رئيس الدولة ورئيس وزراء باكستان يبحثان علاقات التعاون بين البلدين والتطورات الإقليمية
رحلة عمر لـ «ملوّنة من بلجيكا»:
إيفلين شميت، 69 عامًا، لم تعثر على والدتها أبدًا...!
-- عام 2019، اعتذرت الدولة عن فصل الأطفال الملونين المولودين في مستعمراتها السابقة عن أمهاتهم
-- كانت الظاهرة تُعتبر مصدرًا للتخريب، ويُنظر إليها على أنها تهديد لمكانة البيض، وتجسيدًا للانحلال الأوروبي
-- فكرت إيفلين شميت في إلقاء نفسها تحت سيارة في عدة مناسبات لا لتموت بل لتهرب
-- إيفلين شميت: ضاع كل أمل في معرفة نهاية هذه القصة
-- مأساة آلاف ولدوا في القارة الأفريقية، لأم سوداء وأب أبيض خلال الاستعمار البلجيكي
هناك ما يدفعها للشعور بالمرارة، لكن لا تنبعث من كلماتها أي إشارة استياء أو غضب. في فم إيفلين شميت، لا نتوءات حادة، فقط الحكمة. “عملت كثيرًا، بحثت عن مساعدة في الروحانيات والبوذية، كنت راهبة طيلة ثلاث سنوات في بلجيكا. لقد خضت أيضًا علاجًا نفسيًا طيلة عشرين عامًا”، تشرح بلكنة أمريكية طفيفة، وهو الدليل الوحيد الذي يمكن أن يخون مسارها الاستثنائي.
من خلال صوت إيفلين الناعم يتردد صدى أصوات أفراد آخرين من الملوّنين في بلجيكا. أبناء الخطيئة، كما اعتُبروا، ولدوا في القارة الأفريقية، في الكونغو ورواندا-أوروندي، لأم سوداء وأب أبيض. خلال الاستعمار البلجيكي، كان عددهم يتراوح بين 14 الفا و20 ألف شخصًا ولدوا من تلك الزيجات القسرية في الغالب. تم إرسال بعض هؤلاء الأطفال (بين 800 و950) إلى أوروبا عندما حصل بلد ميلادهم على الاستقلال.
«بسبب الاضطرابات في الكونغو ورواندا-أوروندي، نجحت الأخوات البيض في إقناع الحكومة الاستعمارية البلجيكية بأن الملونين سيكونون في خطر إذا تُركوا في إفريقيا، وأنه يجب إرسالهم إلى بلجيكا وسحبهم من عائلتهم... وقد كانت أطروحة خاطئة. نقلت الحكومة البلجيكية مجموعة منهم إلى بلجيكا بموافقة الأمهات أو بدونها، قائلة إنهم سيعودن. وفي الواقع، كانت تذكرة ذهاب فقط، نوعًا من الاختطاف، لأننا وُضعنا في مؤسسات، وفي مراكز التبني، وفي أسر حاضنة، بادعاء أننا أيتام بينما كانت أمهاتنا ما زلن على قيد الحياة”. هذه الرواية المليئة بالعاطفة هي قصة فرانسوا ميليكس، الذي كان واحدًا من 300 طفل من أطفال مؤسسة ساف الكاثوليكية (جنوب رواندا) تم نقلهم إلى البلد المسطح.
قبل وصوله إلى أوروبا، أمضى رئيس “رابطة الملونين في بلجيكا” سنوات في “معهد الأطفال الملونين” هذا. في القارة الأفريقية، تخصصت العديد من المؤسسات الدينية في الترحيب بالأطفال الملونين، ورعايتهم، وتقديم تعليم على الطراز البلجيكي لهم، وخصوصا لإخفائهم. “مجرد حقيقة وجودهم يهدد الأسس الأيديولوجية للهيمنة الاستعمارية، التي تقوم على السيادة” الطبيعية “للعرق الأوروبي”، كما كتبت سارة هينسنز، المؤرخة بجامعة غينت في مجلة تاريخ الطفولة غير القانونية».
أن “اختلاط الاعراق كان ... يُعتبر مصدرًا للتخريب، ويُنظر إليه على أنه تهديد لمكانة البيض، وتجسيدًا للانحلال الأوروبي والتدهور الأخلاقي”، تشرح آن لورا ستولر، مؤرخة أمريكية استشهد بها في نفس المقال العلمي. تم أخذ إيفلين شميت أيضًا من ذراعي والدتها قبل وقت طويل من نهاية الحقبة الاستعمارية.
في الكونغو ثم في بروكسل
ولدت إيفلين في 28 فبراير 1952 في رواندا -أوروندي، وكانت تبلغ من العمر عامين عندما تم إرسالها إلى منطقة كيفو، في الكونغو البلجيكية، إلى مدرسة داخلية يديرها المبشرون المعمدانيون الأمريكيون. في دار الأيتام هذه، الظروف المعيشية قاسية، ولا أحد يأتي لرؤيتها، لا هي ولا رفاقها.
استمر هذا الايداع الأول خمس سنوات وقد قرره والدها بيير شميت، وهو من لوكسمبورغ كان يعمل في ذلك الوقت في إفريقيا لفائدة الحكومة البلجيكية. ووفقًا لها، أراد إبعادها عن شركته الصغيرة من أجل إنقاذ حياته المهنية. “لم يستطع التباهي بطفل ملوّن، ولم يستطع وضعي في مؤسسة كاثوليكية في رواندا-أورندي، فكمسؤول، كان سيفقد وظيفته.
قام بتنظيم حفل زفاف أفريقي تقليدي، الا ان بلجيكا لا تعترف به. وأراد والدي إبعادي عن رواندا، حيث أصول والدتي وجميع أفراد عائلتها، ليضعني هناك، حيث لا تجدني. لم تكن تعرف أين كنت، وكم من الوقت سأبقى، فقد أخبرها أنه سيرسلني إلى بلجيكا لأبقى مع عائلته».
حطت إيفلين في أوروبا ذات يوم، وهي في السابعة من عمرها، ولكن ليس في عائلتها الأبوية. تم إنزالها لأول مرة، مثل رفاقها الآخرين، في 119 شارع كوجين في أوكل، وهي بلدة فاخرة في جنوب بروكسل، في دار أيتام معمدانية، يديرها قس سويسري، بدعم من مانحين أمريكان يرسلون الملابس والمال. بعد عام، سمعت امرأة بهذه القصة وسارعت بتقديم طلب: “أرادت الأصغر، وكنت أنا».
بوسطن ثم نيويورك
لم ترغب إيفلين في المغادرة لأنها اعتبرت أن الأطفال الآخرين في دور أيتام كيفوتيان وأوكلي أعضاء في عائلتها. ودون اخذ رأيها في الاعتبار، وجدت نفسها جالسة في مقصورة طائرة تحلق في السماء فوق المحيط الأطلسي. الشيء الوحيد الذي كانت تعرفه عن بلد “العم سام” هو الويسترن. لدرجة أن إيفلين تفكر في قضاء بقية حياتها تحت خيمة وليس في روكسبري (بوسطن) في أحد الأحياء الفقيرة. من الواضح أن القس لم يكلف نفسه عناء الاستفسار عن المكان الذي أرسلها إليه.
بمجرد وصولها إلى عاصمة ماساتشوستس، التقت بوالدتها الحاضنة: امرأة تبلغ من العمر 28 عامًا، عزباء، عضو في طائفة إنجيلية بروتستانتية، فقيرة ومتقلبة. لوحة داكنة: “كنت احضر دروسًا في مدرسة بروتستانتية خاصة لطائفتهم، لا أستطع التحدث إلى الأطفال الآخرين في الحي، ولا يمكن ان أكون إلا مع العائلة وأفراد الكنيسة. وبعد ذلك انتقلنا كثيرًا، وسرعان ما غادرنا إلى نيويورك للعمل هناك... كانت ممرضة».
وتتابع: “أنا تركتني عاماً في الريف مع والدتها المعوقة والصماء. كانت هذه الأخيرة لطيفة معي، لكنني شعرت بالوحدة. كان عمري 10 سنوات فقط، وقد توفي والدها حينها. في الواقع، كانت بحاجة إلى شخص يعتني بوالدتها أثناء عملها. ولفترة من الوقت، أعطتني لأصدقاء يحتضنون طفلا بمفرده. وبعد أربع أو خمس سنوات، تزوجت وأرادت أن تتبناني”. آه، هل كنتم تعتقدون أن ذلك كان حاصلا؟
يبلغ المحامي الذي تمت استشارته “والدتها الأمريكية” أن إيفلين تبلغ من العمر 13 عامًا، ولها والدين، وأن هذا التبني مستحيل. لا أحد لديه أي دليل على أن العروس وزوجها الجديد هما وليّا أمرها. عموما، إيفلين لديها البطاقة الخضراء، الجنسية الأمريكية، لكنها في وضع غير قانوني. و”أخبرهم المحامي أنه إذا دخلت المستشفى في أي وقت، فإن الملحقين الاجتماعيين سيعيدونني إلى بلجيكا”. فجأة... فكرت إيفلين شميت في إلقاء نفسها تحت سيارة في عدة مناسبات... لا لتموت بل لتهرب.
أهدر ماله
في أحد الأيام، ظهر والدها البيولوجي في حياتها. ذهب ليدق الباب على القس، الذي نقل إيفلين من بلجيكا إلى الولايات المتحدة، غير ان هذا الأخير لم يرغب في البداية قول أي شيء له. لا ذكريات ... ثم هدد بيير شميت رجل الدين بهجوم قانوني. الحكم: “أعطاه القس خيط اتصال بفتاة ملوّنة أكبر مني، أعرفها من كيفو. لقد ذهبت إلى الولايات المتحدة للسفر وما زلنا نتراسل، لكن نادرًا جدًا. ومن خلالها، وجدني والدي أخيرًا، وقد استغرق الأمر سنوات «.
منذ البداية، أخذ بيير شميت قلمًا لكتابة رسالة أوكل إلى هذه الصديقة، مهمة تسليمها لها. في الخطاب، قال المستوطن السابق، إنه لا يريد إزعاجها، لكنه يرغب، من حين لآخر، في الحصول على بعض أخبارها. الا ان الظرف وصل في يد والدتها الحاضنة. غاضبة، صادرته، وفي نفس الوقت سرقت العنوان المرغوب فيه. اجابته تلك المرأة، أن إيفلين في وضع جيد ومندمجة تمامًا ولم يعد تتحدث الفرنسية. “لم يكتب لي والدي بعدها، قلت لنفسي إنه لا يهتم لأمري، وانطلقت من هناك.»
في السابعة عشرة من عمرها، رحلت إيفلين فترة قصيرة لتعيش في برونكس في منزل صديقة من مدرستها، وهي لاجئة كوبية فهمت والدتها اضطراب المراهقة. في العام التالي، بناءً على طلب عائلتها المضيفة، غادرت إيفلين، فقد أصبحت عبئا رغم ان والدها، استمر في إرسال الأموال لتمويل تعليمها. وعندما طالبت باستحقاقاتها، بعد سنوات، تبخرت الغنيمة.
سرقة زادتها إحباطًا لأن القليل من المال كان سيريحها. بعد المدرسة الثانوية، سافرت إيفلين إلى واشنطن سكوير للتقدم بطلب الحصول على منحة دراسية في جامعة نيويورك. وكان يفترض قبولها بعد اجتياز امتحان دخول ناجح. لم يسر التسجيل كما كانت تتوقعه: “تُقدّم المنح الدراسية للأمريكيين من أصل أفريقي، عشت في عائلة أمريكية من السود، وتغطي هذه المنحة جميع رسوم التسجيل والكتب ومصروف الجيب. وعندما ملأت الاستمارة، وضعت اسم والدي الحقيقي. سئلت من أين أتيت، بما أنه اسم من لوكسمبورغ، ولم أحصل على سنت».
«لم يرد أن يخبرني أبدا»
معتادة على التقشف، كافحت إيفلين من اجل ان تتمكن من الالتحاق بكلية هانتر في قلب مانهاتن. خلال النهار، تضاعف الوظائف الفردية، في بنك وول ستريت أو جمعية أو في مكتبة نيويورك الوطنية. في الليل، تدرس العلوم والبيولوجيا والكيمياء على مقاعد جامعتها ... وتيرة محمومة ستستمر طيلة ثماني سنوات حتى الإرهاق، من 19 إلى 27 سنة.
قبل خمس سنوات، استفادت من أسبوعين راحة للذهاب إلى بلجيكا لرؤية والدها مجددا. بسبب التوتر، بقيت إيفلين سجينة طيلة ثلاثة أيام في أحد الفنادق قبل أن تجرؤ على التقاط السماعة واخباره بوصولها.
«أعطاني عنوانه في بروكسل، وطلب مني الحضور بسرعة والتقينا. عندما رأيته تحول إلى اللون الأبيض. فهمت أنه تخيلني في منزل للأثرياء الأمريكيين بجوار مسبح. لم تكن لديه فكرة عن المحنة التي كنت أعيشها. كان الموقف قاسيا جدا، وانسجمنا. لم يكن يريدني أن أعود إلى الولايات المتحدة، لكن حياتي كانت هناك: صديق، ووظيفتي، ولا أتحدث الفرنسية. بعد بضع سنوات، جئت لدراسة اللغة طيلة عام وبقيت”، تشرح تلك التي ستعمل لاحقًا في مختبر في بلجيكا.
تزوجت هناك، وحصلت على جنسيتها الرابعة في نفس الوقت: إيفلين أمريكية وبلجيكية من خلال زوجها الراحل، ولوكسمبورغية من خلال والدها، ورواندية من خلال والدتها.
لم تعرف المولودة في كيغالي من تكون والدتها. سألت بلا كلل جميع الروانديين الذين التقتهم في بلجيكا وأفريقيا عما إذا كان هذا يعني لهم أي شيء.
أخبرها العديد من الأشخاص عن والدها، ولم يتمكن أحد من إعطائها هوية والدتها. طبيعي... تعتقد إيفلين أن الاسم الموجود في شهادة ميلادها كان خاطئًا. بيير شميت، لم يعترف لها أبدًا، “كان يعتقد أنني سأتركه، وكنت اعتقد أنه سينهار في النهاية. لكن بعد أربع سنوات من وصولي، توفي في حادث سيارة، وضاع كل أمل في معرفة نهاية هذه القصة».
بعد ربع قرن
بفضل صدفة غير عادية، نجح فرانسوا دادسكي، المؤسس المشارك لجمعية “ميتيس دي بلجيك”، في احتضان التي وهبته الحياة. لقد مرت ستة وعشرون عامًا منذ أن رآها اخر مرة. عام 1953، بعد إعادته لأسباب طبية، بذل والده تشارلز قصارى جهده ليتمكن من اصطحاب ريجين وأطفالهما إلى بلجيكا. رفض الطيار الإقلاع إلا إذا ترك الزوجة على الأرض. “قالت لي: ‘إذا كنت تصلي كل ليلة قبل أن تنام، فأنا أضمن لك أننا سنلتقي مرة أخرى ذات يوم».
الوضع، الذي كان من المقرر أن يكون مؤقتًا فقط، ازداد تعقيدا. توفيت جدته لأبيه، التي أقام معها وإخوته فيما بعد. بالإضافة إلى ذلك، بسبب حادث سيارة مروع في أفريقيا، أصيب والد فرانسوا دادسكي بعدة نوبات صرع. ووفقا له، استغل عمه الوضع ليدفع به الى احدى المصحات على أساس أنه مفتعل حرائق، ثم استولى على ثروته.
وحدهم وقصّر، تم في الأخير استقبال الأطفال من قبل مؤسسة في بروكسل. وكبالغين، حاولوا العثور على والدتهم. ورغم أنهم يعرفون اسمها ولقبها، فقد عملوا لفترة طويلة قبل أن تتاح لهم فرصة العثور عليها.
كان أحد إخوتي متمركزًا في بانغي، في جمهورية إفريقيا الوسطى، وتزوج أحد زملائه المتعاونين من امرأة رواندية. خلال حفل استقبال، قالت له هذه المرأة: “أنا مقتنعة بأن لديك أصول رواندية”.
ثم روى لها أخي قصته، وردت السيدة أن صديقة لها سمعت عن امرأة تبحث عن أطفالها... وكانت والدتنا».
أغسطس 1979، كان من المقرر ان يصل إلى كيغالي مساء الجمعة لرؤيتها، لكن فرانسوا دادسكي اضطر إلى الانتظار يومين في بوجومبورا. فشل من بوروندي، في إخطار والدته بوصوله إلى العاصمة الرواندية بعد ظهر يوم الأحد: “عندما مشيت باتجاه مكاتب الجمارك، شعرت بنظرة ثابتة علي، استدرت ورأيت، على بعد حوالي خمسين ياردة، شخصًا ينظر إلي. وأثناء تقدمي، رأيت تلك المرأة وقلت لنفسي إنها أمي. اقتربت منها، قلنا أسماءنا والتقينا”، يتذكر. وأوضح له أخوه غير الشقيق أنه عندما اكتشفت والدته أن الطائرة قد اختطفت، بقيت في المطار في انتظار كل نزول حتى رأت طفلها.
اعتذارات بلجيكية
عام 2019، اعترفت الدولة البلجيكية بخطئها واعتذرت للأطفال الملونين. رئيس الوزراء السابق تشارلز ميشيل (حركة الإصلاح، الليبرالية الناطقة بالفرنسية) خاطب مجلس النواب في بروكسل: “إنني أدرك التمييز العنصري المستهدف الذي كان الملوّنون ضحيته في ظل الإدارة الاستعمارية للكونغو البلجيكية ورواندا-أوروندي حتى عام 1962 وبعد إنهاء الاستعمار، فضلاً عن سياسة الاختطاف القسري ذات الصلة. ونيابة عن الحكومة الفيدرالية، أعتذر للملوّنين نتاج الاستعمار البلجيكي وأسرهم عن الظلم والمعاناة التي عانوا منها.
وقد سلط تقرير فرانس 24 الذي أنتجته كارولين دوما وبث في يوليو 2020 الضوء على تاريخ الأطفال الملوّنين المولودين قبل استقلال ساحل العاج لأم أفريقية وأب فرنسي (في الغالب). هؤلاء الأطفال الذين أصبحوا أجدادًا انتُزعوا من أمهاتهم واعتُبروا كأيتام الأمة.
بعد أكثر من ستين عامًا، ما زالوا لم يحصلوا على الجنسية الفرنسية، ويطالبون باعتذار لم تمنحهم اياه الدولة بعد. لا يأمل الملوّنون من كوت ديفوار وحدهم في لفتة، فعشرات ملاجئ الايتام للملوّنين في إفريقيا اقيمت خلال الاستعمار الفرنسي.
-- كانت الظاهرة تُعتبر مصدرًا للتخريب، ويُنظر إليها على أنها تهديد لمكانة البيض، وتجسيدًا للانحلال الأوروبي
-- فكرت إيفلين شميت في إلقاء نفسها تحت سيارة في عدة مناسبات لا لتموت بل لتهرب
-- إيفلين شميت: ضاع كل أمل في معرفة نهاية هذه القصة
-- مأساة آلاف ولدوا في القارة الأفريقية، لأم سوداء وأب أبيض خلال الاستعمار البلجيكي
هناك ما يدفعها للشعور بالمرارة، لكن لا تنبعث من كلماتها أي إشارة استياء أو غضب. في فم إيفلين شميت، لا نتوءات حادة، فقط الحكمة. “عملت كثيرًا، بحثت عن مساعدة في الروحانيات والبوذية، كنت راهبة طيلة ثلاث سنوات في بلجيكا. لقد خضت أيضًا علاجًا نفسيًا طيلة عشرين عامًا”، تشرح بلكنة أمريكية طفيفة، وهو الدليل الوحيد الذي يمكن أن يخون مسارها الاستثنائي.
من خلال صوت إيفلين الناعم يتردد صدى أصوات أفراد آخرين من الملوّنين في بلجيكا. أبناء الخطيئة، كما اعتُبروا، ولدوا في القارة الأفريقية، في الكونغو ورواندا-أوروندي، لأم سوداء وأب أبيض. خلال الاستعمار البلجيكي، كان عددهم يتراوح بين 14 الفا و20 ألف شخصًا ولدوا من تلك الزيجات القسرية في الغالب. تم إرسال بعض هؤلاء الأطفال (بين 800 و950) إلى أوروبا عندما حصل بلد ميلادهم على الاستقلال.
«بسبب الاضطرابات في الكونغو ورواندا-أوروندي، نجحت الأخوات البيض في إقناع الحكومة الاستعمارية البلجيكية بأن الملونين سيكونون في خطر إذا تُركوا في إفريقيا، وأنه يجب إرسالهم إلى بلجيكا وسحبهم من عائلتهم... وقد كانت أطروحة خاطئة. نقلت الحكومة البلجيكية مجموعة منهم إلى بلجيكا بموافقة الأمهات أو بدونها، قائلة إنهم سيعودن. وفي الواقع، كانت تذكرة ذهاب فقط، نوعًا من الاختطاف، لأننا وُضعنا في مؤسسات، وفي مراكز التبني، وفي أسر حاضنة، بادعاء أننا أيتام بينما كانت أمهاتنا ما زلن على قيد الحياة”. هذه الرواية المليئة بالعاطفة هي قصة فرانسوا ميليكس، الذي كان واحدًا من 300 طفل من أطفال مؤسسة ساف الكاثوليكية (جنوب رواندا) تم نقلهم إلى البلد المسطح.
قبل وصوله إلى أوروبا، أمضى رئيس “رابطة الملونين في بلجيكا” سنوات في “معهد الأطفال الملونين” هذا. في القارة الأفريقية، تخصصت العديد من المؤسسات الدينية في الترحيب بالأطفال الملونين، ورعايتهم، وتقديم تعليم على الطراز البلجيكي لهم، وخصوصا لإخفائهم. “مجرد حقيقة وجودهم يهدد الأسس الأيديولوجية للهيمنة الاستعمارية، التي تقوم على السيادة” الطبيعية “للعرق الأوروبي”، كما كتبت سارة هينسنز، المؤرخة بجامعة غينت في مجلة تاريخ الطفولة غير القانونية».
أن “اختلاط الاعراق كان ... يُعتبر مصدرًا للتخريب، ويُنظر إليه على أنه تهديد لمكانة البيض، وتجسيدًا للانحلال الأوروبي والتدهور الأخلاقي”، تشرح آن لورا ستولر، مؤرخة أمريكية استشهد بها في نفس المقال العلمي. تم أخذ إيفلين شميت أيضًا من ذراعي والدتها قبل وقت طويل من نهاية الحقبة الاستعمارية.
في الكونغو ثم في بروكسل
ولدت إيفلين في 28 فبراير 1952 في رواندا -أوروندي، وكانت تبلغ من العمر عامين عندما تم إرسالها إلى منطقة كيفو، في الكونغو البلجيكية، إلى مدرسة داخلية يديرها المبشرون المعمدانيون الأمريكيون. في دار الأيتام هذه، الظروف المعيشية قاسية، ولا أحد يأتي لرؤيتها، لا هي ولا رفاقها.
استمر هذا الايداع الأول خمس سنوات وقد قرره والدها بيير شميت، وهو من لوكسمبورغ كان يعمل في ذلك الوقت في إفريقيا لفائدة الحكومة البلجيكية. ووفقًا لها، أراد إبعادها عن شركته الصغيرة من أجل إنقاذ حياته المهنية. “لم يستطع التباهي بطفل ملوّن، ولم يستطع وضعي في مؤسسة كاثوليكية في رواندا-أورندي، فكمسؤول، كان سيفقد وظيفته.
قام بتنظيم حفل زفاف أفريقي تقليدي، الا ان بلجيكا لا تعترف به. وأراد والدي إبعادي عن رواندا، حيث أصول والدتي وجميع أفراد عائلتها، ليضعني هناك، حيث لا تجدني. لم تكن تعرف أين كنت، وكم من الوقت سأبقى، فقد أخبرها أنه سيرسلني إلى بلجيكا لأبقى مع عائلته».
حطت إيفلين في أوروبا ذات يوم، وهي في السابعة من عمرها، ولكن ليس في عائلتها الأبوية. تم إنزالها لأول مرة، مثل رفاقها الآخرين، في 119 شارع كوجين في أوكل، وهي بلدة فاخرة في جنوب بروكسل، في دار أيتام معمدانية، يديرها قس سويسري، بدعم من مانحين أمريكان يرسلون الملابس والمال. بعد عام، سمعت امرأة بهذه القصة وسارعت بتقديم طلب: “أرادت الأصغر، وكنت أنا».
بوسطن ثم نيويورك
لم ترغب إيفلين في المغادرة لأنها اعتبرت أن الأطفال الآخرين في دور أيتام كيفوتيان وأوكلي أعضاء في عائلتها. ودون اخذ رأيها في الاعتبار، وجدت نفسها جالسة في مقصورة طائرة تحلق في السماء فوق المحيط الأطلسي. الشيء الوحيد الذي كانت تعرفه عن بلد “العم سام” هو الويسترن. لدرجة أن إيفلين تفكر في قضاء بقية حياتها تحت خيمة وليس في روكسبري (بوسطن) في أحد الأحياء الفقيرة. من الواضح أن القس لم يكلف نفسه عناء الاستفسار عن المكان الذي أرسلها إليه.
بمجرد وصولها إلى عاصمة ماساتشوستس، التقت بوالدتها الحاضنة: امرأة تبلغ من العمر 28 عامًا، عزباء، عضو في طائفة إنجيلية بروتستانتية، فقيرة ومتقلبة. لوحة داكنة: “كنت احضر دروسًا في مدرسة بروتستانتية خاصة لطائفتهم، لا أستطع التحدث إلى الأطفال الآخرين في الحي، ولا يمكن ان أكون إلا مع العائلة وأفراد الكنيسة. وبعد ذلك انتقلنا كثيرًا، وسرعان ما غادرنا إلى نيويورك للعمل هناك... كانت ممرضة».
وتتابع: “أنا تركتني عاماً في الريف مع والدتها المعوقة والصماء. كانت هذه الأخيرة لطيفة معي، لكنني شعرت بالوحدة. كان عمري 10 سنوات فقط، وقد توفي والدها حينها. في الواقع، كانت بحاجة إلى شخص يعتني بوالدتها أثناء عملها. ولفترة من الوقت، أعطتني لأصدقاء يحتضنون طفلا بمفرده. وبعد أربع أو خمس سنوات، تزوجت وأرادت أن تتبناني”. آه، هل كنتم تعتقدون أن ذلك كان حاصلا؟
يبلغ المحامي الذي تمت استشارته “والدتها الأمريكية” أن إيفلين تبلغ من العمر 13 عامًا، ولها والدين، وأن هذا التبني مستحيل. لا أحد لديه أي دليل على أن العروس وزوجها الجديد هما وليّا أمرها. عموما، إيفلين لديها البطاقة الخضراء، الجنسية الأمريكية، لكنها في وضع غير قانوني. و”أخبرهم المحامي أنه إذا دخلت المستشفى في أي وقت، فإن الملحقين الاجتماعيين سيعيدونني إلى بلجيكا”. فجأة... فكرت إيفلين شميت في إلقاء نفسها تحت سيارة في عدة مناسبات... لا لتموت بل لتهرب.
أهدر ماله
في أحد الأيام، ظهر والدها البيولوجي في حياتها. ذهب ليدق الباب على القس، الذي نقل إيفلين من بلجيكا إلى الولايات المتحدة، غير ان هذا الأخير لم يرغب في البداية قول أي شيء له. لا ذكريات ... ثم هدد بيير شميت رجل الدين بهجوم قانوني. الحكم: “أعطاه القس خيط اتصال بفتاة ملوّنة أكبر مني، أعرفها من كيفو. لقد ذهبت إلى الولايات المتحدة للسفر وما زلنا نتراسل، لكن نادرًا جدًا. ومن خلالها، وجدني والدي أخيرًا، وقد استغرق الأمر سنوات «.
منذ البداية، أخذ بيير شميت قلمًا لكتابة رسالة أوكل إلى هذه الصديقة، مهمة تسليمها لها. في الخطاب، قال المستوطن السابق، إنه لا يريد إزعاجها، لكنه يرغب، من حين لآخر، في الحصول على بعض أخبارها. الا ان الظرف وصل في يد والدتها الحاضنة. غاضبة، صادرته، وفي نفس الوقت سرقت العنوان المرغوب فيه. اجابته تلك المرأة، أن إيفلين في وضع جيد ومندمجة تمامًا ولم يعد تتحدث الفرنسية. “لم يكتب لي والدي بعدها، قلت لنفسي إنه لا يهتم لأمري، وانطلقت من هناك.»
في السابعة عشرة من عمرها، رحلت إيفلين فترة قصيرة لتعيش في برونكس في منزل صديقة من مدرستها، وهي لاجئة كوبية فهمت والدتها اضطراب المراهقة. في العام التالي، بناءً على طلب عائلتها المضيفة، غادرت إيفلين، فقد أصبحت عبئا رغم ان والدها، استمر في إرسال الأموال لتمويل تعليمها. وعندما طالبت باستحقاقاتها، بعد سنوات، تبخرت الغنيمة.
سرقة زادتها إحباطًا لأن القليل من المال كان سيريحها. بعد المدرسة الثانوية، سافرت إيفلين إلى واشنطن سكوير للتقدم بطلب الحصول على منحة دراسية في جامعة نيويورك. وكان يفترض قبولها بعد اجتياز امتحان دخول ناجح. لم يسر التسجيل كما كانت تتوقعه: “تُقدّم المنح الدراسية للأمريكيين من أصل أفريقي، عشت في عائلة أمريكية من السود، وتغطي هذه المنحة جميع رسوم التسجيل والكتب ومصروف الجيب. وعندما ملأت الاستمارة، وضعت اسم والدي الحقيقي. سئلت من أين أتيت، بما أنه اسم من لوكسمبورغ، ولم أحصل على سنت».
«لم يرد أن يخبرني أبدا»
معتادة على التقشف، كافحت إيفلين من اجل ان تتمكن من الالتحاق بكلية هانتر في قلب مانهاتن. خلال النهار، تضاعف الوظائف الفردية، في بنك وول ستريت أو جمعية أو في مكتبة نيويورك الوطنية. في الليل، تدرس العلوم والبيولوجيا والكيمياء على مقاعد جامعتها ... وتيرة محمومة ستستمر طيلة ثماني سنوات حتى الإرهاق، من 19 إلى 27 سنة.
قبل خمس سنوات، استفادت من أسبوعين راحة للذهاب إلى بلجيكا لرؤية والدها مجددا. بسبب التوتر، بقيت إيفلين سجينة طيلة ثلاثة أيام في أحد الفنادق قبل أن تجرؤ على التقاط السماعة واخباره بوصولها.
«أعطاني عنوانه في بروكسل، وطلب مني الحضور بسرعة والتقينا. عندما رأيته تحول إلى اللون الأبيض. فهمت أنه تخيلني في منزل للأثرياء الأمريكيين بجوار مسبح. لم تكن لديه فكرة عن المحنة التي كنت أعيشها. كان الموقف قاسيا جدا، وانسجمنا. لم يكن يريدني أن أعود إلى الولايات المتحدة، لكن حياتي كانت هناك: صديق، ووظيفتي، ولا أتحدث الفرنسية. بعد بضع سنوات، جئت لدراسة اللغة طيلة عام وبقيت”، تشرح تلك التي ستعمل لاحقًا في مختبر في بلجيكا.
تزوجت هناك، وحصلت على جنسيتها الرابعة في نفس الوقت: إيفلين أمريكية وبلجيكية من خلال زوجها الراحل، ولوكسمبورغية من خلال والدها، ورواندية من خلال والدتها.
لم تعرف المولودة في كيغالي من تكون والدتها. سألت بلا كلل جميع الروانديين الذين التقتهم في بلجيكا وأفريقيا عما إذا كان هذا يعني لهم أي شيء.
أخبرها العديد من الأشخاص عن والدها، ولم يتمكن أحد من إعطائها هوية والدتها. طبيعي... تعتقد إيفلين أن الاسم الموجود في شهادة ميلادها كان خاطئًا. بيير شميت، لم يعترف لها أبدًا، “كان يعتقد أنني سأتركه، وكنت اعتقد أنه سينهار في النهاية. لكن بعد أربع سنوات من وصولي، توفي في حادث سيارة، وضاع كل أمل في معرفة نهاية هذه القصة».
بعد ربع قرن
بفضل صدفة غير عادية، نجح فرانسوا دادسكي، المؤسس المشارك لجمعية “ميتيس دي بلجيك”، في احتضان التي وهبته الحياة. لقد مرت ستة وعشرون عامًا منذ أن رآها اخر مرة. عام 1953، بعد إعادته لأسباب طبية، بذل والده تشارلز قصارى جهده ليتمكن من اصطحاب ريجين وأطفالهما إلى بلجيكا. رفض الطيار الإقلاع إلا إذا ترك الزوجة على الأرض. “قالت لي: ‘إذا كنت تصلي كل ليلة قبل أن تنام، فأنا أضمن لك أننا سنلتقي مرة أخرى ذات يوم».
الوضع، الذي كان من المقرر أن يكون مؤقتًا فقط، ازداد تعقيدا. توفيت جدته لأبيه، التي أقام معها وإخوته فيما بعد. بالإضافة إلى ذلك، بسبب حادث سيارة مروع في أفريقيا، أصيب والد فرانسوا دادسكي بعدة نوبات صرع. ووفقا له، استغل عمه الوضع ليدفع به الى احدى المصحات على أساس أنه مفتعل حرائق، ثم استولى على ثروته.
وحدهم وقصّر، تم في الأخير استقبال الأطفال من قبل مؤسسة في بروكسل. وكبالغين، حاولوا العثور على والدتهم. ورغم أنهم يعرفون اسمها ولقبها، فقد عملوا لفترة طويلة قبل أن تتاح لهم فرصة العثور عليها.
كان أحد إخوتي متمركزًا في بانغي، في جمهورية إفريقيا الوسطى، وتزوج أحد زملائه المتعاونين من امرأة رواندية. خلال حفل استقبال، قالت له هذه المرأة: “أنا مقتنعة بأن لديك أصول رواندية”.
ثم روى لها أخي قصته، وردت السيدة أن صديقة لها سمعت عن امرأة تبحث عن أطفالها... وكانت والدتنا».
أغسطس 1979، كان من المقرر ان يصل إلى كيغالي مساء الجمعة لرؤيتها، لكن فرانسوا دادسكي اضطر إلى الانتظار يومين في بوجومبورا. فشل من بوروندي، في إخطار والدته بوصوله إلى العاصمة الرواندية بعد ظهر يوم الأحد: “عندما مشيت باتجاه مكاتب الجمارك، شعرت بنظرة ثابتة علي، استدرت ورأيت، على بعد حوالي خمسين ياردة، شخصًا ينظر إلي. وأثناء تقدمي، رأيت تلك المرأة وقلت لنفسي إنها أمي. اقتربت منها، قلنا أسماءنا والتقينا”، يتذكر. وأوضح له أخوه غير الشقيق أنه عندما اكتشفت والدته أن الطائرة قد اختطفت، بقيت في المطار في انتظار كل نزول حتى رأت طفلها.
اعتذارات بلجيكية
عام 2019، اعترفت الدولة البلجيكية بخطئها واعتذرت للأطفال الملونين. رئيس الوزراء السابق تشارلز ميشيل (حركة الإصلاح، الليبرالية الناطقة بالفرنسية) خاطب مجلس النواب في بروكسل: “إنني أدرك التمييز العنصري المستهدف الذي كان الملوّنون ضحيته في ظل الإدارة الاستعمارية للكونغو البلجيكية ورواندا-أوروندي حتى عام 1962 وبعد إنهاء الاستعمار، فضلاً عن سياسة الاختطاف القسري ذات الصلة. ونيابة عن الحكومة الفيدرالية، أعتذر للملوّنين نتاج الاستعمار البلجيكي وأسرهم عن الظلم والمعاناة التي عانوا منها.
وقد سلط تقرير فرانس 24 الذي أنتجته كارولين دوما وبث في يوليو 2020 الضوء على تاريخ الأطفال الملوّنين المولودين قبل استقلال ساحل العاج لأم أفريقية وأب فرنسي (في الغالب). هؤلاء الأطفال الذين أصبحوا أجدادًا انتُزعوا من أمهاتهم واعتُبروا كأيتام الأمة.
بعد أكثر من ستين عامًا، ما زالوا لم يحصلوا على الجنسية الفرنسية، ويطالبون باعتذار لم تمنحهم اياه الدولة بعد. لا يأمل الملوّنون من كوت ديفوار وحدهم في لفتة، فعشرات ملاجئ الايتام للملوّنين في إفريقيا اقيمت خلال الاستعمار الفرنسي.