اللغز يحتفظ بكامل أسراره

العالم يراقب منظمة الصحة العالمية التي تراقب الصين...!

العالم يراقب منظمة الصحة العالمية التي تراقب الصين...!

-- يبدو أن منظمة الصحة العالمية اتفقت مع الحكومة الصينية على أن تقتصر مهمتها على دراسة علمية قدر الإمكان
-- بيتر إمبارك: «لن تكون لدينا إجابات كاملة عن أصل الفيروس، لكنها خطوة أولى جيدة»
-- من خلال الحذر المستمر من أي تحقيق دولي، تعطي بكين انطباعًا قويًا بأنها تخفي الكثير
-- الإعلان بأن الفيروس لم يتسرب من المختبر لن يغضب بكين التي تكرر أن الوباء لم ينشأ في ووهان
-- قد تفسر عودة الولايات المتحدة إلى المنظمة سبب قبول بكين وصول خبراء الصحة الدوليين إلى أراضيها


   في جمهورية الصين الشعبية، ليس من السهل دائمًا الحصول على معلومات حقيقية حول القضايا الصحية. عام 1972، زمن الثورة الثقافية، تمت دعوة وفد فرنسي من شباب البوليتكنيك يزور الصين إلى مستشفى في نانجينغ لحضور عملية تحت الوخز بالإبر. وكانت خصوصية هذه الممارسة الطبية، التي أشادت بها الدعاية الماوية، هي أن المريض لا يتم تخديره. رسميًا، كان التعامل مع الإبر كافيًا لإزالة الألم عند دخول المباضع.
     اضطر الشباب الفرنسيون إلى صعود درج للوصول إلى شرفة في الطابق الثالث من المستشفى لمشاهدة العملية. لكن أحدهم، تأخّر عن المجموعة، استقلّ مصعدا كان جراحًا صينيًا فيه.
 وقد أسرّ هذا الأخير إلى الشاب الضيف بلغة فرنسية ممتازة: “لا تصدق أي شيء ستحضره...”. بعد بضع دقائق، كان الجراح نفسه  في الفريق الذي شق معدة المريض، والذي من جانبه ابتسم للوفد.

 أقصى قدر من الإشراف
   يبدو أن ذات الهاجس بشأن التعتيم والتلاعب كان يحيط بالقادة الصينيين الذين استقبلوا فريقًا من منظمة الصحة العالمية في ووهان. لقد انتظرت بكين أكثر من أحد عشر شهرًا قبل أن تسمح لهذه المجموعة الدولية المكونة من ثلاثة عشر عالماً بالقدوم إلى المدينة مسرح ظهور الفيروس.

ومن بين هؤلاء على وجه الخصوص عالم فيروسات، وعالم مناعة، وعلماء إحياء، وأخصائي في الصحة العامة، أو أيضا صحة الحيوان.
    وقد اتصلت منظمة الصحة العالمية بالعديد من العلماء الآخرين ليكونوا جزءً من البعثة لكن رفضتهم السلطات الصينية. والذين حصلوا في النهاية على تأشيرة لدخول الصين كانوا محلّ مراقبة لصيقة. هدفهم، الذي حددته منظمة الصحة العالمية، هو “العثور على إجابات حول أصول الوباء وطريق انتقاله إلى البشر”، من أجل منع أوبئة أخرى.
   وعند وصولهم إلى ووهان، كان على كل منهم الخضوع للحجر الصحي المفروض على أي مسافر قادم من الخارج، أي أسبوعين من العزلة في غرفة فندق.

    في 29 يناير، أصبح بإمكان المجموعة أن تبدأ أخيرًا أعمال التفتيش. في البداية، تم نقل أعضائها بالحافلة إلى مبنى كبير حيث تمّت دعوتهم لزيارة معرض تم تثبيته مؤخرًا يوضح تفاصيل الحرب ضد الوباء في ووهان. وتؤكد الأرقام والصور جهود كل العاملين في المجال الطبي والبلدية وقادة الحزب الشيوعي المحلي.

   ثم تم نقل خبراء منظمة الصحة العالمية إلى مستشفى جينينتان حيث أخبرهم الأطباء أنهم كانوا أول من استقبل مرضى مصابين بفيروس غير معروف، والذي تبيّن لاحقا أنه فيروس سارس-كوف-2. وغرد بيتر داسزاك، عالم الحيوان الإنجليزي وهو والعضو في مجموعة الخبراء: “الزيارة الأولى مهمة جدًا... نحن في المستشفى الذي عالج بعض الحالات الأولى المعروفة لـ كوفيد-19، التقينا بالأطباء والموظفين الذين عملوا على هذا الأمر، مع مناقشة صريحة لتفاصيل عملهم «.

   في اليوم التالي، وفي سيارات ذات نوافذ مظللة، تم نقل مجموعة العلماء إلى سوق هوانان للأغذية بالجملة. في هذا المكان، ديسمبر 2019، تم رصد أول انتشار للعدوى بفيروس كورونا بالقرب من أكشاك الحيوانات الحية.
سوق أغلقت تماما قبل عام، ولم يُسمح إلا للخبراء ومرشديهم الصينيين بالدخول في 30 يناير. وأمام أبواب المؤسسة، يراقب ضباط الشرطة الحواجز التي تمنع الصحفيين، الصينيين أو الأجانب. وعندما يطرح بعضهم أسئلة باتجاه السيارات، تُغلق النوافذ بسرعة.

   في 4 فبراير، ذهب الوفد إلى معهد ووهان لعلم الفيروسات حيث توجد مختبرات مؤمّنة جدا، وتتعامل مع -من بين أشياء أخرى -فيروسات كورونا. سيقضي الفريق الدولي ما يقرب من أربع ساعات هناك، تعددت خلالها الزيارات إلى المرافق. المقابلات مع الطاقم الطبي والإداري هي أيضا في البرنامج. هنا مرة أخرى، سيكون بيتر دازاك إيجابيًا. في اليوم التالي، حول الموظفين الذين التقى بهم في هذا المختبر، أعلن في سكاي نيوز: “إنهم تقاسموا معنا بيانات لم نرها من قبل -لم يرها أحد من قبل. وتحدثوا إلينا بصراحة عن جميع السبل الممكنة... نحن حقًا نصل إلى شيء ما «.

دراسة علمية قدر الإمكان
    كيف تم الحديث خلال هذه الاجتماعات عن إمكانية تعامل غير حذر قد يكون سمح للفيروس بالتسلل؟ هل كان هذا الفيروس موجودًا في الخفافيش التي استخدمت في التجارب؟ محميّا بشكل سيء، هل كان من الممكن أن ينقله موظف في المختبر إلى سوق المواد الغذائية القريب؟ الم تحدث العدوى من حيوان من نوع آخر، إن لم يكن البانجولين، فقد يكون المنك، وبعد المرور بأحد هذه الحيوانات، انتقل الفيروس إلى البشر؟

   سبق ان طرحت هذه الفرضيات من قبل دونالد ترامب. وقبل ترك منصبه كوزير للخارجية، ادعى مايك بومبيو أن لديه “قدرًا كبيرًا من الأدلة” تشير إلى أن أحد المختبرات في ووهان هو مصدر الوباء. ومع ذلك، لا يبدو أن مجموعة خبراء منظمة الصحة العالمية التي زارت المختبر في 4 فبراير تشاركه هذه الادعاءات. في 7 يناير، قال العالم الدنماركي بيتر إمبارك، الذي يرأس الوفد إلى ووهان، لوكالة فرانس برس، إن أطروحة الفيروس الذي قد يكون تسرّب من المختبر ستكون “سيناريو ممتازًا للأفلام أو المسلسلات السينمائية، لكنها قليلة المصداقية».

   من الواضح، أن مثل هذا الإعلان لن يغضب بكين، التي تكرّر أن الوباء لم ينشأ في ووهان. وتقدم وسائل الإعلام الصينية فرضيات أخرى: فهي تقدر حاليًا، ولكن دون إثبات، أن اللحوم المجمدة المصدرة إلى ووهان من دولة أجنبية كانت تحتوي على الفيروس. أو وفقًا لنسخة منتشرة جدًا في الصين، قد يكون جاء به الغربيون، وبشكل أدق، الرياضيون الأمريكيون الذين أتوا للمشاركة في مسابقة رياضية دولية في أكتوبر.

   في 29 يناير، حدد تشاو ليجيان، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، الحدود التي تضعها الصين لبعثة منظمة الصحة العالمية بإعلانه ان: “هذا التعاون وهذه التبادلات بين الخبراء الدوليين من منظمة الصحة العالمية والخبراء الصينيين، جزء من البحث العالمي في أصل كورونا فيروس... هذا ليس تحقيقًا “.  بينما في جنيف، في المقر الرئيسي لمنظمة الصحة العالمية، أكد مايكل بريان، مدير شؤون الطوارئ الصحية، في محاولة لتهدئة أي توترات، في 14 يناير، أن الفريق المرسل لم يكن يبحث عن “المذنب أو المتهم”. ويبدو أن منظمة الصحة العالمية قد اتفقت مع الحكومة الصينية على أن تقتصر المهمّة على دراسة علمية قدر الإمكان عن أصل كورونا فيروس.

الولايات المتحدة
 تعيد خلط الأوراق
   لكن، في علاقتها بالصين، تسعى منظمة الصحة العالمية إلى أن تكون لا عيب فيها. في أوائل عام 2020، بعد أن تأخرت وقتًا طويلاً لإعلان حالة طوارئ صحية عالمية، تعرضت المنظمة لانتقادات شديدة في العالم الغربي: فقد أعطت انطباعًا بأنها تقبل دون تنسيب رفض الحكومة الصينية الاعتراف بأنها لم تتعامل مع الوباء منذ البداية بل وفضلت حتى إخفاءه.

   في يناير 2020، ذهب تيدروس أدهانوم غيبريسوس، مدير منظمة الصحة العالمية، إلى بكين والتقى الرئيس الصيني شي جين بينغ، ولم يحاول أن ينأى بنفسه عن وجهات النظر الصينية الرسمية بشأن الوباء. وزير الصحة الأثيوبي السابق، تم تعيينه رئيسًا لمنظمة الصحة العالمية بفضل دعم الصين القوي. وباتت هذه الأخيرة أكثر قوة في منظمة الصحة العالمية مما دفع، أبريل 2020، دونالد ترامب إلى اتخاذ قرار انسحاب الولايات المتحدة.
   وعلى عكس ذلك، أعلن جو بايدن خلال حملته الانتخابية أنه يريد عودة بلاده إلى منظمة الصحة العالمية، وجدد تأكيد عزمه في اليوم الثاني من ولايته، في الوقت نفسه الذي اتخذ فيه سلسلة من الإجراءات لمحاربة كوفيد-19. رحب تيدروس أدهانون غيبريسوس، بانتخاب الرئيس الأمريكي الجديد، قائلاً: “نهنئ الرئيس المنتخب جو بايدن وكذلك نائب الرئيس كامالا هاريس، ونتطلع إلى العمل عن قرب مع إدارتهما».

    سيتعين على قادة منظمة الصحة العالمية، وكذلك الدول الرئيسية المنضوية تحتها-منها الصين -أن تأخذ في الاعتبار عودة الولايات المتحدة إلى المنظمة. وقد تفسر هذه الحاجة إلى الواقعية، جزئيًا، سبب قبول بكين وصول خبراء الصحة الدوليين الثلاثة عشر إلى أراضيها.
   من جهته، وقع جو بايدن، في 26 يناير، مرسوماً يحظر استخدام الإدارة الأمريكية لمصطلحي “الفيروس الصيني” أو “فيروس ووهان”، اللذين شاع استخدامهما لدى دونالد ترامب. إلا أن الولايات المتحدة تعتزم متابعة العمل الحالي لمنظمة الصحة العالمية في ووهان عن كثب.

وقالت جين بساكي المتحدثة الجديدة باسم البيت الأبيض: “من الضروري أن نصل إلى حقيقة الأمور في ظهور الوباء في الصين».
    مخاوف مهمة تثير قلق القادة الصينيين: الخوف من أن ينتقدهم شعبهم... بعد مرور أكثر من عام بقليل على بداية الوباء، يسلط الحزب الشيوعي الصيني الضوء على انتصاره على فيروس كورونا. فبينما توفي مليوني شخص حول العالم بسبب كوفيد-19، تمكنت الصين من الحد من العدوى إلى أقل من 90 ألف حالة وعدد الوفيات إلى 4636، وفقًا للإحصاء الرسمي. ومع ذلك، من خلال الحذر المستمر من أي تحقيق دولي، أو من خلال طرح وجهات نظر حول أصل الفيروس تجعل العلماء الغربيين متشككين، أصبحت بكين تعطي انطباعًا قويًا بأن لديها الكثير لتخفيه.

   لا شك أن منظمة الصحة العالمية ستمتنع عن انتقاد سلوك السلطات الصينية. وفيما يتعلق بالرحلة الحالية إلى ووهان، يعتقد بيتر إمبارك: “لن تكون لدينا إجابات كاملة عن أصل الفيروس، لكنها ستكون خطوة أولى جيدة”. ومن المتوقع أن تنتهي المهمة في حوالي 12 فبراير، موعد رأس السنة الصينية الجديدة.
   في 9 فبراير، عقد الفريق بأكمله، إلى جانب الخبراء الصينيين، مؤتمرًا صحفيًا لتبادل بعض النتائج الأولية. وشدد بيتر إمبارك على أن فرضية تسرب فيروس كورونا من المختبر “غير محتملة للغاية”. وأعلن إن الانتقال من الحيوان الأول ثم ثان قبل العدوى إلى البشر هي الفرضية “الأكثر احتمالًا”، قبل أن يضيف، هذا المسار يتطلب “بحثًا أكثر دقة وخصوصية واستهدافًا»،

   من جانبهم، قال الخبراء الصينيون إنهم لم يعثروا على الحيوان المسؤول عن انتشار الفيروس: وقال ليانغ وانيان، مدير مجموعة العلماء الصينيين، إنه “لم يتم تحديده بعد”. ويعتبر أنه “لا توجد أدلة كافية “...” لتحديد ما إذا كان السارس-كوف-2 قد انتشر في ووهان قبل ديسمبر 2019 أم لا».
   بعد هذه المهمة، من المتوقع أن يعود أعضاء منظمة الصحة العالمية إلى الصين مرتين أخريين على الأقل.
 وقد يسمح هذا لهؤلاء الخبراء الغربيين بإقامة روابط ثقة مع محاوريهم الصينيين، وحتى مع مسؤولي الحزب الشيوعي في ووهان.
   لقد مر أكثر من عام منذ ظهور سارس-كوف-2، ولكن لا يزال من الصعب تحديد مصدره بدقة. وفي أحسن الأحوال، يمكن أن يكشف تقرير منظمة الصحة العالمية عما يعرفه الباحثون الصينيون عن أصل الوباء... وحتى الآن منعتهم السلطات الصينية من كشف ذلك.