«بكل الوسائل المتاحة».. رسائل الردع تنذر بمواجهة مفتوحة بين روسيا والناتو

«بكل الوسائل المتاحة».. رسائل الردع تنذر بمواجهة مفتوحة بين روسيا والناتو


في الأسابيع الأخيرة، بدا أن موسكو تتعمد رفع مستوى الضجيج الاستراتيجي في كل اتجاه، ما بين رسائل نووية وتحركات هجينة، وأيضا استعراض لأنظمة تسلح وُصفت بأنها “خارقة للردع التقليدي». 
ورغم أن حلف شمال الأطلسي “الناتو” يؤكد أن الحرب النووية لا يمكن الفوز بها، فإن روسيا لا تزال تذكّر القارة العجوز بأن لديها “كل الوسائل المتاحة” للرد على ما تعتبره تمددًا أطلسيًا يقترب من خطوطها الحمراء.
ويشهد شهر نوفمبر-تشرين الثاني الجاري أعلى موجة من الرسائل الروسية منذ سنوات، إذ بدأت في الرابع من نوفمبر بإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجاح اختبار صاروخ “بوريفستنيك” الذي يعمل بالطاقة النووية وبمدى غير محدود، مؤكدًا أنه يتفوق على جميع الأنظمة الصاروخية في العالم.
وكشف بوتين أن سفينة تابعة للناتو كانت تراقب منطقة الاختبار، قبل أن يعلق بلهجة تحدٍ: “دعهم يراقبون».
وفي اليوم التالي، كلف بوتين وزارتي الدفاع والخارجية وأجهزة الاستخبارات بتقديم مقترحات حول إمكانية الاستعداد لاختبارات نووية جديدة، ردًا على إعلان إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استئناف التجارب النووية الأمريكية.
وبعد ذلك بأيام، أكدت الخارجية الروسية أنها لا تخطط لمهاجمة دول الناتو، لكنها ستتخذ جميع الإجراءات لضمان أمنها القومي.
وتشير التصريحات الروسية إلى أن كل الوسائل المتاحة تشمل 3 حزم رئيسة؛ أولها السلاح النووي بأنواعه الجديدة، مثل صاروخ “بوريفستنيك” النووي بمدى غير محدود، ومركبة “بوسيدون” غير المأهولة تحت الماء، وصاروخ “سارمات” الباليستي العابر للقارات المتوقع دخوله الخدمة القتالية عام 2026. أما الحزمة الثانية فتشمل الحرب الهجينة، من استخدام الطائرات المسيّرة للتوغّل في أجواء الناتو، والهجمات على الكابلات البحرية في بحر البلطيق، وصولًا إلى استغلال تدفقات اللاجئين لزعزعة استقرار الدول المجاورة. 
وأخيرًا؛ القدرات التقليدية المتطورة، حيث تواصل روسيا إنتاج أكثر من 300 طائرة مسيّرة يوميًا لأغراض الاستنزاف التكتيكي.

تهديدات حلف الناتو
على الجانب الآخر، شدد الأمين العام للناتو مارك روته على أن الحلف يمتلك رادعًا نوويًا قويًا وأن خطاب موسكو “متهور” لكنه لا يستدعي الذعر.
ومن جهته، حذّر قائد العمليات المشتركة الألمانية من إمكانية قيام روسيا بهجوم محدود داخل أراضي الناتو “في أي وقت”، رغم انشغالها في أوكرانيا.
واستجابةً لذلك، قام الحلف بتوسيع قوة الاستجابة السريعة من 40 ألفًا إلى أكثر من 300 ألف جندي، ووافق جميع الأعضاء على رفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي، وأعلنت بولندا إسقاط أي جسم طائر يخترق أجواءها “من دون نقاش».
وتصف روسيا التحركات الأوروبية بأنها محاولة لاستفزاز موسكو ودفع واشنطن إلى مواجهة تُسوّغها المادة الخامسة من معاهدة الحلف.
كما أعربت موسكو عن قلقها من برامج مثل “القبة الذهبية” الأمريكية، تستهدف اعتراض الصواريخ الروسية والصينية قبل الإطلاق، معتبرة ذلك جزءًا من استراتيجية لتقويض قدرات الردع الروسية.
ومع هذه التحركات والتحذيرات الروسية المتكررة للناتو بأنها سترد بكل الوسائل المتاحة، يبقى المشهد مُعلّقًا على العديد من التساؤلات، أبرزها: ما هي الوسائل المتاحة؟ وما مدى واقعية التحذيرات الروسية؟ وما خطط الناتو للهجوم على روسيا؟.

تهديد وجودي لروسيا
وقال الباحث الاستراتيجي هشام معتضد إن التهديدات الروسية الموجّهة إلى حلف الناتو تتراكم ضمن سياق استراتيجي شديد الحساسية، إذ تسعى موسكو وفق سرديتها الرسمية إلى منع انزلاق ميزان القوى نحو تفوق غربي قد ترى فيه تهديدًا وجوديًا للدولة الروسية.
وأشار في تصريحات لـ”إرم نيوز” إلى أن التحذيرات الروسية المتكررة بأن موسكو سترد بكل الوسائل المتاحة ليست مجرد دعاية سياسية، بل هي تعبير عن قناعة روسية بأن البيئة الأمنية الأوروبية تقترب من لحظة كسر للتوازن الردعي القائم منذ نهاية الحرب الباردة.
وأكد الباحث الاستراتيجي أن موسكو، عندما تتحدث عن “كل الوسائل المتاحة”، فهي تحيل إلى طيف واسع من قدرات الردع، بدءًا من الضربات التقليدية عالية الدقة وصولًا إلى الأسلحة النووية التكتيكية والاستراتيجية، بما في ذلك الصواريخ الفائقة الصوت “أورشنيك”، والعابرة للقارات “سارمات”، إضافة إلى منظومات “بوريفستنيك” و”بوسيدون».
وأوضح معتضد أن القلق الغربي لا يرتبط فقط بوجود هذه المنظومات، بل بتعديل العقيدة النووية الروسية الذي يسمح باستخدام السلاح النووي ردًا على هجوم غير نووي إذا اعتُبر مهددًا لوجود الدولة.
وأضاف أن واقعية استخدام السلاح النووي تبقى منخفضة رغم التصعيد، خاصة أن الكرملين يدرك أن أي ضربة أولى ستستجلب ردًا كارثيًا من الناتو، وأن منظومة “اليد الميتة” التي يكثر الحديث عنها تعمل أساسًا كأداة ردع لضمان الضربة الثانية.

سيناريو النووي التكتيكي
ويرى معتضد أن سيناريو اللجوء إلى النووي التكتيكي قد يُطرح إذا تحولت الحرب في أوكرانيا إلى مواجهة مباشرة مع قوات الناتو، خاصة مع التحذيرات الروسية بشأن وجود خبراء غربيين يشرفون على تشغيل صواريخ “توماهوك” داخل أوكرانيا.
وأشار الباحث الاستراتيجي إلى أن المؤسسة العسكرية الروسية تقدّم تصعيدات الناتو على أنها خطوات هجومية تهدف إلى “نزع أنياب” الردع الروسي، من توسع الحلف نحو فنلندا والسويد إلى رفع سقف الإنفاق العسكري الأوروبي ونشر منظومات الدفاع الصاروخي الأمريكية في بولندا ورومانيا.

معادلات الردع
ومن جانبه، أكد د. محمد عثمان، خبير العلاقات الدولية، أن روسيا تُصدر انطباعًا بأنها باتت على قناعة بأن أوروبا تُعد العدة لمواجهة مستقبلية معها، في حين ترى أوروبا أن لدى موسكو ميولًا توسعية تتجاوز أوكرانيا لتمتد إلى دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ولا سيما دول البلطيق.
وأضاف في تصريحات لـ”إرم نيوز” أن الحرب في أوكرانيا كشفت عن قصور كبير في القدرات الدفاعية الأوروبية، إذ لا يكفي الإنتاج العسكري الأوروبي من الذخائر والسلاح لتلبية احتياجات الجيش الأوكراني في الجبهة، بل لا يفي أيضًا بمتطلبات الأمن والدفاع للدول الأوروبية داخل حلف الناتو، التي أهملت تطوير قدراتها العسكرية بالشكل الكفيل بردع ما تعتبره “أطماعا روسية».
وقال عثمان إن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وتراجع مستويات الدعم العسكري الأمريكي لأوكرانيا، إلى جانب الضغوط التي تمارسها واشنطن على الأوروبيين لزيادة إنفاقهم الدفاعي ليصل إلى نحو 5% من الناتج المحلي، عززت شعور أوروبا بضرورة بناء قدراتها العسكرية الذاتية.
وأشار خبير العلاقات الدولية إلى أن هذا التحول دفع “ثلاثي أوروبا الكبير”، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، إلى وضع خطة تمتد خمس سنوات تستهدف زيادة الإنفاق الدفاعي ورفع مستوى الجاهزية العسكرية، بما يسمح بامتلاك أدوات ردع فاعلة في مواجهة روسيا.
وأوضح عثمان أن هذه التحركات الأوروبية أثارت انزعاجًا كبيرًا في موسكو، الغاضبة أصلاً من استمرار الدعم الأوروبي لأوكرانيا ورفض القارة العجوز التسليم بالصيغة الروسية للتسوية.
وقال إن موسكو تصر على شروط تشمل انسحاب أوكرانيا من المناطق المتبقية تحت سيطرتها داخل الأقاليم الأربعة التي أعلنت روسيا ضمها العام 2022، إضافة إلى فرض حياد كييف ونزع قدراتها العسكرية، وهو ما تعتبره أوروبا “استسلامًا” للشروط الروسية وإقرارًا بواقع جيوسياسي جديد يصبّ في مصلحة موسكو.
وأشار إلى أنه مع التقدم الروسي على معظم المحاور وتراجع قدرة أوكرانيا على صد الهجمات، تحاول أوروبا تعويض هذا التفوق عبر زيادة الدعم العسكري أو حتى التلويح بإمكانية إرسال قوات في مراحل لاحقة لدعم كييف لوجيستيًا أو كجزء من ضمانات أمنية في حال التوصل لهدنة طويلة، وهو ما تعتبره روسيا تصعيدًا خطيرًا يرقى إلى التدخل المباشر.
وأضاف أن روسيا لم تكتفِ بالتحذيرات، بل اتجهت لاتخاذ خطوات عملية لتعزيز الردع، من خلال اختراق أجواء عدد من الدول الأوروبية بالطائرات المسيرة وأحيانًا بالطائرات المقاتلة، رغم نفي موسكو المتكرر.

رسالة روسية واضحة
وأكد عثمان أن الرسالة الروسية واضحة، بأن أي تدخل أوروبي مباشر، سواء عبر إرسال قوات أو محاولة تعطيل العمليات الروسية، مثل اعتراض الغارات الصاروخية أو الجوية، سيُقابل برد مباشر قد يوسع نطاق الصراع. 
وأشار خبير العلاقات الدولية إلى أن الحديث عن هجوم روسي محتمل على أوروبا أو مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا، يبقى مبالغة تستخدمها الأطراف لردع بعضها البعض ولشدّ العصب الداخلي في سياق حرب بالوكالة.
وقال إن الحرب المباشرة بين روسيا والحلف الأطلسي حال اندلاعها ستكون انتحارًا جماعيًا لا يخرج منه أحد منتصرًا، لافتًا إلى أن الولايات المتحدة، رغم توترها المتصاعد مع موسكو، ليست معنية بالدخول في مواجهة مفتوحة أو حتى بالوكالة مجددًا؛ ومن دون واشنطن لا يستطيع الناتو اتخاذ خطوات تصعيدية واسعة ضد روسيا.