية جانبية، بل مختبرات أيديولوجية تصنع القادة وتمهد الطريق أمام الحركات المتشددة للانتقال من الهامش إلى متن العملية السياسية.
ويضيف الخبراء، لدى تعدادهم لمخاطر «جيل ألمانيا»، أن المنظمة طبقا لمرجعيتها المتمثلة في «البديل» ستعزز خطاب «الاستبعاد والانغلاق». فوجود جناح سياسي منظم تابع له يعني القدرة على صياغة رسائل موجّهة للشباب تمجد «العرق الألماني»؛ وهو ما يعيد إلى الأذهان «العقيدة النازية»، وتحضّ على الحذر من الآخر؛ الأمر الذي سيترك آثارا عميقة على مواقف برلين «المتسامحة» تجاه اللاجئين والمهاجرين.
ويبيّن الخبراء أن من السذاجة النظر إلى المنظمة على أنها «جمعية خيرية»، بل من المنطقي أن تضخ لاحقا كوادر شبابية في مواقع صنع القرار تركز جهودها وتستثمر مواقعها القيادية لتشديد قيود الهجرة وعرقلة عمليات «الاندماج»؛ وهو ما سينعكس سلبا على حياة مئات الآلاف من المقيمين و»المُجنّسين» ذوي الخلفيات المهاجرة. ولا يخفي حزب البديل، في برامجه وأدبياته، مناهضته للمهاجرين ومطالباته المتكررة بترحيلهم وإغلاق الحدود. ويعزو الخبراء جانبا من صعود «البديل» إلى هذه الجزئية المتعلقة بالهجرة، حيث يستغل «الاستياء» الذي بدأ يظهر في أوساط الألمان لتوسيع قاعدته الانتخابية؛ ما دفع بعض الأحزاب التقليدية إلى تشديد خطابها بشأن الهجرة لقطع الطريق أمام البديل، لكن سياساتها تظل قاصرة عن مجاراة «البديل» في «العداء الصريح» للاجئين.
ومن المتوقع، وفقا لخبراء، أن يفاقم وجود مثل هذه المنظمة الانقسامات داخل المجتمع الألماني، وقد تتطور في كثير من المناسبات إلى «عنف سياسي» ومواجهات في الشارع، كما حصل يوم التأسيس في مدينة غيسن في 29 الشهر الفائت؛ إذ نشطت الشرطة بنحو خمسة آلاف عنصر، وبلغ عدد المحتجين نحو 50 ألفا «بحسب بعض التقديرات» وهي مؤشرات تنذر بأن الشارع الألماني قد يتحول إلى «ساحة اشتباك» عند تنظيم أي مناسبة للمنظمة الجديدة.
أصداء وخطوة كبرى
وفي ضوء هذه المعطيات، كان متوقعا ألا يمر تأسيس المنظمة الشبابية دون سجال وضجيج، فقد حظي بتغطية واسعة في الإعلام الألماني، الذي وصفها بأنها «خطوة كبرى» للحزب.
وبدت التغطية الألمانية «في غالبيتها» متشائمة حيال الخطوة؛ إذ ركزت على المخاطر الرمزية والسياسية والاجتماعية لإطلاق منظمة شبابية في لحظة تشهد فيها ألمانيا توترات مرتبطة بالهجرة والأزمات الاقتصادية وارتدادات الحرب الأوكرانية، وحذرت من أن وجود ذراع شبابية للحزب قد يسهم في تعميق الاستقطاب داخل المجتمع، خاصة أن بعض رموز «البديل» لا يترددون في طرح أفكار عن «إعادة تشكيل الهوية الألمانية» على أسس ثقافية وإثنية حصرية.
ولعل من المفيد التذكير، هنا، بأن الزعيم النازي أدولف هتلر، الذي جلب الكوارث لبلاده ولأوروبا برمتها، كان يرى الهوية الألمانية بوصفها هوية عرقية نقية تنتمي إلى ما سمّاه «العرق الآري المتفوق»، معتبرا أن على الدولة أن تحافظ على هذا «النقاء» بأي ثمن.
ومن المعروف أن هذا «التصور الفوقي» قاده إلى تبني سياسات عنصرية تقوم على الإقصاء والإبادة، باعتبار الأعراق الأخرى «ولا سيما اليهود» تهديدا وجوديا لـ»الأمة الألمانية».
كما قوبل الإعلان بسيل من الانتقادات والتحذيرات «الحزبية». فرأت الأحزاب الديمقراطية التقليدية، وفي مقدمتها الحزب الاشتراكي الديمقراطي (المشارك في الائتلاف الحاكم) وحزب الخضر، أنه محاولة «ممنهجة» لتأسيس جيل مؤدلج يحمل خطاب حزب البديل المعادي للهجرة، واعتبرت التأسيس التفافا على «الدستور والقانون».
وبالنسبة لليسار الألماني فإن «جيل ألمانيا» ليس سوى محاولة لإنتاج شبكة تعبئة عقائدية تهدف إلى «تعزيز أجندة قومية ضيقة».
أما التيار المحافظ، وفي مقدمته «التحالف المسيحي» «المشارك في الائتلاف الحاكم»، فقد رأى أن هذا التأسيس يمثل طرحا لاستراتيجية انتخابية بعيدة المدى، خصوصا أن الحزب يعوّل على صعود شعبيته في شرق ألمانيا – معقله الرئيس – وتحويل هذا الصعود إلى بنية تنظيمية قادرة على تخريج كوادر سياسية جديدة.
تطبيع ومأسسة التطرف
لكن النقطة الأخطر تجلت في تحليلات أخرى ذهبت إلى القول إن «الخطوة تعبّر عن انتقال حزب البديل من حزب احتجاج إلى حزب مشروع»، أو بعبارة أخرى هي محاولة من الحزب لـ»مأسسة» التطرف وتطبيعه في دولة القانون.
ومن المعروف أن الأحزاب الألمانية جميعها ترفض التحالف مع حزب البديل مهما كانت نتائجه في الانتخابات. ومثل هذا الموقف الموحد هو الذي يبقي البديل خارج الحكم، لكونه لا يستطيع بمفرده تحقيق أغلبية مطلقة تتيح له اختيار المستشار وتشكيل حكومة. غير أن خبراء يرون أن ارتفاع رصيد الحزب بين الناخبين مستقبلًا قد يجعل من مسألة الائتلاف معه أمرا محتملا.
بهذا المعنى، فإن الإعلان عن المنظمة الشبابية جاء بمثابة اختبار لإرث ألمانيا السياسي، في ظل معادلة صعبة: حزب يميني متطرف يتطلع لبناء جيل شبابي مؤدلج، في مقابل مجتمع مدني ونخب سياسية رافضة. ويبقى السؤال الذي يطرحه المحللون:
إلى أي حد ستنجح برلين في استيعاب هذا «الوليد الشبابي الجديد» دون الإضرار بسمعة البلاد في مجال ثقافة التعايش والتسامح والتعدد؟