يبدو أنها لن تتخلى عن روسيا:

أوكرانيا: لغة الصين المزدوجة قد تكلفها غالياً...!

أوكرانيا: لغة الصين المزدوجة قد تكلفها غالياً...!

• الالتزام رسميًا بحياد ما بين روسيا والغرب يمنح الصين ورقة جيوسياسية يمكنها استخدامها بمهارة
• التخلي عن روسيا سيعني لبكين الخضوع للأيديولوجية الغربية
• واشنطن مترددة بشأن ما يجب أن تفعله مع بكين: عقوبات مشددة سترمي بالصينيين في أحضان الروس
• ستؤدي عقوبات غربية ضد بكين إلى انخفاض الاستثمار الأجنبي بالإضافة إلى هروب رأس المال الصيني


بعد ستة أسابيع من اندلاعها، تستمر الحرب التي تشنها روسيا في أوكرانيا، وتهدد بتكلفة باهظة لبكين. لم توضح الصين قط ما إذا كانت تدعم فلاديمير بوتين أم لا. لكن يبدو الآن واضحًا أنها لن تتخلى عن روسيا لأسباب أمنية وجيواستراتيجية. بغض النظر عن الثمن الباهظ الذي يجب دفعه بسبب العقوبات المالية والتجارية التي ستضرب حتماً دولة شي جين بينغ عاجلاً أم آجلاً.

   هل انقلاب موقفها ممكن؟ وهل باستطاعة الحكومة الصينية التنصّل من البيان الصيني الروسي المشترك الصادر في 4 فبراير؟ يعلن النص بحماس، أن العلاقة بين الصين وروسيا أصبحت الآن "لا حدود لها". وإدارة الظهر لموسكو، لن يفهمه الصينيون. فاليوم، يبقى العدو الولايات المتحدة وحلفائها.
   إن التخلي عن روسيا سيعني لبكين الخضوع للأيديولوجية الغربية. وهذا أمر مستحيل تمامًا في نظر شي جين بينغ الذي سيواجه قريبًا اشكالات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في الخريف المقبل ورهاناته. وتغيير اللهجة في أقل من ستة أسابيع، سيكون بمثابة قول إن الرئيس الصيني قد أخطأ بموافقته على إعطاء الضوء الأخضر لهذا البيان الصحفي. ومن شأن ذلك أن يثير الشكوك حول حكمة الأمين العام للحزب ورئيس اللجنة العسكرية المركزية، وذكائه وسلطته.
   في الواقع، إن الالتزام رسميًا بحياد ما بين روسيا والغرب، يمنح الصين ورقة جيوسياسية يمكنها استخدامها بمهارة للحصول على ضمانات سياسية وتجارية من الدول الغربية. هذا مع الاستمرار في شراء النفط والغاز من روسيا بأسعار منخفضة للغاية. ان الصين تجعل من عدم المشاركة في الحرب الأوكرانية نقطة شرف، وعلاوة على ذلك، فإن واشنطن مترددة بشأن ما يجب أن تفعله مع بكين: العقوبات الشديدة للغاية ستؤدي إلى رمي الصينيين في أحضان الروس.

"فهم صحيح"
   في الانتظار، بينما تؤكد بكين أنها تحافظ على الحياد التام امام هذا الصراع، فإن وسائل الإعلام الرسمية، التي يسيطر عليها الحزب بالكامل، تعيد إنتاج الدعاية الروسية في الصين. "لا ينبغي نشر أي منشور غير مؤيد لروسيا أو يحتوي على محتوى مناصر للغرب"، سربت هوريزون نيوز، أحد منابر السلطة، في رسالة تم سحبها بسرعة.
   في أسبوع الرابع من أبريل، حينما شاهد العالم بذهول ورهبة تلك الصور المروعة لجثث المدنيين الذين قتلوا، وأحيانًا أيديهم مقيدة خلف ظهورهم، والمئات من الجثث التي تناثرت في شوارع مدينة بوتشا، نشرت صحيفة الشعب اليومية، مقطع فيديو من منصة ويبو، يؤكد أن روسيا تقدم للأوكرانيين في مدينة خاركيف "مساعدات إنسانية". وقد شاهد هذا الفيديو أكثر من ثلاثة ملايين صيني.

   ومنذ اليوم الأول للحرب، كانت وسائل الإعلام الصينية هي مكبر الصوت لدعاية موسكو. وهكذا نقلت تصريحات روسية بأن الرئيس الأوكراني زيلينسكي قد فر من العاصمة، وأن الجنود الأوكرانيين استسلموا.
   بالإضافة إلى ذلك، بثت قناة "فينيكس تي في"، صوراً تؤكد أن السكان المدنيين في ماريوبول، وهي مدينة مدمرة بالكامل تقريباً، قد تظاهروا للاحتفال بوصول الجنود الروس بصفتهم "محررين". في الواقع، تبذل وسائل الإعلام الصينية قصارى جهدها لتصوير روسيا على أنها ضحية وليست معتدية. وأقامت الجامعات الصينية، بناءً على طلب من الحزب، دورات تهدف إلى إعطاء الطلاب "فهمًا صحيحًا" لهذا الصراع، وتسليط الضوء على "أخطاء" الولايات المتحدة والغرب بشكل عام.

   ينظم الحزب في جميع أنحاء البلاد جلسات لكوادر النظام المدعوين لمشاهدة فيلم وثائقي بعنوان وثائقي للتاريخ. هذا الفيديو، الذي يستمر 101 دقيقة، وتم الانتهاء منه العام الماضي، لا يذكر أوكرانيا، لكنه يدعم الأطروحة القائلة بأن روسيا محقة في القلق بشأن جيرانها الذين غادروا الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت.
   ويصور هذا الفيلم الوثائقي، فلاديمير بوتين كقائد حكيم يعمل على "تطهير" روسيا من الآفات السياسية التي أدت في ذلك الوقت إلى سقوط الاتحاد السوفياتي. "أقوى سلاح يمتلكه الغرب، باستثناء الأسلحة النووية، هي الأساليب التي يستخدمها في الصراع الأيديولوجي"، يشرح هذا الفيلم الوثائقي، الذي اطلعت عليه صحيفة نيويورك تايمز. ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي، يتابع المعلق في هذا الفيديو، "تبنت دول معينة في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى وكذلك في القوقاز، مواقف الغرب بهدف احتواء وتقسيم روسيا.

   للتذكير رفضت بكين باستمرار إدانة "غزو" أوكرانيا، وهو مصطلح لم تستخدمه أبدًا، مدعية أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي كانا مسؤولين عن هذه الحرب. وذهب شي جين بينغ إلى حد إعلام نظيره الأمريكي جو بايدن، أن واشنطن والتحالف الأطلسي هما "قلب" المشكلة.
   اليوم، من الواضح أن هذا الصراع قد أحدث موجة تضامن مع أوكرانيا لم يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، والحلف الأطلسي، الذي اعتبره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الماضي "ميتا سريريا"، هو أكثر حيوية من أي وقت مضى، في حين أظهر الاتحاد الأوروبي في غضون أسابيع قليلة وحدة في مواجهة هذه الأزمة كان قد فشل في إظهارها لأكثر من عشر سنوات.

فرصة لروسيا مرتهنة لبكين
   في الواقع، يبدو أن الصين، حتى الآن على الأقل، حريصة على عدم مساعدة روسيا. وفي الوقت الحالي، تكتفي القيادة الصينية بمشاهدة مجريات الصراع، والتعلم من الأخطاء التي ارتكبها فلاديمير بوتين، واستخلاص الدروس حول مسار عملها في المستقبل.
   وتمثل أوكرانيا أول اختبار رئيسي لمستقبل العلاقات بين الصين وروسيا، كما هو الحال بالنسبة للعلاقات بين الصين والولايات المتحدة. لقد حان الوقت الآن لبكين لتقييم قيمتها الحقيقية اقتصاديًا وتجاريًا وسياسيًا.

   يمكن أن تكون روسيا التي أضعفتها الحرب والعقوبات، ولكنها لم تغرق في الفوضى وعدم الاستقرار، أهون الشرور لمصالح الصين على المدى الطويل. لأن روسيا ستصبح بعد ذلك أكثر ارتهانا اليها من أي وقت مضى. ومع ذلك، فإن روسيا، التي لا تزال غنية بالموارد الطبيعية، وأصبحت معتمدة على الصين، ستوفر لهذه الأخيرة فرصة للتفوق على الولايات المتحدة في العالم.

   لكن في غضون ذلك، تسجل الصين بصبر دروس الحرب في أوكرانيا، لا سيما الدروس المستفادة منها بالنسبة لتايوان، وهي مقاطعة في نظر بكين، يجب "إعادة توحيدها" مع البر الرئيسي، بالقوة إذا لزم الأمر. إعادة توحيد -يدرك شي جين بينغ جيدًا – انها ليست بالتأكيد ممكنة على الفور، أو حتى على المدى المتوسط. لأن غزو الجزيرة، إذا حدث، سيكون مكلفًا للغاية بالنسبة لجيش التحرير الشعبي لأن تايوان ليست أوكرانيا. علاوة على ذلك، من المرجح أن تؤدي محاولة غزو تايوان إلى تدخل الولايات المتحدة، وكذلك تدخل اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية ودول أخرى في المنطقة.

تهديدات امريكية
   إن التهديدات الأمريكية للصين في صورة تجاوزت الخط الأحمر ودعمت روسيا علنًا كانت عديدة، رغم أن بكين لم تأخذها على محمل الجد دائمًا. لكن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين لم يلطف كلماته: "للعمل الأسبقية على الكلمات"، كرر عدة مرات، وهو تهديد واضح للغاية موجه إلى بكين.
   في الوقت الراهن، لا يوجد دليل على أن الصين تقدم مساعدات عسكرية لروسيا. لكن تظل الحقيقة أن مثل هذه المساعدات ستواجه مخاطر تغيير الوضع الجيوستراتيجي، كما ستؤدي إلى الإسهام في إطالة أمد القتال وبضحاياه ومعاناته بين السكان المدنيين الأوكرانيين وكذلك في صفوف الجيش الروسي.
    يوم الأربعاء، 13 أبريل، حذرت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين الصين أيضًا. وقالت في كلمة ألقتها أمام المجلس الأطلسي، وهو مركز أبحاث أمريكي، أن "موقف العالم تجاه الصين، واستعدادها لتبني تكامل اقتصادي أعمق، قد يتأثر برد فعل الصين على دعوتنا لاتخاذ إجراءات حازمة ضد روسيا".

    ويوم الجمعة 15 أبريل، قال السناتور الأمريكي ليندسي جراهام، إن على الصين أن تدفع ثمنًا أكبر لدعمها روسيا في خضم الحرب مع أوكرانيا، خلال زيارة لبرلمانيين لتايوان. وأكد ليندسي جراهام، خلال اجتماع مع الرئيسة تساي إنغ ون، أن الولايات المتحدة تقف "إلى جانب تايوان". وأضاف ان "التخلي عن تايوان يعني التخلي عن الديمقراطية والحرية"..." وهذا سيكون بمثابة مكافأة لأسوأ ما في الإنسانية"، محذرا من أن الولايات المتحدة "ستبدأ في جعل الصين تدفع ثمناً أكبر لما تفعله في العالم. ان دعم "الرئيس الروسي فلاديمير" بوتين يجب أن يكون له ثمن ".

   وفي بكين، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية تشاو ليجيان، إن التدريبات العسكرية الصينية الجارية بالقرب من الجزيرة كانت "إجراءً مضادًا" ردًا على زيارة أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي. وقال المتحدث باسم القيادة الشرقية للجيش الصيني، شي يي، إن "العمليات نُظمت ردًا على الإشارات السيئة المتكررة التي أرسلتها الولايات المتحدة مؤخرًا بشأن مسألة تايوان. إن تصرفات أمريكا السيئة وحيلها الخادعة عقيمة تمامًا وخطيرة للغاية، وان الذين يلعبون بالنار سيحترقون".

هروب رأس المال الأجنبي
   آثار الأزمة في أوكرانيا باتت محسوسة في الصين. تشير نيكي آسيا في مقال نشر في 10 أبريل، إلى أن رأس المال الأجنبي يغادر الأراضي الصينية بسرعة عالية. ووفق بيانات السوق المالية، باع مستثمرون أجانب ما قيمته 38.4 مليار يوان (6.04 مليار دولار) من الأوراق المالية والسندات الصينية من يناير إلى مارس، وهو انخفاض ربع سنوي قياسي.
   ووفقًا لتقرير صادر عن معهد التمويل الدولي نُشر في نهاية شهر مارس، فإن "التدفقات المالية التي تغادر الصين غير مسبوقة. ومن المرجح أن يضع الغزو الروسي لأوكرانيا الأسواق الصينية في نهار جديد. ويضيف التقرير، أن هروب رأس المال هذا "غير عادي للغاية". تراجعت السندات الصينية التي يحتفظ بها المستثمرون الأجانب بمقدار 80.3 مليار يوان في فبراير وحده، وهو أكبر انخفاض منذ يناير 2015، عندما بدأ تجميع هذه الإحصاءات.

   من جهة اخرى، من المرجح أن تؤدي العقوبات الأمريكية ضد الصين إلى هروب أصول الصين من العملات الأجنبية إلى الخارج. في الأسابيع الأخيرة، مستشار البنك المركزي الصيني السابق يو يونغدينغ، والذي كان أيضًا نائب رئيس بنك الصين، قد وضع النقاط على الحروف بشكل واضح. عقوبات غربية ضد بلاده ستؤدي إلى انخفاض الاستثمار الأجنبي بالإضافة إلى هروب رأس المال الصيني: "إذا خضعت الصين أيضًا الى عقوبات كما هو الحال مع روسيا، فإن أصولها في الخارج ستواجه خطر الاختفاء تمامًا"، حذر في مدونته، التي نقلتها صحيفة ساوث تشاينا مورنينغ بوست يوم الأربعاء.

   ونتيجة للعقوبات الغربية، تم تجميد احتياطيات العملات الأجنبية للبنك المركزي الروسي، مما أدى على الفور إلى انخفاض قيمة الروبل بأكثر من 20 بالمائة. ثم انتعشت العملة الروسية بعض الشيء عندما فرضت موسكو ضوابط صارمة على تدفقات رأس المال إلى الخارج. اما بالنسبة للصين، قد تكون العواقب وخيمة لأن هذا البلد يجب أن يستثمر في سوق رؤوس الاموال الأجنبية لتغذية آلته الاقتصادية والخيار محدود: سندات الخزانة الأمريكية، يوضح مايكل بيتيس، أستاذ الاقتصاد بجامعة بكين. "من خلال فرض هذه العقوبات، أثبتت واشنطن أن السيطرة على المعاملات التجارية تمنحها قوة كبيرة، ويؤكد هذا المراقب المتمرس، الذي نقلت عنه صحيفة هونغ كونغ اليومية باللغة الإنجليزية، تتأثر دول مثل الصين وإيران وروسيا وفنزويلا بشكل أساسي بهذه القوة، وبالتالي تعمل على الاحتفاظ بعملات أخرى غير الدولار. لكن في الواقع، ما هي العملة الأخرى التي يمكنهم استخدامها؟ لا شيء".

   بعد أن أصبحت مصنع العالم، تراكمت لدى الصين جبال من احتياطيات النقد الأجنبي منذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001. وحقق فائضها التجاري رقما هائلا بلغ 676.43 مليار دولار عام 2021، بزيادة قدرها 29 بالمائة مقارنة بعام 2020 وأعلى مبلغ منذ عام 1950. وحسب إحصاءات وزارة الخزانة الأمريكية، تمثل سندات الخزانة الأمريكية ما يعادل ثلث احتياطيات الصين من العملات الأجنبية التي بلغت قيمتها 3.2 تريليون دولار في يناير، وفقًا لهيئة تنظيم صرف العملات في إدارة الصرف الوطنية الأمريكية. لذلك لا يزال هناك بعض الفسحة للصين، غير ان الخطر قائم: خطر التآكل السريع إلى حد ما لاحتياطياتها من العملات الأجنبية، الأمر الذي من شأنه أن يلقي بثقله على ثقة المستثمرين الأجانب في هذا البلد.
   ان هذه التهديدات الاقتصادية والمالية خطيرة لأنها تعكس تنامي عدم ثقة المستثمرين الأجانب تجاه الصين. عدم الثقة الذي من المرجح أن يزداد أكثر في ضوء الأحداث في أوكرانيا، ولكن أيضًا في ضوء جائحة كوفيد-19 التي تضرب الصين بشدة وتلقي أيضًا بظلالها على آفاق النمو الاقتصادي للبلاد. هذه كلها عوامل ستثقل كاهل الدوائر الحاكمة الصينية حول كيفية التعامل مع روسيا في الأسابيع المقبلة.

مؤلف حوالي خمسة عشر كتابًا مخصصة للصين واليابان والتبت والهند والتحديات الآسيوية الرئيسية. من مؤلفاته كتاب "الزعامة العالمية محوره، الصدام بين الصين والولايات المتحدة" عن منشورات لوب.