على هامش الحرب الأوكرانية
أوجه الشبه والاختلاف بين ستالين وفلاديمير بوتين...!
-- إعادة الاعتبار لستالين، وإعادة كتابة تاريخه كنموذج للقائد الحقيقي
-- تشكلت رؤية بوتين للعالم داخل العالم السوفياتي، وعاش نهاية ذاك الاتحاد بشكل سيء
-- عاد بوتين إلى الرؤية الستالينية للحرب الباردة ففي هذا العالم هناك معسكرين متعارضين
-- كان ستالين يكره أي شكل من أشكال الفكر القومي البعيد عن نموذج «روسيا الكبرى»
-- إن هزيمة روسيا في أوكرانيا، محتملة على المدى الطويل، ستؤدي بلا شك إلى الوفاة الثانية للاتحاد السوفياتي
فلاديمير بوتين، الذي تحول إلى القومية الروسية، تنكّر منذ فترة طويلة لاتحاد سوفياتي مذنب في عينيه لأنه اعتمد، أولاً مع لينين، سياسة القوميات التي أدت إلى الوضع الحالي، استقلال أوكرانيا. ويعتقد بعض المراقبين أنه ينوي إعادة تشكيل إمبراطورية الرومانوف. وإذا كان هذا هو هدفه، فانه ينوي تحقيقه كوريث للشمولية الستالينية.
إن رؤية بوتين، الضابط السابق في الـ “كي جي بي” للعالم، بُنيت داخل العالم السوفياتي، وعاش نهاية ذاك الاتحاد بشكل سيء للغاية، وهو ما أكده عام 2005، بعد ست سنوات من وصوله إلى السلطة، أنها كانت “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”. في نفس العام، تم تأسيس حركة شبابية بوتينية في أبريل، واسمها، “ناتشي” “أهلنا”، ستحدد نغمة ما سيتبع. لأنه بعد فترة من التردد في ولايته الأولى، يبدو أن الثورة البرتقالية لعام 2004 في أوكرانيا جعلته يخشى أن تحدث ثورة أخرى تفجّر روسيا مثل الاتحاد السوفياتي بالأمس. ويبدو أنه أقنع نفسه بعد ذلك أنه، لعرقلة مثل هذا التطور، يجب أن يؤسس سلطة شخصية قوية، معتقدًا أن سقوط الاتحاد السوفياتي كان بسبب ضعف السلطة أولاً، قبل هذا السقوط وبعده.
فبالنسبة له، بعد سياسة اللامركزية التي أطلقها بوريس يلتسين، يجب إعادة مركزة السلطة وبقوة.
في تلك السنوات، ظهرت صيغ مثل “السلطة الرأسية” و”دكتاتورية القانون” و”الديمقراطية السيادية” و”الرأسمالية المدارة” في العبارات الرسمية. ثم تم تعزيز السلطة المركزية ضد الأوليغارشية وحكام المناطق واضعاف المعارضة.
وبعد التناوب الشكلي في 2008، اتسمت عودة بوتين إلى الرئاسة في 2012 بنزاعات تسببت في تحول صارم جديد... لم يتوقف عن تعزيز سلطته حتى أصبح سلطويا حقيقيًا.
إعادة كتابة التاريخ
من منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قام في وقت واحد بإعادة الاعتبار لستالين، وهو نموذج في نظره للقائد الحقيقي؛ مشروع تحريفي بشكل واضح. عام 2008، أعادت الكتب المدرسية الجديدة، التي أمرت بها الإدارة الرئاسية، الاعتبار لسيّد الكرملين السابق. وتتطرق النصوص بشكل خاص إلى مسألة التطهير، مؤكدين أن هناك العديد من الجناة من بين أولئك الذين تمت محاكمتهم، وأن ذلك التطهير مكّن من كسب الحرب من خلال التخلص من الطابور الخامس.
بلغت إعادة كتابة التاريخ أوجها عندما قام في ديسمبر 2020 بحل المنظمة غير الحكومية ميموريال، التي تأسست عام 1989 بهدف أرشفة انتهاكات الفترة الستالينية، وعلى نطاق أوســــع، انتهاكــــات حقـــوق الإنسان.
وبروح تثير بشدة محاكمات الثلاثينات، يعتقد المدعي العام الذي تعامل مع القضية، أن مجرد استحضار عمليات التطهير هو تبرير للنازية.
جرى التناوب الشكلي لعام 2008 في احترام كامل للمؤسسات ودون المساس بالدستور.
لكن في 10 مارس 2020، صوت مجلس الدوما على تعديل مسودة المراجعة الدستورية التي من شأنها أن تسمح لفلاديمير بوتين بالترشح لفترتين جديدتين متتاليتين بعد عام 2024، مما يمهد الطريق لاحتمال بقاء الرئيس الروسي في السلطة حتى عام 2036. وفي 22 ديسمبر، صدر قانون يمنح حصانة قانونية مدى الحياة للرؤساء السابقين وأقاربهم. وينص هذا النص الجديد على أن الرئيس الروسي السابق “لا يمكن مقاضاته جنائياً أو إدارياً”. علاوة على ذلك، لا يجوز للشرطة القبض عليه أو استجوابه أو تفتيشه.
مملكة الدعاية
منذئذ، بدأ بوتين، الربّان الوحيد على متن السفينة، في معاملة مساعديه كمــا كان ستالين يعامل مساعديه، باســـــتثناء اغتيالهــــم، هــذا صحيح.
وللاقتناع بذلك يكفي مراقبة رئيس المخابرات الخارجية، خلال اجتماع مجلس الأمن المنعقد في فبراير حول المسألة الأوكرانية، يرتجف ويتلعثم واقفا أمامه، وهو مطالب بإبداء رأيه بوضوح في إعلان استقلال الجمهوريتين المعلنتين في شرق البلاد.
اعتبر بعض المختصين أن ستالين منحرف نرجسي. وبوتين، ربما يعاني من جنون العظمة، معزولًا في برجه العاجي، وليس مهتمًا جدًا بآراء معاونيه ولكنه يطالبهم بالطاعة والولاء المطلقين.
ينتقل هذا إلى الفضاء العام، وكما كان الامر في عهد ستالين ومن ثم خلفاؤه، فإن روسيا بوتين هي مملكة الدعاية والتضليل الاعلامي، والتي أشار إليها أنطوان سيجيلا في عمله المنشور عام 1938، عشر سنوات في أرض الأكاذيب المربكة.
فن الكذب هذا هو طبيعة ثانية لهذه الأنظمة الشمولية حيث تعتبر السلطة أن أي شخص ينحرف عن الخطاب الرسمي هو عدو يجب قتله، وشخصية بلا قيمة يجب معاملتها بالإهانة والازدراء.
نذكّر بالزمن الذي وصف فيه ألكسندر فاديشيف، في المؤتمر العالمي للمثقفين من أجل السلام، عام 1948، جان بول سارتر، المتغيب عن الحفل، بأنه “ابن آوى بقلم” و”ضبع بآلة كاتبة».
اليوم، لا يعامل “أعداء الداخل” بشكل أفضل مما كان عليه الامر بالأمس، حتى لو لم تظهر محاكمات موسكو مرة أخرى: اغتيال الصحفيين، وتسميم المعارضين مثل أليكسي نافالني المحكوم عليه بعقوبة سجنيّة شديدة، واعتقال الآلاف من المتظاهرين ضد الحرب. ان “العملية الخاصة” في أوكرانيا مصحوبة داخليًا باستخدام إجراءات شمولية للسيطرة على السكان الروس.
وبالتالي، تلقى أولياء أمور الطلاب تحذيرات من المدارس ترشدهم إلى مراقبة استخدام أطفالهم للشبكات الاجتماعية. وفي المدارس، يحضر الطلاب جلسات خاصة مصممة لغرس الخط الرسمي فيهم. وأصبحت الرقابة على الإنترنت أكثر اكتمالا، ويتعلق الأمر بفصل الروس عن العالم الخارجي. وهكذا نشهد عودة الكابوس الستاليني إلى الظهور. لا ينبغي إطلاق كلمة الشمولية باستعجال، ولكنها ضرورية هنا لوصف تطور المجتمع الروسي.
العدو الخارجي
يجب معاملة العدو الخارجي مثل العدو الداخلي. هنا مرة أخرى المفردات تذكر بزمن ستالين. وهكذا فإن الحكومة الأوكرانية بالنسبة لبوتين هي فقط مجموعة من النازيين ومدمني المخدرات الذين يجب تصفيتهم.
وان المطلوب هو استسلام اوكرانيا غير المشروط. بالنسبة لهذين الرجلين، لا وجود لحق الشعوب في تقرير المصير، ولا قيمة للحياة البشرية.
يجب أن نعيد قراءة كتاب روبرت كونكويست، الحصاد الدموي، الذي وصف معاناة الشعب الأوكراني في حقبة سياسة التجميع القسري للأراضي من قبل ستالين خلال شتاء 1932-1933، مما أدى إلى انتشار المجاعة وخمسة ملايين قتيل.
تم تنفيذ عمليات القمع والاضطهاد والتطهير هناك على نطاق أوسع من أي مكان آخر.
وتجدر الإشارة الى إن ستالين، مثل بوتين لاحقًا، كان يكره أي شكل من أشكال الفكر القومي البعيد عن نموذج “روسيا الكبرى». إنها سياسة عنيفة متطرفة تلك التي نفذها بوتين في الشيشان، مع تدمير غروزني، ثم في سوريا، والتي يبدو أنها تسير في نفس الاتجاه اليوم في أوكرانيا.
دخول الدبابات الروسية إلى المدن الكبرى يشير إلى دخولها أمس في بودابست عام 1956، وفي براغ عام 1968: قانون القوة وسياسة الترهيب.
وعلى غــــــرار ستالين، فعدو بوتين هو الغرب، التي يجب الحماية من توســـــعه المحتمل والخطير. ومن هنا جاء اسدال “الستار الحديدي” الجديد الذي عزل سكان الإمبراطورية الروسية. الناتو هو الجناح العسكري لهذا العدو، ويعتبر المسؤول الوحيد عن الردود “الدفاعية البحتة” التي تتبناها الدولة الروسية. بعد سنوات قليلة من التردد، عاد بوتين إلى الرؤية الستالينية للحرب الباردة.
في هذا العالم هناك معسكرين متعارضين بشكل غير قابل للاختزال على هذا الكوكب. الولايات المتحدة وروسيا هما القوتان المهيمنتان.
وفي مواجهة العدو الغربي، يحاول بوتين إعادة الارتباط بـ “التعبئة الوطنية” في زمن ستالين. وبسبب الفشل في تمكين الشعب الروسي من التحديث الاقتصادي الموعود، فإن هذه التعبئة، التي أثبتت فعاليتها
بشكل خاص في زمن “الحرب الوطنية الكبرى” (التي تم تفعيلها من قبل مفوضين سياسيين)، تشهد تكييفا مع الوقت الحاضر، لأنه إذا تم اعتبار الغرب في حالة حرب ضد روسيا، فإن هذه الأخيرة في المقابل “تدافع عن نفسها” فقط، وغزوها لأوكرانيا مجرد “عملية خاصة” وليست حربًا، وهي نوع من عمليات إنفاذ القانون. ومثل ستالين، يقدم بوتين نفسه على أنه الشخص الوحيد القادر على حماية الشعب الروسي من العدوان الخارجي.
الستالينية والهتلرية
ومع ذلك، هناك عنصر حاسم يميز روسيا بوتين عن روسيا الستالينية. لقد شن ستالين، الذي كان أكثر دهاءً وحذرًا من بوتين، حربًا هجومية فقط عام 1939 ضد فنلندا الصغيرة، وهي حرب انتهت بفوزه رغم النكسات الشديدة والعديدة (خلال حرب الشتاء اخترع الفنلنديون زجاجة المولوتوف التي يستخدمها الأوكرانيون اليوم ضد الدبابات)، وضد بولندا، حرب لم يكن يخشى خسارتها لأن هتلر كان يهاجم هذا البلد من جانبه. في المقابل، كانت حربًا دفاعية ضد ألمانيا النازية التي شنها منتصرًا. ومن الواضح أن بوتين، الأقل حذرًا والأكثر ثقة في النفس، قد استخف بتوازن القوى في أوكرانيا.
في الواقع، المقارنة مع هجوم هتلر على روسيا هي الاقرب لمقارنة هجوم بوتين الخاطئ الفاشل.
يجب أن نتذكر أن آخر مرة عانت فيها كييف ومدن أوكرانية أخرى من هذه الوحشية العسكرية كانت في الساعات الأولى من يوم 22 يونيو 1941.
كان هذا عندما شن هتلر عملية بربروسا ضد الاتحاد السوفياتي.
وقبل يومين من غزو بوتين لأوكرانيا، ظهرت افتتاحية على قناة ريا نوفوستي تعلن قبل الأوان عن غزو البلاد، حيث وصف المؤلف “العملية الخاصة” بأنها “حل للمسألة الأوكرانية...».
إذا لم يخسر ستالين حربًا، فقد خسر خلفاؤه حربًا في أفغانستان. هزيمة لعبت دورًا مهمًا في انهيار الاتحاد السوفياتي.
وإن هزيمة بوتين في أوكرانيا، المحتملة على المدى الطويل، ستتسبّب بالتأكيد، ولكن بعد أي كارثة إنسانية ودمار، في نهاية بوتين وروسيا البوتينية، انه الموت الثاني للاتحاد السوفيتي نوعا ما.
*مدير البحوث المميّز في مركز الدراسات الأوروبية في ساينس بو.
-- تشكلت رؤية بوتين للعالم داخل العالم السوفياتي، وعاش نهاية ذاك الاتحاد بشكل سيء
-- عاد بوتين إلى الرؤية الستالينية للحرب الباردة ففي هذا العالم هناك معسكرين متعارضين
-- كان ستالين يكره أي شكل من أشكال الفكر القومي البعيد عن نموذج «روسيا الكبرى»
-- إن هزيمة روسيا في أوكرانيا، محتملة على المدى الطويل، ستؤدي بلا شك إلى الوفاة الثانية للاتحاد السوفياتي
فلاديمير بوتين، الذي تحول إلى القومية الروسية، تنكّر منذ فترة طويلة لاتحاد سوفياتي مذنب في عينيه لأنه اعتمد، أولاً مع لينين، سياسة القوميات التي أدت إلى الوضع الحالي، استقلال أوكرانيا. ويعتقد بعض المراقبين أنه ينوي إعادة تشكيل إمبراطورية الرومانوف. وإذا كان هذا هو هدفه، فانه ينوي تحقيقه كوريث للشمولية الستالينية.
إن رؤية بوتين، الضابط السابق في الـ “كي جي بي” للعالم، بُنيت داخل العالم السوفياتي، وعاش نهاية ذاك الاتحاد بشكل سيء للغاية، وهو ما أكده عام 2005، بعد ست سنوات من وصوله إلى السلطة، أنها كانت “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”. في نفس العام، تم تأسيس حركة شبابية بوتينية في أبريل، واسمها، “ناتشي” “أهلنا”، ستحدد نغمة ما سيتبع. لأنه بعد فترة من التردد في ولايته الأولى، يبدو أن الثورة البرتقالية لعام 2004 في أوكرانيا جعلته يخشى أن تحدث ثورة أخرى تفجّر روسيا مثل الاتحاد السوفياتي بالأمس. ويبدو أنه أقنع نفسه بعد ذلك أنه، لعرقلة مثل هذا التطور، يجب أن يؤسس سلطة شخصية قوية، معتقدًا أن سقوط الاتحاد السوفياتي كان بسبب ضعف السلطة أولاً، قبل هذا السقوط وبعده.
فبالنسبة له، بعد سياسة اللامركزية التي أطلقها بوريس يلتسين، يجب إعادة مركزة السلطة وبقوة.
في تلك السنوات، ظهرت صيغ مثل “السلطة الرأسية” و”دكتاتورية القانون” و”الديمقراطية السيادية” و”الرأسمالية المدارة” في العبارات الرسمية. ثم تم تعزيز السلطة المركزية ضد الأوليغارشية وحكام المناطق واضعاف المعارضة.
وبعد التناوب الشكلي في 2008، اتسمت عودة بوتين إلى الرئاسة في 2012 بنزاعات تسببت في تحول صارم جديد... لم يتوقف عن تعزيز سلطته حتى أصبح سلطويا حقيقيًا.
إعادة كتابة التاريخ
من منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قام في وقت واحد بإعادة الاعتبار لستالين، وهو نموذج في نظره للقائد الحقيقي؛ مشروع تحريفي بشكل واضح. عام 2008، أعادت الكتب المدرسية الجديدة، التي أمرت بها الإدارة الرئاسية، الاعتبار لسيّد الكرملين السابق. وتتطرق النصوص بشكل خاص إلى مسألة التطهير، مؤكدين أن هناك العديد من الجناة من بين أولئك الذين تمت محاكمتهم، وأن ذلك التطهير مكّن من كسب الحرب من خلال التخلص من الطابور الخامس.
بلغت إعادة كتابة التاريخ أوجها عندما قام في ديسمبر 2020 بحل المنظمة غير الحكومية ميموريال، التي تأسست عام 1989 بهدف أرشفة انتهاكات الفترة الستالينية، وعلى نطاق أوســــع، انتهاكــــات حقـــوق الإنسان.
وبروح تثير بشدة محاكمات الثلاثينات، يعتقد المدعي العام الذي تعامل مع القضية، أن مجرد استحضار عمليات التطهير هو تبرير للنازية.
جرى التناوب الشكلي لعام 2008 في احترام كامل للمؤسسات ودون المساس بالدستور.
لكن في 10 مارس 2020، صوت مجلس الدوما على تعديل مسودة المراجعة الدستورية التي من شأنها أن تسمح لفلاديمير بوتين بالترشح لفترتين جديدتين متتاليتين بعد عام 2024، مما يمهد الطريق لاحتمال بقاء الرئيس الروسي في السلطة حتى عام 2036. وفي 22 ديسمبر، صدر قانون يمنح حصانة قانونية مدى الحياة للرؤساء السابقين وأقاربهم. وينص هذا النص الجديد على أن الرئيس الروسي السابق “لا يمكن مقاضاته جنائياً أو إدارياً”. علاوة على ذلك، لا يجوز للشرطة القبض عليه أو استجوابه أو تفتيشه.
مملكة الدعاية
منذئذ، بدأ بوتين، الربّان الوحيد على متن السفينة، في معاملة مساعديه كمــا كان ستالين يعامل مساعديه، باســـــتثناء اغتيالهــــم، هــذا صحيح.
وللاقتناع بذلك يكفي مراقبة رئيس المخابرات الخارجية، خلال اجتماع مجلس الأمن المنعقد في فبراير حول المسألة الأوكرانية، يرتجف ويتلعثم واقفا أمامه، وهو مطالب بإبداء رأيه بوضوح في إعلان استقلال الجمهوريتين المعلنتين في شرق البلاد.
اعتبر بعض المختصين أن ستالين منحرف نرجسي. وبوتين، ربما يعاني من جنون العظمة، معزولًا في برجه العاجي، وليس مهتمًا جدًا بآراء معاونيه ولكنه يطالبهم بالطاعة والولاء المطلقين.
ينتقل هذا إلى الفضاء العام، وكما كان الامر في عهد ستالين ومن ثم خلفاؤه، فإن روسيا بوتين هي مملكة الدعاية والتضليل الاعلامي، والتي أشار إليها أنطوان سيجيلا في عمله المنشور عام 1938، عشر سنوات في أرض الأكاذيب المربكة.
فن الكذب هذا هو طبيعة ثانية لهذه الأنظمة الشمولية حيث تعتبر السلطة أن أي شخص ينحرف عن الخطاب الرسمي هو عدو يجب قتله، وشخصية بلا قيمة يجب معاملتها بالإهانة والازدراء.
نذكّر بالزمن الذي وصف فيه ألكسندر فاديشيف، في المؤتمر العالمي للمثقفين من أجل السلام، عام 1948، جان بول سارتر، المتغيب عن الحفل، بأنه “ابن آوى بقلم” و”ضبع بآلة كاتبة».
اليوم، لا يعامل “أعداء الداخل” بشكل أفضل مما كان عليه الامر بالأمس، حتى لو لم تظهر محاكمات موسكو مرة أخرى: اغتيال الصحفيين، وتسميم المعارضين مثل أليكسي نافالني المحكوم عليه بعقوبة سجنيّة شديدة، واعتقال الآلاف من المتظاهرين ضد الحرب. ان “العملية الخاصة” في أوكرانيا مصحوبة داخليًا باستخدام إجراءات شمولية للسيطرة على السكان الروس.
وبالتالي، تلقى أولياء أمور الطلاب تحذيرات من المدارس ترشدهم إلى مراقبة استخدام أطفالهم للشبكات الاجتماعية. وفي المدارس، يحضر الطلاب جلسات خاصة مصممة لغرس الخط الرسمي فيهم. وأصبحت الرقابة على الإنترنت أكثر اكتمالا، ويتعلق الأمر بفصل الروس عن العالم الخارجي. وهكذا نشهد عودة الكابوس الستاليني إلى الظهور. لا ينبغي إطلاق كلمة الشمولية باستعجال، ولكنها ضرورية هنا لوصف تطور المجتمع الروسي.
العدو الخارجي
يجب معاملة العدو الخارجي مثل العدو الداخلي. هنا مرة أخرى المفردات تذكر بزمن ستالين. وهكذا فإن الحكومة الأوكرانية بالنسبة لبوتين هي فقط مجموعة من النازيين ومدمني المخدرات الذين يجب تصفيتهم.
وان المطلوب هو استسلام اوكرانيا غير المشروط. بالنسبة لهذين الرجلين، لا وجود لحق الشعوب في تقرير المصير، ولا قيمة للحياة البشرية.
يجب أن نعيد قراءة كتاب روبرت كونكويست، الحصاد الدموي، الذي وصف معاناة الشعب الأوكراني في حقبة سياسة التجميع القسري للأراضي من قبل ستالين خلال شتاء 1932-1933، مما أدى إلى انتشار المجاعة وخمسة ملايين قتيل.
تم تنفيذ عمليات القمع والاضطهاد والتطهير هناك على نطاق أوسع من أي مكان آخر.
وتجدر الإشارة الى إن ستالين، مثل بوتين لاحقًا، كان يكره أي شكل من أشكال الفكر القومي البعيد عن نموذج “روسيا الكبرى». إنها سياسة عنيفة متطرفة تلك التي نفذها بوتين في الشيشان، مع تدمير غروزني، ثم في سوريا، والتي يبدو أنها تسير في نفس الاتجاه اليوم في أوكرانيا.
دخول الدبابات الروسية إلى المدن الكبرى يشير إلى دخولها أمس في بودابست عام 1956، وفي براغ عام 1968: قانون القوة وسياسة الترهيب.
وعلى غــــــرار ستالين، فعدو بوتين هو الغرب، التي يجب الحماية من توســـــعه المحتمل والخطير. ومن هنا جاء اسدال “الستار الحديدي” الجديد الذي عزل سكان الإمبراطورية الروسية. الناتو هو الجناح العسكري لهذا العدو، ويعتبر المسؤول الوحيد عن الردود “الدفاعية البحتة” التي تتبناها الدولة الروسية. بعد سنوات قليلة من التردد، عاد بوتين إلى الرؤية الستالينية للحرب الباردة.
في هذا العالم هناك معسكرين متعارضين بشكل غير قابل للاختزال على هذا الكوكب. الولايات المتحدة وروسيا هما القوتان المهيمنتان.
وفي مواجهة العدو الغربي، يحاول بوتين إعادة الارتباط بـ “التعبئة الوطنية” في زمن ستالين. وبسبب الفشل في تمكين الشعب الروسي من التحديث الاقتصادي الموعود، فإن هذه التعبئة، التي أثبتت فعاليتها
بشكل خاص في زمن “الحرب الوطنية الكبرى” (التي تم تفعيلها من قبل مفوضين سياسيين)، تشهد تكييفا مع الوقت الحاضر، لأنه إذا تم اعتبار الغرب في حالة حرب ضد روسيا، فإن هذه الأخيرة في المقابل “تدافع عن نفسها” فقط، وغزوها لأوكرانيا مجرد “عملية خاصة” وليست حربًا، وهي نوع من عمليات إنفاذ القانون. ومثل ستالين، يقدم بوتين نفسه على أنه الشخص الوحيد القادر على حماية الشعب الروسي من العدوان الخارجي.
الستالينية والهتلرية
ومع ذلك، هناك عنصر حاسم يميز روسيا بوتين عن روسيا الستالينية. لقد شن ستالين، الذي كان أكثر دهاءً وحذرًا من بوتين، حربًا هجومية فقط عام 1939 ضد فنلندا الصغيرة، وهي حرب انتهت بفوزه رغم النكسات الشديدة والعديدة (خلال حرب الشتاء اخترع الفنلنديون زجاجة المولوتوف التي يستخدمها الأوكرانيون اليوم ضد الدبابات)، وضد بولندا، حرب لم يكن يخشى خسارتها لأن هتلر كان يهاجم هذا البلد من جانبه. في المقابل، كانت حربًا دفاعية ضد ألمانيا النازية التي شنها منتصرًا. ومن الواضح أن بوتين، الأقل حذرًا والأكثر ثقة في النفس، قد استخف بتوازن القوى في أوكرانيا.
في الواقع، المقارنة مع هجوم هتلر على روسيا هي الاقرب لمقارنة هجوم بوتين الخاطئ الفاشل.
يجب أن نتذكر أن آخر مرة عانت فيها كييف ومدن أوكرانية أخرى من هذه الوحشية العسكرية كانت في الساعات الأولى من يوم 22 يونيو 1941.
كان هذا عندما شن هتلر عملية بربروسا ضد الاتحاد السوفياتي.
وقبل يومين من غزو بوتين لأوكرانيا، ظهرت افتتاحية على قناة ريا نوفوستي تعلن قبل الأوان عن غزو البلاد، حيث وصف المؤلف “العملية الخاصة” بأنها “حل للمسألة الأوكرانية...».
إذا لم يخسر ستالين حربًا، فقد خسر خلفاؤه حربًا في أفغانستان. هزيمة لعبت دورًا مهمًا في انهيار الاتحاد السوفياتي.
وإن هزيمة بوتين في أوكرانيا، المحتملة على المدى الطويل، ستتسبّب بالتأكيد، ولكن بعد أي كارثة إنسانية ودمار، في نهاية بوتين وروسيا البوتينية، انه الموت الثاني للاتحاد السوفيتي نوعا ما.
*مدير البحوث المميّز في مركز الدراسات الأوروبية في ساينس بو.