رئيس الدولة يؤكد إخلاص أبناء الوطن وتفانيهم جيلاً بعد جيل في خدمته
الأشهر القليلة المقبلة حاسمة في بنائه:
أي «مجموعة سياسية أوروبية» للمستقبل...؟
-- تفرض الحرب الأوكرانية حقائق جيوسياسية جديدة على القارة وترجّ يقين الأوروبيين وقناعاتهم
-- التركيز على أوروبا السوق وأوروبا التقنيين، قد أهمل لفترة طويلة الدعوة السياسية للبناء الأوروبي
تفرض الحرب التي تشهدها أوكرانيا حقائق جيوسياسية جديدة على القارة وترجّ يقين الأوروبيين وقناعاتهم. إنها تؤثر على علاقتهم بالأمن وبجيرانهم وتضع الاتحاد الأوروبي أمام تحدي إعادة تعريف مؤيدي البناء الأوروبي.
المسألة الأوكرانية -التي كانت حكرا على الدول الأعضاء الحدودية ومعرّضة الآن لتدفق هائل من اللاجئين -، أصبحت بالمعنى الدقيق للكلمة، قضية سياسية للقارة بأكملها. ما وراء المساعدات الإنسانية والمالية والعسكرية التي يجب تقديمها إلى كييف لسنوات عديدة، بات على الأوروبيين، قبل كل شيء، ومن خلال مبادرة سياسية، إعادة الانخراط في تاريخهم وجغرافيتهم، وبالتالي، الاستجابة لتحديات المرحلة، سواء في شرق الاتحاد أو في غرب البلقان.
و”المجموعة السياسية الأوروبية”، التي اقترحها إيمانويل ماكرون في 9 مايو في ستراسبورغ، تهدف إلى مواجهة هذا التحدي. كان فرانسوا ميتران يحب أن يقول إن الجغرافيا السياسية لأوروبا بحاجة إلى نظرية المجموعات. فهل يمكن لهذه المجموعة السياسية الأوروبية أن تعرف مصيرًا مختلفًا عما تخيلته الكونفدرالية الأوروبية ودعم الرئيس الفرنسي بين عامي 1989 و1991؟ بلا شك، شرط تجاوز المشروع الأصلي، وتكييفه مع الحقائق الجديدة لعقد العشرينات، وجعله رأس جسر سياسي للمشروع الأوروبي، بحيث ينمو جيل جديد من المواطنين يتقاسمون ثقافة ديمقراطية واحدة.
في الأسابيع المقبلة، سيكون الرهان باختصار هو رسم الخطوط العريضة لكونفدرالية المواطنين الأوروبيين التي تساهم في تعميق البناء الأوروبي وتوسيعه، وفي تكوين نظام سياسي أوروبي جديد يتوافق مع إنجازات الاتحاد الأوروبي.
من الكونفدرالية إلى
المجموعة السياسية الأوروبية
إن فترات التغييرات العميقة في النظام الأوروبي مواتية لظهور أفكار جديدة. وُلد الاتحاد الأوروبي عام 1989 في سياق أوروبا التي ما زالت منقسمة، من تعميق قوي للبناء الأوروبي ومخاوف جدية في الشرق.
وعلى الرغم من أنه كان واعدًا، فقد واجه المشروع سريعًا العديد من المخاوف، لا سيما تلك المتعلقة بتقديم الى دول أوروبا الشرقية إمكانية أوروبا ذات سرعتين فقط، أو بديل بالتقسيط للانضمام إلى المجموعة الأوروبية.
وفي الواقع، ألم يكن الاتحاد الأوروبي مع أوروبا غربية، ولا سيما فرنسا “حارسة المعبد”، وسيلة لإبعاد أوروبا الوسطى والشرقية بشكل دائم خارج أوروبا المنشغلة بدعم بنائها؟ ومن هذا المنظور، الا يفضي مقترح إيمانويل ماكرون واقعيا الى استبعاد انضمام أوكرانيا السريع إلى الاتحاد الأوروبي، وبذلك، الا يُنشئ غرفة انتظار جديدة تكون فيها الدول الشرقية (أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا) ودول غرب البلقان (من ألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود وصربيا) وسيُطلب منها الانتظار لسنوات عديدة أخرى؟
توسيع الاتحاد الأوروبي
بالنسبة لجميع هذه الدول، تظل العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي هدفًا مهمًا، ولكن ما لم تتم مراجعة معايير كوبنهاغن، يمكن أن يكون هدفًا طويل الامد، وغير مؤكد، لا تتردد الدول الأعضاء نفسها في جعل الوصول إليه أكثر صعوبة. تدفع دول غرب البلقان الثمن طوال عقدين، دون أن تتضح آفاقها لعضوية الاتحاد الأوروبي.
بل إن إحداها، مقدونيا الشمالية، وافقت على تغيير اسمها من أجل رفع حق النقض الذي تمارسه اليونان داخل المجلس، قبل أن يحظر دخولها بشكل غير عادل من قبل بلغاريا.
إن عقيدة كوبنهاغن، ومنطق ترابط الحكومات الذي يسود منذ معاهدة لشبونة، يجعلان أي طريق مختصر للانضمام وهميًا تمامًا. قائمة من حيث المبدأ على أساس الجدارة، فإن سياسة التوسيع اليوم تغذي قبل كل شيء إحباطات هائلة في غرب البلقان. ولن يؤدي توسعها بنفس الشروط إلى دول أوروبا الشرقية، إلى تعويض افتقار الاتحاد الأوروبي الى المصداقية، الأمر الذي يصب في مصلحة القوى المنافسة (روسيا والصين وتركيا) ، بل على العكس من ذلك، فإنها تخاطر بتعميق الهشاشة المشتركة.
الرهان على التعمق المتمايز
غير ان الحلول موجودة، لأن أوروبا تُبنى أكثر فأكثر من خلال اندماج متمايز. ومن الواضح أن بعض الدول قد اختارت اليوم وضعا أقل اندماجًا -من خلال عدم الانتماء إلى منطقة اليورو أو شنغن أو الدفاع الأوروبي. في حين يشارك آخرون في هذه السياسات دون الاستفادة من وضع الدولة العضو. ولئن يثير التكامل المتمايز أسئلة مشروعة تمامًا من حيث التجانس، فإنه يوفر هامشا للمناورة يسمح بتوسيع البناء الأوروبي مع المساهمة في تعميقه. ان أوروبا عام 2022، يجب التفكير فيها في ضوء منطق التعمق المتمايز هذا.
هنا، تأخذ تأملات إنريكو ليتا، الذي يتبنّى مفهوم فرنسوا ميتران للاتحاد الأوروبي، معناها الكامل. بالنسبة له، كما هو الحال بالنسبة لإيمانويل ماكرون، يتعلق الأمر بالتفكير في مستقبل أوروبا من خلال نظرية المجموعات والمشاريع الملموسة، التي لا تحل محل العملية الرسمية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولكنها تكملها، وتعززها. يمكن أن ننتقد الأساليب، لكن ما يميز المشاريع الجيدة هو الإجابة على سؤال كبير، وفي هذه الحالة، كما يذكرنا الرئيس الفرنسي: “كيف تنظم أوروبا من وجهة نظر سياسية وأوسع من الاتحاد الأوروبي؟».
وبما أن العضوية الفورية خادعة، كيف يمكن اليوم إدراك أن مواطني أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية ودول البلقان الأخرى، ينتمون إلى عائلة أوروبية تشترك في نفس المشروع السياسي؟ وكيف الاستجابة الى تطلعاتهم في المواطنة والديمقراطية الأوروبية؟ وكيف نفعل ذلك مع الحفاظ على وحدة القارة وصلابة الاتحاد؟
على أوروبا مواجهة معضلاتها
على مدى السنوات العشرين الماضية، تعمّق الاتحاد إلى حد كبير، وعلى الرغم من الأزمات، فقد توسّع تباعا عام 2004، ثم 2007، وأخيرا 2013. لكن هذا التّعميق لم يكن موحدا. لقد ساهم بلا شك في توطيد أوروبا الأسواق، مع تدابير التكامل المتقدمة بشكل متزايد، وتلك الخاصة بأوروبا التقنيين، مما أدى دائمًا إلى توسيع نطاق مكسب المجموعة.
هذا التركيز على تعميق أوروبا الأسواق وأوروبا التقنيين، والثقة الموضوعة في المنطق الوظيفي، قد أهملا لفترة طويلة الدعوة السياسية للبناء الأوروبي. واتجه رد فعل جزء من الشعوب الأوروبية، الذي كان متوقعًا تمامًا عند قراءة جون ديوي أو يورغن هابرماس، حينها إلى استياء متزايد ضد مشروع البناء الأوروبي.
كما تُرجم ذلك أيضًا بصعود الشعبوية، ورفض دور الخبراء، وانبعاث القوميات، وأزمة بشكل عام في الديمقراطيات. لقد جلب هذا الجهد للتكامل في مجالات الأسواق والقانون الكثير إلى أوروبا، لكن التعميق الحقيقي، اليوم أكثر مما كان عليه عام 1989، يكمن في منطق التكامل هذا الذي يهدف إلى تزويد أوروبا بروح سياسية، والأوروبيين بوعي نشط بمواطنيتهم الأوروبية.
قدرة أوروبا على إعادة
اختراع نفسها في اختبار
المعضلة الأولى التي تواجه أوروبا، هي إعادة التوازن لتعمّقها، بحيث يظهر على المدى الطويل، نظام سياسي أوروبي مناسب، مدفوعًا بمفهوم فوق وطني للديمقراطية الأوروبية، ويسكنه مواطنون أوروبيون يعتبرون أنفسهم أوروبيون تمامًا.
هذا النظام السياسي الجديد لأوروبا المواطنة ينتظر البناء. لكنه يتجاوز المعضلة التي تشير إلى أن توسيع الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يعرّض تعميقه للخطر. على مدى العقدين الماضيين، ضاعف الاتحاد الأوروبي عدد دوله تقريبًا -وخسر واحدة، مع البريكسيت عام 2020. وعلى الرغم من الهشاشة، يواجه الاتحاد الأوروبي اليوم أزمات تاريخية.
لم تتحول التوسعات السابقة بأي حال من الأحوال إلى نقاط ضعف، بل على العكس تمامًا. ومع ذلك، لا تزال هذه المعضلة تشكل عائقاً قوياً أمام التوسع، حيث أن انضمام دول جديدة يثير تساؤلات حول تأسيس أوروبا سياسية. ولكن كيف يمكن لهذه أن ترى النور، إذا ظل ما يحظى بالأولوية من حيث التكامل الأوروبي بين الدول الأعضاء ومع دول أوروبا الشرقية والبلقان، هو منطق الاندماج عبر السوق والقانون؟ مع المجموعة السياسية الأوروبية، يتمثل الرهان في إخراج الاتحاد الأوروبي وجيرانه من المأزق الذي يجدون أنفسهم فيه.
وتعتبر الحرب في أوكرانيا لحظة محورية تضع الاتحاد الأوروبي امام تحدي قدرته على إعادة اكتشاف نفسه، ولم يعد الأمر يتعلق بالمرونة والصمود فقط. ولئن قد يميل الاتحاد الأوروبي إلى تفضيل المدى الطويل، إلا أنه مطالب أيضًا بتوفير قوة دفع استراتيجية على المدى القصير. ان معضلة التوقيت هذه حرجة، بالنظر إلى التآكل الدراماتيكي لمصداقية الاتحاد الأوروبي في سياسة التوسيع في غرب البلقان.
كونفدرالية الأوروبيين، رأس الحربة لأوروبا السياسية
من خلال وضع هذه المعضلات في الاعتبار، يمكن أن تكون فكرة ميتران عن كونفدرالية أوروبية بمثابة مصدر إلهام اليوم: ما هو الشكل الذي يمكن أن تتخذه هذه الكونفدرالية الجديدة -المنفتحة على الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي -لمواجهة التحديات التاريخية التي تواجه أوروبا؟
قبل كل شيء، من المهم تصور هذه الكونفدرالية كمساهمة في تعميق البناء الأوروبي في مجال أساسي يجد الاتحاد الأوروبي صعوبة للعمل من أجله: خلق عرض أوروبي. يجب أن تعمل الكونفدرالية الأوروبية بطريقة ما كمهد لجيل جديد من المواطنين الأوروبيين، الذين يجب تنشئتهم، من خلال مشاريع ملموسة. وفي مدارس الدول الأعضاء في الاتحاد، يجب أن يكون تدريس المواطنة الديمقراطية والتاريخ والثقافة والأخلاق واللغات الأوروبية جزءً لا يتجزأ من البرنامج التعليمي الوطني. وتتمثل مهمة الاتحاد في إيقاظ الوعي السياسي للشباب الأوروبي، وتعزيز ظهور ثقافة ديمقراطية أوروبية. سيمس ذلك الامتيازات والصلاحيات التي تحتفظ بها الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ولكن يمكن الاعتماد لهذا الغرض على الأسس التي وضعها مجلس أوروبا.
ولبناء هذا الجيل الجديد من الأوروبيين، ستكون الكونفدرالية قادرة على تأسيس برنامجها السياسي على التنقل، خاصة في سنّ تشكّل هويات المواطنين الشباب (من سن 12). يمكن أن تسمح برامج التبادل الكونفدرالية للمراهقين بتجربة التنقل الأوروبي، وتكوين صداقات في بلدان أخرى، وتطوير مشاركتهم المدنية على نطاق قاري. وتوجد هذه البرامج اليوم في أشكال تطوعية أو ثنائية (مكتب الشباب الفرنسي الألماني على سبيل المثال)، في حين يجب أن تكون بمثابة رافعة أرخميدس لظهور جيل أوروبي من المواطنين.
ويوجد في غرب البلقان نموذج في هذا المجال، المكتب الإقليمي للتعاون الشبابي، والذي يمكن أن توسعه الكونفدرالية ليشمل جميع أعضائها. ان تنقل أطفال المدارس في أوروبا يجب أن يكون هو القاعدة وليس الاستثناء. وبالمثل، فإن إنشاء خدمة مدنية أو عسكرية أوروبية سيجعل من الممكن زيادة تقوية تنقل الشباب وإثارة شعور الولاء الضروري في وقت المناقشات حول الاستقلال الاستراتيجي.
إن تكوين مثل هذه الكونفدرالية، التي تضع المواطنة الأوروبية في قلب المشروع، لا يمكن أن تدعمه النخب وحدها. على العكس من ذلك، من المهم النظر إليها على أنها تمرين في الديمقراطية التشاركية، وإعداد الأجيال القادمة من الأوروبيين لدورهم كمواطنين. وفي غضون ذلك، يمكن دعوة شعوب أوروبا بانتظام للتصويت بشأن بقاء بلدهم في الكونفدرالية أم لا، في نفس الوقت الذي تُجرى فيه الانتخابات العامة في بلادهم. وهكذا لن تتمكن الأحزاب السياسية في الدول الأوروبية من التغاضي عن هذه القضايا الأساسية المتعلقة بالشباب والمواطنة والديمقراطية والفيدرالية الأوروبية.
يجب دعوة جميع الدول الأوروبية للانضمام إلى هذه الكونفدرالية -دول أوروبا الشرقية أو دول البلقان بنفس عنوان الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي – بمجرد ضمان التعددية الحزبية والانتخابات الحرة والنظام التمثيلي وحرية الاعلام.
من المحتمل ألا يختار الجميع القيام بذلك، لأنه ما وراء مسألة المعايير السياسية التي تحدد هذه العضوية، فإن تقاسم الرؤية الفيدرالية الأوروبية هي التي ستكون لها الأسبقية في قرار الانضمام. ومن ثم فإن الكونفدرالية يجب ان تتجه نحو الدول التي يكون تقدمها نحو الديمقراطية واضحًا أيضًا. اما الاتحاد الأوروبي فسيواصل عمله للتكامل والاندماج من خلال السوق ومن خلال القانون.
وبتوسعه إلى دول أوروبا الشرقية ودول البلقان التي ترغب في ذلك، فإن البناء الأوروبي، من خلال هذه الكونفدرالية، سيعطي مكانة لهذه البلدان المستبعدة حاليًا من الاتحاد الأوروبي، وخاصة إطارًا مشتركًا لبناء أوروبا وديمقراطية الغد معًا. ستكون الكونفدرالية مصدر فخر والتزام جيلي وليس سياسة قطاعية جديدة للاتحاد الأوروبي.
ان الأشهر القليلة المقبلة ستكون حاسمة بالنسبة للبناء الأوروبي، وسيكون من الضروري مواصلة الإصلاحات التي بدأها الاتحاد الأوروبي والتي تتعلق بوظائفه وسياسة عضويته. لكن هذه العمليات ستستغرق وقتًا، مع ان العالم يتغيّر بسرعة جنونية. وسيسمح تكوين كونفدرالية الأوروبيين حينها بتربيع الدائرة التاريخية. تعميق المشروع الأوروبي من خلال إضفاء روح سياسية حقيقية عليه، مع توسيعه ليشمل الشعوب التي تشاركه مثله؛ والعمل اليوم من خلال تنفيذ مشاريع ملموسة وجريئة، مع تشكيل القوى الديمقراطية التي ستقود غدًا أوروبا الكبرى إلى تحقّقها؛ وأخيراً، بث حياة جديدة في أوروبا مع الحفاظ على الاتحاد الأوروبي ومنطقه في التكامل والاندماج.
*الأمين العام لـ مركز البحوث في معهد العلوم السياسية، واستاذ محاضر في معهد العلوم السياسية بباريس، باحث مشارك في المركز الجيو-سياسي للمدرسة العليا للتجارة.
** نائب الأمين العام للمركز الفرنسي النمساوي للتقارب الأوروبي، مدير مرصد البلقان في مؤسسة جان جوريس، باحث في المركز الدولي للتدريب الأوروبي.
-- التركيز على أوروبا السوق وأوروبا التقنيين، قد أهمل لفترة طويلة الدعوة السياسية للبناء الأوروبي
تفرض الحرب التي تشهدها أوكرانيا حقائق جيوسياسية جديدة على القارة وترجّ يقين الأوروبيين وقناعاتهم. إنها تؤثر على علاقتهم بالأمن وبجيرانهم وتضع الاتحاد الأوروبي أمام تحدي إعادة تعريف مؤيدي البناء الأوروبي.
المسألة الأوكرانية -التي كانت حكرا على الدول الأعضاء الحدودية ومعرّضة الآن لتدفق هائل من اللاجئين -، أصبحت بالمعنى الدقيق للكلمة، قضية سياسية للقارة بأكملها. ما وراء المساعدات الإنسانية والمالية والعسكرية التي يجب تقديمها إلى كييف لسنوات عديدة، بات على الأوروبيين، قبل كل شيء، ومن خلال مبادرة سياسية، إعادة الانخراط في تاريخهم وجغرافيتهم، وبالتالي، الاستجابة لتحديات المرحلة، سواء في شرق الاتحاد أو في غرب البلقان.
و”المجموعة السياسية الأوروبية”، التي اقترحها إيمانويل ماكرون في 9 مايو في ستراسبورغ، تهدف إلى مواجهة هذا التحدي. كان فرانسوا ميتران يحب أن يقول إن الجغرافيا السياسية لأوروبا بحاجة إلى نظرية المجموعات. فهل يمكن لهذه المجموعة السياسية الأوروبية أن تعرف مصيرًا مختلفًا عما تخيلته الكونفدرالية الأوروبية ودعم الرئيس الفرنسي بين عامي 1989 و1991؟ بلا شك، شرط تجاوز المشروع الأصلي، وتكييفه مع الحقائق الجديدة لعقد العشرينات، وجعله رأس جسر سياسي للمشروع الأوروبي، بحيث ينمو جيل جديد من المواطنين يتقاسمون ثقافة ديمقراطية واحدة.
في الأسابيع المقبلة، سيكون الرهان باختصار هو رسم الخطوط العريضة لكونفدرالية المواطنين الأوروبيين التي تساهم في تعميق البناء الأوروبي وتوسيعه، وفي تكوين نظام سياسي أوروبي جديد يتوافق مع إنجازات الاتحاد الأوروبي.
من الكونفدرالية إلى
المجموعة السياسية الأوروبية
إن فترات التغييرات العميقة في النظام الأوروبي مواتية لظهور أفكار جديدة. وُلد الاتحاد الأوروبي عام 1989 في سياق أوروبا التي ما زالت منقسمة، من تعميق قوي للبناء الأوروبي ومخاوف جدية في الشرق.
وعلى الرغم من أنه كان واعدًا، فقد واجه المشروع سريعًا العديد من المخاوف، لا سيما تلك المتعلقة بتقديم الى دول أوروبا الشرقية إمكانية أوروبا ذات سرعتين فقط، أو بديل بالتقسيط للانضمام إلى المجموعة الأوروبية.
وفي الواقع، ألم يكن الاتحاد الأوروبي مع أوروبا غربية، ولا سيما فرنسا “حارسة المعبد”، وسيلة لإبعاد أوروبا الوسطى والشرقية بشكل دائم خارج أوروبا المنشغلة بدعم بنائها؟ ومن هذا المنظور، الا يفضي مقترح إيمانويل ماكرون واقعيا الى استبعاد انضمام أوكرانيا السريع إلى الاتحاد الأوروبي، وبذلك، الا يُنشئ غرفة انتظار جديدة تكون فيها الدول الشرقية (أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا) ودول غرب البلقان (من ألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود وصربيا) وسيُطلب منها الانتظار لسنوات عديدة أخرى؟
توسيع الاتحاد الأوروبي
بالنسبة لجميع هذه الدول، تظل العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي هدفًا مهمًا، ولكن ما لم تتم مراجعة معايير كوبنهاغن، يمكن أن يكون هدفًا طويل الامد، وغير مؤكد، لا تتردد الدول الأعضاء نفسها في جعل الوصول إليه أكثر صعوبة. تدفع دول غرب البلقان الثمن طوال عقدين، دون أن تتضح آفاقها لعضوية الاتحاد الأوروبي.
بل إن إحداها، مقدونيا الشمالية، وافقت على تغيير اسمها من أجل رفع حق النقض الذي تمارسه اليونان داخل المجلس، قبل أن يحظر دخولها بشكل غير عادل من قبل بلغاريا.
إن عقيدة كوبنهاغن، ومنطق ترابط الحكومات الذي يسود منذ معاهدة لشبونة، يجعلان أي طريق مختصر للانضمام وهميًا تمامًا. قائمة من حيث المبدأ على أساس الجدارة، فإن سياسة التوسيع اليوم تغذي قبل كل شيء إحباطات هائلة في غرب البلقان. ولن يؤدي توسعها بنفس الشروط إلى دول أوروبا الشرقية، إلى تعويض افتقار الاتحاد الأوروبي الى المصداقية، الأمر الذي يصب في مصلحة القوى المنافسة (روسيا والصين وتركيا) ، بل على العكس من ذلك، فإنها تخاطر بتعميق الهشاشة المشتركة.
الرهان على التعمق المتمايز
غير ان الحلول موجودة، لأن أوروبا تُبنى أكثر فأكثر من خلال اندماج متمايز. ومن الواضح أن بعض الدول قد اختارت اليوم وضعا أقل اندماجًا -من خلال عدم الانتماء إلى منطقة اليورو أو شنغن أو الدفاع الأوروبي. في حين يشارك آخرون في هذه السياسات دون الاستفادة من وضع الدولة العضو. ولئن يثير التكامل المتمايز أسئلة مشروعة تمامًا من حيث التجانس، فإنه يوفر هامشا للمناورة يسمح بتوسيع البناء الأوروبي مع المساهمة في تعميقه. ان أوروبا عام 2022، يجب التفكير فيها في ضوء منطق التعمق المتمايز هذا.
هنا، تأخذ تأملات إنريكو ليتا، الذي يتبنّى مفهوم فرنسوا ميتران للاتحاد الأوروبي، معناها الكامل. بالنسبة له، كما هو الحال بالنسبة لإيمانويل ماكرون، يتعلق الأمر بالتفكير في مستقبل أوروبا من خلال نظرية المجموعات والمشاريع الملموسة، التي لا تحل محل العملية الرسمية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولكنها تكملها، وتعززها. يمكن أن ننتقد الأساليب، لكن ما يميز المشاريع الجيدة هو الإجابة على سؤال كبير، وفي هذه الحالة، كما يذكرنا الرئيس الفرنسي: “كيف تنظم أوروبا من وجهة نظر سياسية وأوسع من الاتحاد الأوروبي؟».
وبما أن العضوية الفورية خادعة، كيف يمكن اليوم إدراك أن مواطني أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية ودول البلقان الأخرى، ينتمون إلى عائلة أوروبية تشترك في نفس المشروع السياسي؟ وكيف الاستجابة الى تطلعاتهم في المواطنة والديمقراطية الأوروبية؟ وكيف نفعل ذلك مع الحفاظ على وحدة القارة وصلابة الاتحاد؟
على أوروبا مواجهة معضلاتها
على مدى السنوات العشرين الماضية، تعمّق الاتحاد إلى حد كبير، وعلى الرغم من الأزمات، فقد توسّع تباعا عام 2004، ثم 2007، وأخيرا 2013. لكن هذا التّعميق لم يكن موحدا. لقد ساهم بلا شك في توطيد أوروبا الأسواق، مع تدابير التكامل المتقدمة بشكل متزايد، وتلك الخاصة بأوروبا التقنيين، مما أدى دائمًا إلى توسيع نطاق مكسب المجموعة.
هذا التركيز على تعميق أوروبا الأسواق وأوروبا التقنيين، والثقة الموضوعة في المنطق الوظيفي، قد أهملا لفترة طويلة الدعوة السياسية للبناء الأوروبي. واتجه رد فعل جزء من الشعوب الأوروبية، الذي كان متوقعًا تمامًا عند قراءة جون ديوي أو يورغن هابرماس، حينها إلى استياء متزايد ضد مشروع البناء الأوروبي.
كما تُرجم ذلك أيضًا بصعود الشعبوية، ورفض دور الخبراء، وانبعاث القوميات، وأزمة بشكل عام في الديمقراطيات. لقد جلب هذا الجهد للتكامل في مجالات الأسواق والقانون الكثير إلى أوروبا، لكن التعميق الحقيقي، اليوم أكثر مما كان عليه عام 1989، يكمن في منطق التكامل هذا الذي يهدف إلى تزويد أوروبا بروح سياسية، والأوروبيين بوعي نشط بمواطنيتهم الأوروبية.
قدرة أوروبا على إعادة
اختراع نفسها في اختبار
المعضلة الأولى التي تواجه أوروبا، هي إعادة التوازن لتعمّقها، بحيث يظهر على المدى الطويل، نظام سياسي أوروبي مناسب، مدفوعًا بمفهوم فوق وطني للديمقراطية الأوروبية، ويسكنه مواطنون أوروبيون يعتبرون أنفسهم أوروبيون تمامًا.
هذا النظام السياسي الجديد لأوروبا المواطنة ينتظر البناء. لكنه يتجاوز المعضلة التي تشير إلى أن توسيع الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يعرّض تعميقه للخطر. على مدى العقدين الماضيين، ضاعف الاتحاد الأوروبي عدد دوله تقريبًا -وخسر واحدة، مع البريكسيت عام 2020. وعلى الرغم من الهشاشة، يواجه الاتحاد الأوروبي اليوم أزمات تاريخية.
لم تتحول التوسعات السابقة بأي حال من الأحوال إلى نقاط ضعف، بل على العكس تمامًا. ومع ذلك، لا تزال هذه المعضلة تشكل عائقاً قوياً أمام التوسع، حيث أن انضمام دول جديدة يثير تساؤلات حول تأسيس أوروبا سياسية. ولكن كيف يمكن لهذه أن ترى النور، إذا ظل ما يحظى بالأولوية من حيث التكامل الأوروبي بين الدول الأعضاء ومع دول أوروبا الشرقية والبلقان، هو منطق الاندماج عبر السوق والقانون؟ مع المجموعة السياسية الأوروبية، يتمثل الرهان في إخراج الاتحاد الأوروبي وجيرانه من المأزق الذي يجدون أنفسهم فيه.
وتعتبر الحرب في أوكرانيا لحظة محورية تضع الاتحاد الأوروبي امام تحدي قدرته على إعادة اكتشاف نفسه، ولم يعد الأمر يتعلق بالمرونة والصمود فقط. ولئن قد يميل الاتحاد الأوروبي إلى تفضيل المدى الطويل، إلا أنه مطالب أيضًا بتوفير قوة دفع استراتيجية على المدى القصير. ان معضلة التوقيت هذه حرجة، بالنظر إلى التآكل الدراماتيكي لمصداقية الاتحاد الأوروبي في سياسة التوسيع في غرب البلقان.
كونفدرالية الأوروبيين، رأس الحربة لأوروبا السياسية
من خلال وضع هذه المعضلات في الاعتبار، يمكن أن تكون فكرة ميتران عن كونفدرالية أوروبية بمثابة مصدر إلهام اليوم: ما هو الشكل الذي يمكن أن تتخذه هذه الكونفدرالية الجديدة -المنفتحة على الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي -لمواجهة التحديات التاريخية التي تواجه أوروبا؟
قبل كل شيء، من المهم تصور هذه الكونفدرالية كمساهمة في تعميق البناء الأوروبي في مجال أساسي يجد الاتحاد الأوروبي صعوبة للعمل من أجله: خلق عرض أوروبي. يجب أن تعمل الكونفدرالية الأوروبية بطريقة ما كمهد لجيل جديد من المواطنين الأوروبيين، الذين يجب تنشئتهم، من خلال مشاريع ملموسة. وفي مدارس الدول الأعضاء في الاتحاد، يجب أن يكون تدريس المواطنة الديمقراطية والتاريخ والثقافة والأخلاق واللغات الأوروبية جزءً لا يتجزأ من البرنامج التعليمي الوطني. وتتمثل مهمة الاتحاد في إيقاظ الوعي السياسي للشباب الأوروبي، وتعزيز ظهور ثقافة ديمقراطية أوروبية. سيمس ذلك الامتيازات والصلاحيات التي تحتفظ بها الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ولكن يمكن الاعتماد لهذا الغرض على الأسس التي وضعها مجلس أوروبا.
ولبناء هذا الجيل الجديد من الأوروبيين، ستكون الكونفدرالية قادرة على تأسيس برنامجها السياسي على التنقل، خاصة في سنّ تشكّل هويات المواطنين الشباب (من سن 12). يمكن أن تسمح برامج التبادل الكونفدرالية للمراهقين بتجربة التنقل الأوروبي، وتكوين صداقات في بلدان أخرى، وتطوير مشاركتهم المدنية على نطاق قاري. وتوجد هذه البرامج اليوم في أشكال تطوعية أو ثنائية (مكتب الشباب الفرنسي الألماني على سبيل المثال)، في حين يجب أن تكون بمثابة رافعة أرخميدس لظهور جيل أوروبي من المواطنين.
ويوجد في غرب البلقان نموذج في هذا المجال، المكتب الإقليمي للتعاون الشبابي، والذي يمكن أن توسعه الكونفدرالية ليشمل جميع أعضائها. ان تنقل أطفال المدارس في أوروبا يجب أن يكون هو القاعدة وليس الاستثناء. وبالمثل، فإن إنشاء خدمة مدنية أو عسكرية أوروبية سيجعل من الممكن زيادة تقوية تنقل الشباب وإثارة شعور الولاء الضروري في وقت المناقشات حول الاستقلال الاستراتيجي.
إن تكوين مثل هذه الكونفدرالية، التي تضع المواطنة الأوروبية في قلب المشروع، لا يمكن أن تدعمه النخب وحدها. على العكس من ذلك، من المهم النظر إليها على أنها تمرين في الديمقراطية التشاركية، وإعداد الأجيال القادمة من الأوروبيين لدورهم كمواطنين. وفي غضون ذلك، يمكن دعوة شعوب أوروبا بانتظام للتصويت بشأن بقاء بلدهم في الكونفدرالية أم لا، في نفس الوقت الذي تُجرى فيه الانتخابات العامة في بلادهم. وهكذا لن تتمكن الأحزاب السياسية في الدول الأوروبية من التغاضي عن هذه القضايا الأساسية المتعلقة بالشباب والمواطنة والديمقراطية والفيدرالية الأوروبية.
يجب دعوة جميع الدول الأوروبية للانضمام إلى هذه الكونفدرالية -دول أوروبا الشرقية أو دول البلقان بنفس عنوان الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي – بمجرد ضمان التعددية الحزبية والانتخابات الحرة والنظام التمثيلي وحرية الاعلام.
من المحتمل ألا يختار الجميع القيام بذلك، لأنه ما وراء مسألة المعايير السياسية التي تحدد هذه العضوية، فإن تقاسم الرؤية الفيدرالية الأوروبية هي التي ستكون لها الأسبقية في قرار الانضمام. ومن ثم فإن الكونفدرالية يجب ان تتجه نحو الدول التي يكون تقدمها نحو الديمقراطية واضحًا أيضًا. اما الاتحاد الأوروبي فسيواصل عمله للتكامل والاندماج من خلال السوق ومن خلال القانون.
وبتوسعه إلى دول أوروبا الشرقية ودول البلقان التي ترغب في ذلك، فإن البناء الأوروبي، من خلال هذه الكونفدرالية، سيعطي مكانة لهذه البلدان المستبعدة حاليًا من الاتحاد الأوروبي، وخاصة إطارًا مشتركًا لبناء أوروبا وديمقراطية الغد معًا. ستكون الكونفدرالية مصدر فخر والتزام جيلي وليس سياسة قطاعية جديدة للاتحاد الأوروبي.
ان الأشهر القليلة المقبلة ستكون حاسمة بالنسبة للبناء الأوروبي، وسيكون من الضروري مواصلة الإصلاحات التي بدأها الاتحاد الأوروبي والتي تتعلق بوظائفه وسياسة عضويته. لكن هذه العمليات ستستغرق وقتًا، مع ان العالم يتغيّر بسرعة جنونية. وسيسمح تكوين كونفدرالية الأوروبيين حينها بتربيع الدائرة التاريخية. تعميق المشروع الأوروبي من خلال إضفاء روح سياسية حقيقية عليه، مع توسيعه ليشمل الشعوب التي تشاركه مثله؛ والعمل اليوم من خلال تنفيذ مشاريع ملموسة وجريئة، مع تشكيل القوى الديمقراطية التي ستقود غدًا أوروبا الكبرى إلى تحقّقها؛ وأخيراً، بث حياة جديدة في أوروبا مع الحفاظ على الاتحاد الأوروبي ومنطقه في التكامل والاندماج.
*الأمين العام لـ مركز البحوث في معهد العلوم السياسية، واستاذ محاضر في معهد العلوم السياسية بباريس، باحث مشارك في المركز الجيو-سياسي للمدرسة العليا للتجارة.
** نائب الأمين العام للمركز الفرنسي النمساوي للتقارب الأوروبي، مدير مرصد البلقان في مؤسسة جان جوريس، باحث في المركز الدولي للتدريب الأوروبي.