أزمة يصعب رؤية نهايتها:

بيروت، من حريق الفوضى إلى ركام الكارثة...!

بيروت، من حريق الفوضى إلى ركام الكارثة...!

- بعد مرور عام، لا يزال الميناء والعاصمة ورشة مفتوحة
- الانفجار رعب سيطبع اللبنانيين إلى الأبد، لكن احتضار المدينة بدأ من قبل
- جمود سياسي، نقص في المواد الأساسية، وهبوط الليرة اللبنانية، وهجرة السكان
- بينما يعيش 55 بالمائة من اللبنانيين تحت خط الفقر، غرق 23 بالمائة منهم في فقر مدقع


بعد مرور عام على الانفجار الرهيب في ميناء العاصمة اللبنانية، يختنق البلد ويغرق في أزمة يصعب رؤية نهايتها...
كل شيء ثقيل في بيروت: ثقيلة هي الشمس الملتصقة بالجلد، ثقيل هو ركام المباني المدمرة؛ ثقيل هو بوح السكان وقد فقدوا السيطرة على أعصابهم؛ ثقيل هو انتظار كارثة جديدة. سيمر عام على انفجار الميناء، اخذا معه المدينة، ومع ذلك لم يتغير شيء يذكر. نجد بانتظام آثار الزجاج المكسور الذي غطى العاصمة اللبنانية في 4 أغسطس 2020: على الأرصفة، في المنازل، في الاجساد. في الواقع، مخلفات الانفجار هي صورة لطبقة سياسية أغرقت البلاد في الفوضى... ويثابرون في الاهانة.

رُسمت صورة زائفة للتجديد داخل الحكومة في الأسابيع التي أعقبت الكارثة: فقد أفسح رئيس الوزراء المستقيل حسان دياب الطريق أمام مصطفى أديب الذي اختفى بسرعة، دون أن يثير ذلك أي أمل حقيقي في التغيير. في الواقع، في أكتوبر، استعاد سعد الحريري المنصب مبتسما، بعد عام من طرده من قبل ثوار 17 أكتوبر 2019. والازدراء هو المصادقة مرة أخرى على الداء اللبناني: هنا، الصامد ليس الشعب، وإنما الطبقة السياسية. بعد تسعة أشهر، يوم الخميس 15 يوليو، ألقى سعد الحريري المنديل لفشله في تشكيل الحكومة، وخلفه ملياردير متهم بشبهة الاختلاس المالي. منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990، تمكنت نفس العشيرة السياسية من البقاء في السلطة، وإعادة تدوير أمراء الحرب السابقين واصدقاء الأسرة.

مدينة تحت الاشعاعات
لئن تتجاذبه السخرية والقدرية في السنوات الأخيرة، فإن معظم اللبنانيين تأقلموا -في غياب الاختيار -مع بلد يعمل بارتباك وبترتيبات صغيرة وكبيرة، لكن الوضع اليوم لا يطاق. “أصبحت الأشياء اليومية مسمومة، مجرد ضمان الوصول إلى الاحتياجات الأساسية يأخذ 50 بالمائة من وقتك. أنا أضيّع ساعتين للتزود بالوقود، وعليّ التخطيط ليومي حسب انقطاع التيار الكهربائي، وهناك انقطاع للمياه، ونفتقر للدواء، والليرة اللبنانية ما انفكت في ارتفاع ... إنها تقتلنا شيئًا فشيئًا”، تقول ميلاني داغر.
دمر الانفجار شقتها القديمة التي تطل على فناء داخلي صغير في شارع أرميني في مار ميخائيل. وعليك أن تصعد بضعة طوابق، مع الحرص على عدم الانزلاق، على درج لا يزال محمّلا بالركام لمشاهدة الحي، مما يسمح لك بإدراك مدى الضرر، بعيدا عن تجديد الواجهات. “تشعر أن المدينة تموت ببطء، لا يوجد ضوء في الشارع ليلاً، ولدينا انطباع بأنه ديكور لفيلم زومبي، وأننا انتهينا من التصوير للتو، وبصدد جمع كل الاغراض، وأنه لا يزال هناك عدد قليل من الناس يتجولون”، كما تقول السيدة التي في الثلاثين من عمرها، وتتفادى الآن العودة إلى تلك الأماكن حيث مات جارها بين ذراعيها قبل عام.
في الواقع، الشوارع مهجورة في بيروت. قبل كوفيد-19 و4 أغسطس، كان بالإمكان التعرّف على الأجانب من خلال حقيقة أنهم كانوا الوحيدين الذين يمشون في المدينة. في حين يتزاحم البيروتيون في سيارات الأجرة الخدمية أو الحافلات الصغيرة أو سيارات الدفع الرباعي الكبيرة جدًا. لكن بعض الأحياء كانت ممتلئة دائمًا. ومن الآن فصاعدًا، حتى شارع أرميني، الذي كانت تصطف فيه الحانات والضحك، يبدو حزينًا في أمسيات الجمعة.

ليالي مظلمة وثلاجات فارغة
في الحانات والمطاعم، يتعذر الوصول إلى بعض المنتجات: هنا، لم يعد يتم تقديم القهوة بسبب نقص الكهرباء لتشغيل الماكينة، وهناك الأسماك التي تعفنت في الثلاجات، لانعدام التبريد. إن شركة كهرباء لبنان، وهي مؤسسة عامة من المفترض أن تضمن تغطية الكهرباء في البلاد، توفر فقط بضع ساعات من التيار في اليوم -عندما توفره-، وبعد ذلك تتولى المولدات الخاصة المهمة. لكن في الأشهر الأخيرة، حتى هذا المسكّن آخذ في الانخفاض، بسبب النقص المتزايد في الوقود الضروري لتزويد المولدات. عندما تكون محظوظًا، يمكنك المراهنة على ما يزيد قليلاً عن 15 ساعة من الكهرباء يوميًا، مقابل سعر ينافس أحيانًا بعض الأجور شهريا (الحد الأدنى للأجور، الذي كان حوالي 450 دولارًا عام 2019، انخفض إلى 30 دولارًا في يوليو 2021).
أبو أحمد، الذي يعيش في حي الكرنتينا الفقير مع زوجته كاملة وأطفالهما الخمسة، رأى مبناه ينهار بعد دقائق قليلة من الانفجار. قضوا فصل الشتاء، بين الأنقاض، قبل أن تأتي منظمة غير حكومية لإصلاح المبنى بعد ستة أشهر. اليوم، هذا السوري الذي غادر الرقة قبل ثلاثة عشر عامًا ليستقر في لبنان، يعمل كحارس في موقف للسيارات، ويحصل على 500 ألف ليرة لبنانية شهريًا، أي حوالي 22 دولارًا. الجنيه، الذي كان مربوطا بالدولار الأمريكي منذ عام 1997 بسعر ثابت قدره 1500 جنيه للدولار، يقفز الآن عند 22000 في مكاتب الصرافة، متأثرًا بحركة مزدوجة من الانخفاض والتضخم المفرط.بين تداعيات الانفجار والأزمة الاقتصادية، انزلقت البلاد في دوامة من الانحدار. النقص الآن يطال جميع القطاعات: الكهرباء والوقود والأدوية والسلع الاستهلاكية ... “نحن نأكل بشكل سيئ ونعيش بشكل سيئ وننام بشكل سيئ ونخشى الإصابة بالمرض، لأننا نعلم الآن أننا سنواجه أيضًا مشكلة في الحصول على الرعاية. في الصيدليات وحدها، أصبح من الشائع شراء الأدوية ليس في علب، ولكن في بثور، أو في أقراص بسيطة، بسبب نقص المخزونات الكافية».
«طبعا، الانفجار رعب سيطبع اللبنانيين إلى الأبد، لكن احتضار المدينة بدأ من قبل، وكان الانفجار تجسيدًا للشر المطلق الذي كان ينخر لبنان منذ سنوات”، يؤكد الباحث والخبير السياسي زياد ماجد الذي يدرّس في الجامعة الأمريكية بباريس، معتبرا انه “يسود الآن هذا الشعور بالعجز في مواجهة بلد يغرق، فمن الناحية الاقتصادية، من الصعب للغاية رؤيته يقف مرة أخرى قبل بضعة عقود... من الممكن تصحيحه قليلا، وتحسين الوضع، لكن الأمر سيستغرق سنوات».

الحداد معلّق
بينما تمر الساعات وتتشابه، وغالباً ما تكون مشروطة بالانتظار اللامتناهي لـ “الصافرة” التي ستعلن عودة الكهرباء -إلى متى؟ “وجدنا أنفسنا عالقين في دوامة لا تصدق من المشاكل والحزن والحداد”، تعرب عن أسفها جنيفر الحاج، التي تعيش في منطقة بدارو. بعد الانفجار، أمضت أربع عشرة ساعة في البحث، وصولا الى المشارح، عن عمتها ريتا التي لا خبر عنها. ضحية نزيف دماغي، خرجت هذه الأخيرة من الغيبوبة بعد 28 يومًا، لكن جراحها لم تندمل وتهدد بالتعفّن مجددا.
في أعقاب 4 اغسطس، نزل سكان بيروت، من جميع الطبقات والأصول، إلى الشوارع لكنس الأنقاض وإنقاذ ما تبقى لإنقاذه، في مواجهة تقاعس الحكومة. تم حشد المنظمات غير الحكومية في الموقع، وتم إنشاء بعضها بالمناسبة، ثم تتالى كل شيء بسرعة كبيرة: كان لا بد من العلاج، والدفن، والإصلاح، وإعادة البناء، مع العمل، في استعجال كان يتمدد كلما تفاقمت الأزمة الاقتصادية. والى يومنا هذا، حتى عدد الضحايا لا يزال غير مؤكد. وزارة الصحة اللبنانية تذكر فقط على موقعها الرسمي على الإنترنت قائمة بـ 191 اسما لم يتم تحديثها منذ أيلول الماضي. وأبلغت معظم المؤسسات الحكومية عن “أكثر من 200 قتيل”؛ وجمعيات الضحايا تتحدث بدلاً من ذلك عن 217.
«مشكلة لبنان أننا نواجه دائمًا المجهول”، تقول جنيفر، لا توجد أجوبة إطلاقاً، ليس لدينا حتى كتب تاريخ تتوقف الكتب المدرسية اللبنانية عند عام 1946، برحيل القوات الفرنسية المنتدبة، ملاحظة المحرر، لا أحد يعرف الحقيقة، نحن نعيش في دوامة من الأكاذيب والجهل، وهذا ينخرنا. لقد فعلنا كل شيء لندرس، والبقاء متيقظين لما يجري، ونسافر، ونأتي بكل ما في وسعنا إلى بلدنا، وفي النهاية، والداك هما من يكذبان عليك طوال اليوم».بين الأجيال الشابة، الاستياء في ذروته، وهو يختلط بالملل والتعب. الكثيرون من الذين آمنوا بالثورة خرجوا بخيبة أمل. “فكرة أننا جميعًا معًا للمضي قدمًا، لم أعد أصدقها، يقول أنتوني سيمان باستهجان: “جيلنا، والجيل الذي سبقنا، والجيل الذي سبقه، شهدوا جميعا شيئًا مشابهًا، ولا أرى لماذا سيكون جيلنا قادرا على تغيير أي شيء”. لكن منذ وقت ليس ببعيد، شارك هذا الرجل الثلاثيني في جميع المظاهرات، وبغضب عارم لإسقاط الحكومة.

ثورة ثم تمرّ
علينا العودة إلى 17 أكتوبر 2019 لنعثر على شعلة الثورة التي حركت لبنان. أدى الإعلان عن ضريبة واتساب إلى إشعال النيران في الشوارع: سرعان ما تم إغلاق الطرق، وإحراق الإطارات، وبينما كان الثوار في الساعة الأولى يجوبون الحلبة على دراجاتهم، نمت صفوف المتظاهرين على مرمى البصر. “كانت الثورة بمثابة إعادة امتلاك للفضاء العام. لقد تمت مناقشة الكثير من الموضوعات لأول مرة. لم نفرق بين المطالب السياسية، على صعيد الانتخابات والإصلاحات، والمطالب الاجتماعية، من أجل حقوق المرأة، والعدالة الاجتماعية، والتضامن مع شعوب المنطقة، وضد العنصرية، وضد الطائفية ... وكانت هناك شعارات ومظاهرات ومناظرات حول كل مسائل المجتمع اللبناني”، يشرح زياد ماجد.
«لم يتفق الجميع على نفس الأولويات ونفس المبادئ، لكن اتفق الجميع على ضرورة التغيير وطي صفحة هذه الطبقة السياسية الفاسدة والرديئة”، يتابع الباحث. كان هناك شعور على الأقل بأن أي شيء ممكن، وأن الصراع ضد المسؤولين يمكن أن يستمر، وأنه يمكن إقامة توازن القوى في البلاد، مما يسمح بالإصلاحات، والمشاريع المختلفة، حيث يمكن لكل اتجاه سياسي، وكل حركة، وكل مجموعة، النضال من أجل قيمها وتطلعاتها «.في البداية كانت المفردات مترددة: هل كانت انتفاضة؟ حراك؟ في النهاية، كانت الثورة هي التي فرضت نفسها: ثورة... التقطت الشوارع شعارًا ظهر قبل أربع سنوات خلال أزمة النفايات: “كلهم يعني كلهم”، حتى حزب الله، وحتى الحريري، وحتى عون، كلهم. غير ان الحماس الذي ساد الأسابيع القليلة الأولى تلاشى بسرعة.
«كانت هناك مرحلة أولى من خيبة الأمل بدأت مع فيروس كورونا، الذي كان فيروساً مضاداً للثورة. بإجباره الناس على البقاء في البيوت، ومنعهم من التظاهر. هذه هي جرعة الاوكسجين الأولى التي استفادت منها الطبقة السياسية اللبنانية، كما يشير كريم إميل بيطار، عميد معهد العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف في بيروت. وكما بعد كل ثورة، بدأت ثورة مضادة. تم زعزعة استقرار أحزاب الاستبلشمنت، ولم يعد بإمكان السياسيين الخروج إلى المطاعم دون أن يتعرضوا للسب، لكنهم أعادوا تدريجياً بناء قاعدة اجتماعية مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، وازدياد إفقار الناس «.
كان انفجار الميناء بمثابة الصدمة، فبتدميره للعاصمة، حطم الآمال في غد أكثر حرية. بالطبع، الفقر أرض خصبة للزبائنية، والأحزاب التقليدية تعرف ذلك، والتي استطاعت أن تعيد بعض مؤيديها السابقين إلى أحضانها بمنح انتهازية.

العودة إلى حظيرة الطائفة
مع استمرار انخفاض العملة المحلية بشكل حاد، تجد المنتجات المدعومة من الحكومة صعوبة في تلبية الاحتياجات الأساسية للعائلات اللبنانية -ارتفع سعر المواد الغذائية بمعدل 700 بالمائة خلال العامين الماضيين -كان حزب الله من أوائل الأطراف التي نظمت استعادة خزانها الانتخابي: في شهر أبريل الماضي، قدم للمتعاطفين معه بطاقتي دفع، بطاقة النور وبطاقة سجاد، تتيح شراء المنتجات الاستهلاكية، أو تمويل العيادات الطبية.
و”رغم أن الكثير من الناس يرفضون النظام على الصعيد الوطني، لا يزال هناك الكثير من ‘العقول الأسيرة’، اناس يواصلون اتّباع الميليشيات التقليدية وزعماء الاستبلشمنت السياسي”، يعلق كريم بيطار. شيئًا فشيئًا، عادت التوترات الطائفية التي اعتقد الثوار أنهم استطاعوا التخلص منها. وفي حين كانت الحبال المخصصة لأعناق السياسيين قد رسمت على الجدران وعلّقت على الجسور في أعقاب 4 أغسطس، فإن العوز فرض الولاء الحزبي. هذا الماروني يعفي الرئيس عون متهما غير الأكفاء من حوله، وهذا السني يبرر لرئيس الوزراء السابق الحريري بالضغوط التي يتعرض لها، وهذا الشيعي الذي ينقذ نصر الله مجددا باعتباره الحصن الواقي الأخير للطائفة ...
آية تقي الدين، سورية تعيش في حي رأس النبع الشيعي، والمعروف بدعمه التاريخي لحركة أمل، شاهدت تطور جيرانها في الأشهر الأخيرة: “الجميع يائس للغاية حتى لو ظلوا مخلصين لحركة أمل، لم يعودوا يهتمون بأي شيء، لأنهم جميعًا متعبون: يلهثون وراء الكهرباء، ونقل الأطفال إلى المدرسة، وتامين العيش اليومي فقط... ان الشيء الذي دعموه أكثر دمّر حياتهم «.

فقر مزمن
من الشمال إلى الجنوب، نلاحظ أن العديد من أغطية الصرف الصحي قد أزيلت من الطرقات: حيث يقوم تجار الخردة الموسميين باقتلاعها لإعادة بيعها، بحيث يتم صهرها لتعثر على استخدام وحياة ثانية. أصبحت الوظائف الموازية، التي كانت عديدة قبل الأزمة، أكثر وضوحا، وهي تفضح فقر السكان المتزايد. من لمّاعي الأحذية الذين يسيرون في شارع غورو، إلى جامعي القمامة الذين يغوصون في مكبات القمامة النادرة، مرورا بأولئك الذين فقدوا وظائفهم ويرقبون غروب الشمس من كرسي بلاستيكي مزروع على الرصيف، ويبدو كأنهم جميعًا ينتظرون نهاية فيلم طويل جدًا، فيلم كارثي يفتقر للحركة.
«إنه نظام كامل ينهار، مما يترك مجالًا للشعور بأن البلاد تحتضر، وأننا عاجزون على إنقاذها. هذا الشعور بالعجز محبط ومريع. الجميع يقول إن الطبقة السياسية تتكون من لصوص، لكنهم أيضا مجرمون، واضافة الى ذلك لا كفاءة لهم، وهذا أكثر إذلالًا. فرغم رداءتهم، ورغم مستواهم الذي يحتقره معظم اللبنانيين، إلا أنهم مع ذلك يحكمون، ومع ذلك يظلون في السلطة، ومع ذلك ينهبون، ومع ذلك يهينوننا”، ينفجر زياد ماجد.
بينما يعيش 55 بالمائة من اللبنانيين تحت خط الفقر، غرق 23 بالمائة في فقر مدقع، وفقًا لأحدث أرقام خطة لبنان للاستجابة للأزمة، والتي يعود تاريخها إلى مايو 2020. هذا دون احتساب جميع السكان المهاجرين، الذين يمثلون ما يقرب من ثلث مجموع السكان في البلاد، ويواجهون تمييزًا متزايدًا. يُتهم السوريون والفلسطينيون بارتكاب جميع الشرور، إلى جانب عاملات المنازل من آسيا وإفريقيا، وهم من أوائل المتلقين للعنف الاجتماعي والاقتصادي الذي يضغط على البلاد.إذا كانت هناك مشكلة في الكهرباء فهي بسبب السوريين، وإذا انعدم الشغل والوظائف، فذلك بسبب السوريين، وإذا تبين أن المجرم سوري، فإن جنسيته هي أول ما تعلمه من الأخبار. يقول مصطفى، الذي غادر منبج إلى بيروت بعد سنوات قليلة من بدء الحرب في سوريا، “يمكنك أن تعمل من أجل اللبنانيين مثل العبد، وعند أدنى مشكلة، سيجدون أي ذريعة للتخلص منك”. تم فصل هذا الرجل البالغ من العمر 27 عامًا، وعمل بموجب عقد غير قانوني لمنظمة غير حكومية محلية، ثلاث مرات: نقص التمويل للمشاريع، الثورة، وجائحة كوفيد -19. ان عدم الاستقرار المزمن في البلاد يجعل من المستحيل التخطيط على المدى الطويل، حيث تتعرض الحياة اليومية لمخاطر متعددة. ويحاول مصطفى اليوم مغادرة البلاد ليستقر في فرنسا ويواصل دراسته.
ولئن كانت الغالبية العظمى من اللاجئين في لبنان يرغبون في العودة إلى بلدانهم الأصلية (80 بالمائة عام 2019)، فنادرًا ما يتم استيفاء شروط إمكانية هذه العودة. ورغم ان الحكومة اللبنانية تقوم منذ سنوات بحملة من أجل عودة المهاجرين السوريين على أساس أن الحرب قد انتهت، تظل سوريا حقل ألغام لأولئك الذين اضطروا إلى الفرار من البلاد، وتنتظرهم المخابرات أو الفقر.

الانطلاق في بداية جديدة
لكن مغادرة لبنان ليست مهمة سهلة لأحد. رغم هجرة الأدمغة واختصاصات مختلفة من العمال الذين يتمكنون من العثور على عمل خارج غابات الأرز، لا يزال الكثيرون مترددين في مغادرة البلاد وترك الاباء وراءهم. “كثيرا ما أقارن هذا بمتلازمة ستوكهولم، أنت في علاقة مسمومة، لكن لا يمكنك الرحيل. بالنسبة لي، بيروت هي كذلك. من ناحية، كنت خائفة من أن أجد نفسي في بلد لا يفهم فيه أحد ما حدث، ومن ناحية أخرى، خفت أن أظل أشعر انني بلا هوية، وأن أذهب إلى مكان حيث يتعين عليّ إثبات أنني لست إرهابية حتى وان كنت عربية، وأنني أتيت للعمل بشكل قانوني ... لم يكن لدي القوة لخوض كل هذا. كنت بحاجة فقط لأن أكون في مكان ما مألوفًا لي، حتى لو كان يؤلمني”، تأسف ميلاني داغر. واليوم، بعد أن سافر كل المحيطين بها، قررت هي نفسها مغادرة البلاد قريبًا.
من جانبه، تمكن أنطوني سمعان من الحصول على إقامة طيلة خمس سنوات في لندن، بعد التقدم بطلب للحصول على تأشيرة المواهب العالمية. في بداية شهر يونيو، اصطحب كلبه إلى الطائرة، وغادر لبنان براحة ممزوجة بمرارة: “أنا، عمري 35 سنة، أريد أن أعيش بدون انفجار، مرض، حادث. ربما لا يزال أمامي خمسة وأربعون عامًا من العمر، ولا أريد أن أمضيها في مثل هذه الظروف. لقد قدم لنا لبنان الكثير من الأشياء الجميلة، لكنه لم يعد يمنحنا فرصة للعيش أو رؤية التقدم”. يعيش مع أبناء عمومته ويبحث عن وظيفة، يقول مبتسما: “أنا سعيد جدًا الآن، لقد نسيت أنني يمكن أن أكون سعيدًا، فقط أعيش حياة طبيعية، أسير في الحديقة، وأنا سعيد، ليس لدي وظيفة وأنا سعيد: كل هذا ليس خطيرا، طالما أنني خرجت من البلاد، فلا بأس».
مثل الكثير من الشباب الذين بدوا مصممين على البقاء بعد كارثة 4 أغسطس لإعادة بناء بلد جديد يتخلص أخيرًا من طبقته السياسية المشبوهة، لم تنجو آماله الأخيرة من عام من العنف الصامت. وعلى شفاه الجميع، نجد المقارنة مع الحرب الأهلية التي تعود: إذا صمت السلاح في الوقت الحالي، فإن الحرب استنزاف اقتصادي ونفسي. مرة أخرى، يعود شبح الإفلات من العقاب ليطارد اللبنانيين: بينما تطالب عائلات الضحايا بالعدالة، ويحارب طارق بيطار، آخر قاضٍ مسؤول عن التحقيق في الانفجار، من أجل رفع الحصانة البرلمانية عن ثلاثة وزراء سابقين، لم يتم إعطاء أي إجابة، ولم يتم تحديد الجاني.مع اقتراب الرابع من أغسطس، أصبحت المدينة ممزقة بين الحمى والسبات... الصدمات تستيقظ، لكن الكراهية أصبحت خامدة. وبنظرة قلقة يهمس الناس، “إنها ستنفجر».