نافذة مشرعة

الثغرات الحقيقية للشعبوية...!

الثغرات الحقيقية للشعبوية...!

أخذ الشعبوية على محمل الجد؛ وعدم الاكتفاء بالإدانة والسخط، وإنما الرد في العمق وعلى أسس موضوعية: ذاك ما أقدم عليه بيير روزانفالون، الذي يؤسس، انطلاقا من معرفته الحميمية بنقاط قوة وضعف الديمقراطيات، تحليله لهذه القوة الصاعدة والرهيبة.
   تُتّهم الشعبوية عمومًا بالانحراف التسلطي أو، بعبارات علمية أكثر، بـ “اللاليبرالية”. لكن روزانفالون يرى، انه حتى لو تم تبريره، فأن هذا النقد لا يقنع إلا المقتنعين فقط، لأنه من خلال مهاجمة الليبرالية تحديدا، تكتسب الشعبوية الدعم. وخصوصا، انها لا تقترح استبدال الليبرالية بدكتاتورية، كما في الثلاثينات، لكنها تدعي أن لديها شكل ديمقراطي متفوق، يضع في المقدمة السيادة الشعبية المُعبّر عنها من خلال الاستفتاء أو الانتصار الساحق لأغلبية انتخابية مكتسبة من خلال اللجوء الى المشاعر والتبسيط البرامجي.

   تقدم الديمقراطيات القائمة كنقيض لها وتعرّف بأنها حالة مرضية، كما لو ان الأنظمة التي تنمو الشعبوية في احشائها هي نماذج مكتملة، بدون ضعف شديد أو ظلم، وكما لو أن أزمة التمثيل التي نلاحظها في كل مكان مجرد علة عابرة يستفيد منها الديماغوجيون في فرض مفاهيمهم الخطيرة. يقول روزانفالون: “يجب أن نمضي أبعد من ذلك، ليس من خلال ممارسة الخطاب التقليدي المناهض للفاشية، وانما من خلال إبراز كيف أن الديمقراطية “المتفوقة” التي يدافع عنها الشعبويون، تخدع في الواقع الشعب، وتمنع التقدم الديمقراطي تحديدا.

   نقد الليبرالية المرتبطة بتمجيد الديمقراطية المباشرة تم التنظير له أولا في مفكري اليونان، حلقة تأمّل ينشطها الكاتب الموسوعي آلان دي بينويست. نجد فيه رفض للنخب الاقتصادية والإعلامية، وكذلك نقد التمثيل البرلماني المرتبط بهما، ويتواصل مع العبادة الكوسموبوليتية لحقوق الإنسان. وتمت معارضته، منذ بداية الثمانينات، ليس باللجوء إلى نظام ديكتاتوري، وانما الى ديمقراطية مباشرة أكثر، تقوم على التمييز بين طبقة حاكمة رفيعة (جماعة “1 بالمائة” نقول اليوم)، وشعب موحّد يرغب في الحفاظ على هويته وحرياته التقليدية في مواجهة الدولة المترامية الأطراف للديمقراطيات الأوروبية.

  شعب يعبّر عن نفسه من خلال الاستفتاء وانتخاب أغلبية مصممة على تنفيذ هذه السيادة المباشرة. تبنت الجبهة الوطنية هذا المفهوم عام 1985، كما ستفعل معظم الشعوب حول العالم، التي تزعم بذلك الدفاع عن شكل للسيادة أكثر أصالة. ونجدها في النظريات الشعبوية ايضا التي طورها فيلسوف أقصى اليسار شانتال موف، والذي يستلهم، مثل جان لوك ميلنشون، من نماذج أمريكا الجنوبية.

   يقدم روزانفالون أولاً “تشريحا” للشعبوية، ويسلط الضوء على معالمها الرئيسية، ثم يركز على تاريخها داخل التطورات الثرية والعميقة. ثم يصوغ الاعتراضين الرئيسيين اللذين يمكن رفعهما ضدها. الشعب، أولاً، ليس ذاك الكيان الغامض والموحد في إرادة واضحة الذي يتحدث عنه الشعبويون. والمجتمع لا ينقسم إلى نخبة رفيعة مصطنعة وفاسدة يعارضها باقي السكان. فالشعب ذاته منقسم حسب مصالح متناقضة، وانتمائه إلى فئات مختلفة لا تسعى إلى تحقيق نفس الأهداف، وتنوع التيارات السياسية أو الإيديولوجية التي تشقّه.
   لا يمثل الشعبويون الشعب كله، ولكنهم يمثلون شريحة منه، ليست شرعيتها بالضرورة أعلى من المكونات الأخرى للشعب. والإعلان بأننا نتصرف نيابة عن شعب موحد، هو رفض ضمني للذين يختلفون.

   إن الخطاب الشعبوي، إذا ما ساد، يثير بإنكاره لهذه التعددية، مخاطر القمع أو التمييز من جانب جزء من الجماهير تجاه الآخرين. ولتفادي هذا الخطر تحديدا، عُهد إلى هيئات غير منتخبة (ولكن تم إنشاؤها أصلاً من قبل مجلس منتخب)، مثل المحاكم الدستورية، بدور الدفاع عن المبادئ الرئيسية للحرية العامة ودولة القانون التي تحمي الأقليات من سلطة الأغلبية.
   ويضمن القانون أيضًا وجود سلطات مضادة، مثل الصحافة والنقابات والجمعيات، والتي تعبر أيضًا عن جزء من الإرادة الشعبية. إن الديمقراطية، كما يذكّر روزانفالون، تستند إلى دعامتين، وليس على أساس واحد: السيادة الشعبية، بالطبع، ولكن أيضًا القواعد الأساسية للقانون، التي تضمن حرية الأفراد أو استقلالية التيارات الاقليّة، في إطار القانون المشترك.
   وبمجرد وصولهم إلى السلطة (ترامب، أوربان، بولسونارو)، يسعى الشعبويون دائمًا إلى تقليص تأثير حراس الحرية، لتجاوز حدود القانون، ومحاولة جعل هيمنتهم لا رجعة فيها. ثم نمر، باسم السيادة الشعبية، من ديمقراطية القانون إلى ديمقراطية “غير ليبرالية».

   وبدلاً من إثارة شعب متخيّل وتهييجه، فإن الهدف بالنسبة لروزانفالون، هو “بناء مجتمع ديمقراطي قائم على مبادئ مقبولة من العدالة التوزيعية وإعادة التوزيع، ورؤية مشتركة لما يعنيه تشكيل مجتمع المتساوين”. لكن ليس بالتمسك بالدفاع عن النظام الحالي وحده، يمكننا مكافحة الشعبوية، التي تتغذى من غضب ونفاد صبر عدد متزايد من شعوب الكوكب. إنها مسألة صياغة “إعادة تأسيس ديمقراطية قادرة أن تشكل عرضًا بديلاً قويًا للعرض الشعبوي».
   يصوغ روزانفالون العديد من الطرق التي تستحق الاستكشاف. الرئيسية؟ توسيع مبدأ التمثيل، الذي لا يمكن اختزاله في الاقتراع. استشارات متكررة، وتجمعات “تفاعلية”، والقرعة، واليقظة المواطنية، اي إنشاء “ديمقراطية التملّك” التي تعيد وصل الروابط التي انقطعت بين الحكام والمحكومين... باختصار، لمحاربة الشعبوية، توسيع حقوق الشعوب.