مساعدة بوتين في أوكرانيا؟

الصين غامضة في مواجهة الضغوط الأمريكية...!

الصين غامضة في مواجهة الضغوط الأمريكية...!

-- إن أهم قضية في نظر بكين ليست إنهاء الحرب أو تقوية صداقة مفترضة بل حماية مصالح الصين
-- «لن تقف الصين أبدًا إلى جانب دولة تجد نفسها في صراع مع الغالبية العظمى من العالم»
-- سيتعين على إدارة بايدن إيجاد توازن دقيق بين الحزم والمرونة إذا أرادت النجاح في إقناع سيّد الصين


   منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، تشاهد الصين حربًا في أوكرانيا حيث تتعثّر قوات فلاديمير بوتين. وتواجه بكين، أكثر من أي وقت مضى، خيارًا صعبًا للغاية: إما الوقوف الى جانب الرئيس الروسي وتعريض نفسها لعقوبات غربية ستكون قاسية على اقتصادها، أو اتخاذ قرار بالتخلي عن روسيا لتجد نفسها بمفردها أمام الولايات المتحدة.
   لا يمكن أن يكون الرئيس الصيني شي جين بينغ إلا مصعوقا بمجريات الغزو الروسي. فقد أودت الحرب بحياة الآلاف، ويوما بعد يوم، يغرق في مستنقع امام احتمال مقاومة أوكرانية قد تستمر لأسابيع، إن لم يكن أشهرا.

   منذ بدء العــدوان الروسي على أوكرانيا، لم يتحدث رئيس الدولـــة الصينيـــة كثيرا، تمــامــا مثل الأعضــاء الستة الآخرون في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب، وهي الهيئة العليا التي تقرر جميع الخيارات الاستراتيجية للبلاد.
   لكن شي جين بينغ قطع صمته يوم الجمعة 18 مارس عندما تحدث إلى نظيره الأمريكي جو بايدن طيلة ساعتين تقريبًا. كانت هذه أول مقابلة بالفيديو بين قادة أكبر اقتصادين في العالم منذ اندلاع الحرب في 24 فبراير.

   أكد شي جين بينغ، أن الأزمة في أوكرانيا “ليست شيئًا نريد رؤيته”، بدون استخدام كلمتي “حرب” و “غزو”. كما لم يحدد الرئيس الصيني ما إذا كانت الصين ستقدم مساعدات عسكرية أو مالية واقتصادية لفلاديمير بوتين.
   ومن جانبه، لم يتوانى جو بايدن عن تكرار التحذيرات الأمريكية الموجهة لبكين إذا ما قررت منح مساعدات عسكرية لموسكو. ففي هذه الحالة، ستتخذ واشنطن حينها قرارًا بفرض عقوبات شديدة على الصين، مدمرة لاقتصادها، المتضرر أصلا بشدة في الأشهر الأخيرة.
   وحتى قبل هذه القمة، أعربت إدارة بايدن في عدة مناسبات عن “قلقها العميق” بشأن خطر رؤية الصين تميل نحو روسيا. ورداً على معلومات لم تؤكدها بكين قط بشأن الخيار الصيني بتسليم أسلحة لروسيا كانت ستطلبها، أعربت القيادة الأمريكية عن “قلقها الشديد».

«إنهم في العتمة»
   في نهاية الاجتماع بين شي جين بينغ وجو بايدن، أعرب بيان صحفي صادر عن وزارة الخارجية الصينية عن رغبة الصين في طلب استمرار الحوار بين الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي مع روسيا من أجل “السعي لحل الأزمة الأوكرانية».
   لكن بكين في موقف صعب، يرى ديفيد شولمان، مدير المجلس الأطلسي العالمي في الصين، نقلا عن صحيفة واشنطن بوست: “لقد جاءت هذه الحرب بشكل سيئ، وفي وقت هو فعلا في غاية الاضطراب بالنسبة للصين. إن بكين لا تعرف كيف سينتهي كل هذا، ولا ترى أي فرصة في الوقت الحالي، انها في الظلام تحاول إيجاد حلّها لما يحدث».

   الخميس 13 مارس، أجرى مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، عدة ساعات من المناقشات مع نظيره الصيني يان جيتشي، والتي وصفتها واشنطن بأنها “مكثفة” و”صريحة”. “نحن قلقون من أنهم يخططون لتقديم المساعدة لروسيا”، حذر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين حينها. كما حذر الصين قائلاً “لن نتردد في فرض تكلفة” على الصين إذا قررت دعم العدوان الروسي في أوكرانيا.
   وأضاف رئيس الدبلوماسية الأمريكية، “نعتقد أن من المسؤوليات الملقاة على عاتق الصين على وجه الخصوص، مسؤولية استخدام نفوذها مع الرئيس بوتين والدفاع عن القواعد الدولية والمبادئ التي تعلنها. لكن يبدو أن الصين تتجه نحو الحل المعاكس برفض إدانة هذا العدوان مع السعي لتقديم نفسها كحكم محايد».

   تأتي هذه الحرب في أسوأ الأوقات بالنسبة للصين، التي يتباطأ نموها الاقتصادي بشكل حاد منذ أكثر من عام. ولا شك أن عقوبات أمريكية ستمارس ضغوطًا كبيرة على نمو الناتج المحلي الإجمالي الصيني، والذي من الممكن أن يتسارع انحداره أكثر.
   لكن من يقول التباطؤ الاقتصادي، يقول أيضا خطر حدوث أزمة اجتماعية. والأزمة الاجتماعية هي بلا شك الظاهرة التي يخافها الحزب الشيوعي الصيني أكثر من غيرها، فهو الذي يعتمد بشكل دقيق على “الاستقرار الاجتماعي” حتى يتمكن السكان من الاستمرار في التمسك بتوجهاته الأيديولوجية. تراجعت سوق الأسهم الصينية هذا الأسبوع إلى أدنى مستوى لها في 21 شهرًا مع ارتفاع أسعار الغاز بشكل كبير وانتشار جائحة كوفيد-19 مرة أخرى في جميع أنحاء الصين.

الصين لن تهاجم أوكرانيا أبدا
    تطورت لهجة الخطاب الرسمي للسلطات الصينية بشكل واضح منذ 24 فبراير. وتتوخى بكين الآن أقصى درجات الحذر عند التحدث علنًا عما يُنظر إليه الآن بوضوح على أنه مغامرة عسكرية لفلاديمير بوتين.
    قبل أيام قليلة، أوضح السفير الصيني لدى الولايات المتحدة، فان شيان رونغ، أن بلاده “لن تهاجم أوكرانيا أبدًا وتحترم المسار الذي اختاره الأوكرانيون”، وهي طريقة للقول إن    بكين لن تقدم دعمها لهذا الصراع. تصريح استعاده في اليوم التالي تشاو ليجيان، أحد المتحدثين باسم وزارة الخارجية الصينية، المعروف بأنه أكثر دبلوماسيي “ الذئاب المحاربة “ صخبا وشراسة، ولا سيما مع الولايات المتحدة وجميع منتقدي النظام الصيني.

   وردا على سؤال حول ما إذا كانت بكين ستمنح المساعدة لروسيا أم لا، أجاب تشاو، “لقد أصدرت الصين عدة بيانات حول هذا الموضوع: لا يوجد سبب لقول ذلك. لكن المتحدث الرسمي امتنع بعناية عن استبعاد إمكانية تقديم مثل هذه المساعدة.

   في 15 مارس، استخدم السفير الصيني لدى الولايات المتحدة تشين غانغ مصطلح “الحرب” في عمود نُشر في الواشنطن بوست، مع شجب الضغط الأمريكي الموجه إلى الصين. فهل هذا مؤشر على تغيير في موقف بكين؟ انها في كل الاحوال، المرة الأولى التي يستخدم فيها سياسي صيني كلمة “حرب” في أوكرانيا منذ بداية الغزو الروسي. وقال رداً على مزاعم المسؤولين الأمريكيين القائلة بأن الصين كانت على علم مسبق بالحرب المقبلة في أوكرانيا: “المزاعم التي تقول ان الصين كانت على علم أو تدعم ضمنيا أو تغاضت هي معلومات مضللة خالصة».

   وفي نصه المعنون بالإنجليزية “موقفنا من أوكرانيا”، كتب السفير الصيني أن “موقف الصين موضوعي ومحايد”، مؤكدًا أن “سيادة وسلامة أراضي جميع البلدان، بما في ذلك أوكرانيا، يجب احترامها”. كان بعض المراقبين قد غامروا بالتنبؤ بأن شي جين بينغ سيستغل الحرب في أوكرانيا لمحاولة غزو تايوان.

«مشهد لا يعجب»
   الثلاثاء، 22 فبراير، قبل ان تضرب الصواريخ الروسية الأولى أوكرانيا، لعب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب دور العرّاف: ستنتهز الصين الفرصة لغزو تايوان. “إنهم ينتظرون نهاية الألعاب الأولمبية”، تنبأ امبراطور العقارات في ميكروفون بث إذاعي.
   الباحث المشارك بالمركز الفرنسي لدراسة الصين المعاصرة، تانجوي ليبسانت، لا يصدق ذلك لثانية واحدة: “ هبوط جيش صيني يبدو مستحيلًا بالنسبة لي في الوقت الحالي، حتى في غضون عامين أو ثلاثة أعوام”، على حد قوله، نقلاً عن موقع سليت من تايبيه. “مثلنا جميعًا، يراقب شي جين بينغ محموما ما يحدث في أوكرانيا. وبالتأكيد أن ما يراه لا يعجبه، يشرح هذا المتخصص في الجغرافيا السياسية، إنه يهشّم الخطاب الذي سمعناه، أي أن الصين قادرة على غلق غزو تايوان في أيام قليلة».

   في الواقع، رغم خبرة الجيش الروسي في مسارح الحرب، إلا أنه بدأ في التعثر بشكل خطير في أوكرانيا. ومع ذلك، فإن الجيش الصيني لا خبرة لديه في التدخل أثناء الصراع. وبالتالي فإن خطر الفشل أكبر بالنسبة له، ولن يستطيع شي جين بينغ تحمّل هزيمة في تايوان، الأمر الذي سيكون له تكلفة سياسية هائلة على الحزب الشيوعي الصيني ومن باب أولى لأمينه العام. ويضيف تانجوي ليبيسانت: “إذا لم ينجح من المرة الأولى، فإن تايوان ستعلن استقلالها، ومن المحتمل أن يتم الاعتراف به فورًا من قبل جزء كبير من العالم».

   من ناحية أخرى، لا تندلع حرب كبرى في غضون أسبوعين أو ثلاثة أسابيع لأنها تتطلب أعمال تحضيرية طويلة وتحركات ضخمة للقوات. وهذا لن يفلت عن عدسات السلطات التايوانية ولا القوات الأمريكية المتواجدة في المنطقة.
   «سيكون لدى التايوانيين متسع من الوقت لوضع دفاعهم في مكانه ... وهم مسلحون حتى الأسنان! حتى لو كانت قوتهم الضاربة أقل بكثير، فقد بنوا دفاعًا غير متكافئ “من الضعيف إلى القوي” من الصواريخ الدقيقة والفعالة للغاية التي يمكن إنتاجها بكميات كبيرة، ويمكنهم إلقاء الألغام في المضيق “، يؤكد الباحث في مركز تايبيه الذي يتخذ من تايبيه مقراً له.

   على الصعيد الدولي، يبدو أن الصين هي الصديق الوحيد لروسيا. ولكن سيكون من الخطأ المبالغة في صلابة هذه الصداقة الصينية الروسية المفترضة “، يشير آلان كارلسون، الأستاذ المساعد في جامعة كورنيل، نقلاً عن صحيفة ساوث تشاينا مورنينج بوست يوم السبت 19 مارس. لا يزال الرئيس شي جين بينغ بعيدًا عن السماح للصين بأن تغرق في هذا الصراع من خلال تسليم أسلحة إلى روسيا. إن أهم قضية في نظر بكين ليست إنهاء الحرب أو تقوية صداقة مفترضة بل حماية مصالح الصين».

    ونقلت صحيفة هونج كونج اليومية، عن لونج جينغ المديرة المساعدة لمركز الدراسات الأوروبية في معهد شنغهاي للدراسات الدولية. “السؤال الكبير ليس ما إذا كانت الصين ستميل الى هذا الطرف أو ذاك أو تستمع إلى دعوات دولة ما، الأصح هو حقيقة أن الصين دعت باستمرار جميع الأطراف إلى ممارسة ضبط النفس والعودة إلى طاولة المفاوضات. أعتقد أن هذا يمثل مدخلا لتلعب الصين دورا” في البحث عن حل لهذا الصراع.
   و”حتى لو بدا أن بكين تميل نحو روسيا، فإن الصين لن تقف أبدًا إلى جانب دولة تجد نفسها في صراع مع الغالبية العظمى من العالم. ان أفضل خيار هو البقاء على الحياد”، نقلت الصحيفة عن مصدر صيني لم يكشف عن اسمه.  

إرادة التايوانيين
   من ناحية أخرى، في تايوان، لم يكن استعداد السكان المحليين للقتال في حال نشوب صراع مع جمهورية الصين الشعبية أعلى مما هي عليه اليوم. وفقًا لاستطلاع صدر في 15 مارس من قبل جمعية الدراسة الاستراتيجية الدولية التايوانية. فقد أعلن 70 فاصل 2 بالمائة من الذين تم استجوابهم أنهم مستعدون للقتال للدفاع عن تايوان مقابل 40 فاصل 3 بالمائة في استطلاع أجري في 28 ديسمبر.

   وردا على سؤال حول الشعار الذي تم تداوله على نطاق واسع في الجزيرة والذي يقول “أوكرانيا اليوم، تايوان غدا”، قال 26 فاصل 1 بالمائة فقط إنهم يوافقون، بينما قال 61 فاصل 6 بالمائة إنهم لا يوافقون. بالإضافة إلى ذلك، يعتقد 62 فاصل 4 بالمائة من المستطلعين أن الحرب في أوكرانيا لن تؤدي إلى تسريع استعدادات جيش التحرير الشعبي لغزو محتمل للجزيرة.

   من جهة اخرى، بينما يكتشف العديد من الجنود الروس الشباب أن الأوكرانيين يتحدثون نفس لغتهم تقريبًا، ويتساءل الكثيرون عن سبب إرسالهم للقتال في بلد مجاور، يصعب تخيّل أن مجندي جيش التحرير الشعبي سيأتون للقتال ضد صينيين آخرين على الضفة الأخرى من مضيق تايوان؟

«بلا حدود”؟
   ربما يأسف شي جين بينغ اليوم بشدة على تمرير البيان الصيني الروسي المشترك الذي نُشر بعد أربع ساعات من المحادثات بينه وبين فلاديمير بوتين في 4 فبراير في افتتاح دورة الألعاب الشتوية في بكين. ففي هذا النص، أكد الطرفان أن التعاون بين روسيا والصين أصبح الآن “غير محدود».
    وفي الوقت الذي يتم فيه إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للعالم بالكامل، يجب على الغرب أن يجد النغمة الصحيحة لإقناع السلطات الصينية بالحاجة إلى أخذ مسافة عن روسيا، وإقناع شي جين بينغ بأن حلمه بصين عظمى مهيمنة لم يعد واقعيًا.

   لأنه سيكون من الصعب حقًا على النظام الصيني أن يقبل، إذا ما تخلى عن روسيا، بأن يجد نفسه وحيدًا تقريبًا ضد الولايات المتحدة. منذ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض في يناير 2021، لم تخف واشنطن رغبتها في عرقلة طريق صعود بكين الصاروخي على الساحة الدولية.
   من المؤكد أن اللهجة الأبوية ستؤدي إلى نتائج عكسية، وستثير بلا شك العداء من الجانب الصيني. وعلى العكس من ذلك، فإن اللهجة المتساهلة بشكل مفرط يمكن أن تمنح سلطات بكين بعض الأمل في عدم معاقبتها في حال مساعدة فلاديمير بوتين.

   مع اقتراب المؤتمر العشرين للحزب في الخريف المقبل، والذي سيكون ذا أهمية قصوى لمستقبل شي جين بينغ، سيتعين على إدارة بايدن اذن، إيجاد توازن دقيق بين الحزم والمرونة إذا أرادت النجاح في إقناع سيد الصين الحمراء بالتخلي عن نظيره الروسي.
مؤلف حوالي خمسة عشر كتابًا مخصصة للصين واليابان والتبت والهند والتحديات الآسيوية الرئيسية. عام 2020، نشر كتاب “الزعامة العالمية محوره، الصدام بين الصين والولايات المتحدة” عن منشورات لوب.