بعد سنوات من التنمّر... حلم أردوغان المستحيل بـ «صانع سلام»
عقب ازدياد عزلته الإقليمية والدولية وفقدان الكثير من أوراق القوة في المنطقة، يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يريد إعادة تقديم نفسه كصانع سلام بعد سنوات من ممارسة سياسات التنمر. تطرق الكاتب الأمريكي الخبير في الشؤون التركية دايفد ليبيسكا إلى الليونة الجديدة في السياسة التركية الإقليمية وتزامنها مع عدد من المتغيرات الدولية. وكتب في صحيفة “ذا ناشونال” الإماراتية كيف عقدت تركيا واليونان أمس الأول الثلاثاء جولتهما الثانية من المحادثات الاستكشافية حول القضايا البحرية العالقة. جاء ذلك بعدما عقد وزراء خارجية دول منتدى غاز شرق المتوسط اجتماعهم المشترك الأول الأسبوع الماضي.
تلميح
منذ تأسيسه سنة 2019، قورب المنتدى من زاوية منعه أنقرة من الوصول إلى موارد الغاز في مياه قبرص واليونان المنتميتين للاتحاد الأوروبي. وزعمت تركيا خلال السنوات الأخيرة أنها تملك حقوقاً في المناطق الاقتصادية الخالصة لليونان وقبرص فأرسلت سفناً للتنقيب الاستكشافي إلى مياههما. وخلال الصيف الماضي، وضعت الاعتداءات التركية أنقرة على شفير الحرب مع أثينا. على هامش قمة المنتدى، قال رئيس جمعية المستثمرين المصريين في الغاز المسال محمد سعد الدين إن التحالف سيستفيد من توسيع عدد أعضائه بينما أعلن وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال ستينيتز أن إسرائيل مستعدة للتعاون مع تركيا حول الغاز الطبيعي. بدا هذان التصريحان تلميحاً إلى إمكانية ضم أنقرة للمنتدى بعدما رحب الأخير بفرنسا كعضو جديد.
تودد تركي لمصر على أعلى المستويات
في هذا الوقت، تابع ليبيسكا، أعلن كبار المسؤولين الأتراك مثل وزير الدفاع خلوصي آكار ووزير الخارجية مولود جاويش أوغلو والمستشار الرئاسي ابراهيم قالين أن هنالك تقارباً مع مصر. وقالت أنقرة خلال نهاية الأسبوع الماضي إنها جددت علاقاتها الديبلوماسية مع مصر لكن القاهرة نفت ذلك. دخلت العلاقات الثنائية مرحلة جمود عميق مع وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم بعد عزل الرئيس الإخواني السابق محمد مرسي. واصلت أنقرة دعم التنظيم الإخواني الإرهابي واستقبلت عدداً من أعضائه المنفيين. وفي أواخر 2019، وقعت تركيا اتفاقية مع حكومة الوفاق الوطني لترسيم الحدود البحرية بينهما في شرق المتوسط. ردت مصر واليونان بترسيم حدودهما البحرية.
مظهر جديد
الآن، يهدف الرئيس التركي إلى الابتعاد عن الإخوان والتقرب من السيسي. لم ترد القاهرة على المشاعر التركية الحارة بالمثل. لكنها أصدرت خريطة الشهر الماضي متطابقة مع نظرة تركيا إلى جرفها القاري. وخلال الشهر الماضي أيضاً، رحب السيسي برئيس الوزراء الليبي عبد الحميد الدبيبة الذي يملك علاقات ودية مع أردوغان. تشير المرحلة الانتقالية الجديدة في ليبيا إلى مظهر تركيا الجديد كوسيطة وصانعة سلام. منح البرلمان الليبي المعاد توحيده حديثاً الثقة للحكومة الانتقالية المتوقع أن تشرف على انتخابات ديسمبر (كانون الأول) كجزء من خطة السلام المدعومة أممياً. تريد أنقرة لعب دور الوساطة في النزاعات الأفغانية والسورية والتوتر المصري-الإثيوبي حول سد النهضة.
سبب النهج الجديد
يوضح ليبيسكا أن هذا النهج التركي الجديد هو في الأساس جهد لتقليص عزلة تركيا الإقليمية في مواجهة عقوبات اقتصادية قاسية يحتمل أن يفرضها الاتحاد الأوروبي، وفي مواجهة موقف أمريكي أصلب بعد خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض. أجلت بروكسل العقوبات على أنقرة لأكثر من عام. يتوقع كثر أن يتخذ الاتحاد الأوروبي قراره بشأن العقوبات على تركيا في قمة 25-26 مارس الحالي. يفسر ذلك سبب إجراء أردوغان محادثات هاتفية ودية مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يعد من بين أبرز المؤيدين لفرض عقوبات قاسية على أنقرة.
الاتصال المنتظر
على الرغم من ذلك، لا يزال أردوغان ينتظر مكالمة هاتفية من الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي أعلن أنه لا يستسيغ الرئيس التركي. ترك الموقف الأمريكي أردوغان غير متأكد من المضي قدماً ومشككاً في موقعه الحالي تجاه القوة العظمى.
يتمتع بايدن بالكثير من أوراق القوة تجاه تركيا. من بينها مثلاً قدرته على رفع عقوبات كاتسا التي فُرضت عليها بسبب شرائها منظومة أس-400، وعلى حمايته من الغرامة الهائلة المحتملة على بنك خلق الذي تفادى العقوبات المفروضة على إيران، وقدرته على دعوة تركيا مجدداً إلى برنامج أف-35 وغيرها.
ما يمكن لأردوغان فعله
لا يستطيع أردوغان فعل الكثير باستثناء الانتظار والاحتفاظ بأفضل سلوك ممكن. رحب وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن بعودة تركيا إلى التواصل مع الاتحاد الأوروبي وقد خفضت حجم التوتر في شرق المتوسط. لكن واشنطن أقل دعماً لموقف تركيا تجاه قبرص التي قسمت سنة 1974 ولا تعترف بجمهوريتها الشمالية سوى أنقرة. وتعهد بلينكن عمل الديبلوماسية الأمريكية بكامل طاقتها على حل يعيد توحيد قبرص ضمن فيديرالية ذات منطقتين ومجتمعين. لكن أنقرة شددت خلال الأسابيع الأخيرة على قبولها بجميع الحلول باستثناء حل الدولتين.
طريق طويل جداً
أشار ليبيسكا إلى أن قبرص وإسرائيل وضعتا منذ أيام قليلة حداً لمأزق دام تسعة أعوام للتوصل إلى اتفاق أولي لحل خلاف على حقوق استخراج الغاز في شرق المتوسط. وفي الأسبوع الماضي أيضاً، وافقت قبرص وإسرائيل واليونان على وصل شبكاتها الكهربائية وإرساء أطول وأعمق خط كهرباء تحت المياه، قبل أن تُتبِع هذه الخطوات بتدريبات بحرية مشتركة. إذا استطاعت أثينا وأنقرة إيجاد أرضية مشتركة في المحادثات فيمكن أن تبدأ تركيا بالتخلص من وضعها كدولة منبوذة. مع ذلك، سيبقى أمام أردوغان طريق طويل جداً كي يستحق صفة صانع سلام. لكن قد تكون الخطوات الأخيرة كافية لتفادي العقوبات الأوروبية واستحقاق الاتصال الهاتفي الذي طال انتظاره من الرئيس الأمريكي.