رئيس الدولة والرئيس المصري يبحثان العلاقات الأخوية والتطورات الإقليمية
يتنزل في استمرارية العنف الاستعماري
ترامب لا يختفي اليوم: إنه هنا منذ قرون...!
-- ستخطئ أوروبا إذا نظرت إلى الولايات المتحدة بازدراء، واعتقــدت أنهـــا محصّنــــة من عللهـا
-- واقع 6 يناير هو أن المتمردين في الكابيتول هيل بعيدون كل البعد عن كونهـم صعاليـك
-- إذا كان ترامب وحشًا أمريكيًا، فإن هذا الوحش قد صُنـع في أوروبــا منـذ القـرن الخامس عشـر
-- إن ما يمثله ترامب جاء إلى الأمريكيتين مع الاستعمار الأوروبي وكان هناك عند مهبط سفن الرقيق ومزاد العبيد
-- دونالد ترامب هو النسل البعيد ولكن الجدير بالعظيم كولبير
بعيدًا عن الضجيج والغضب، وتحت زبد الصور المنشورة بواسطة الشبكات الاجتماعية والقنوات الإخبارية، ما الذي حدث حقيقة يوم 6 يناير في واشنطن العاصمة؟ بالنسبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ليس هناك شك: بمهاجمة مبنى الكابيتول من أجل وقف التصديق على انتخاب جو بايدن، غزا الترامبيون “المعبد العلماني للديمقراطية الأمريكية”. ومن مارين لوبان، التي كانت مترددة ومتأخرة، إلى جان لوك ميلينشون، كان رد فعل الطبقة السياسية الفرنسية بالإجماع تقريبًا، وباستخدام نفس شبكة القراءة، يشبه رئيس الدولة. شيكة القراءة هذه ليست غير دقيقة، لكنها سطحية... وسأعود إلى ذلك. ولكن قبل ذلك، من المفيد فحص العديد من التفسيرات والتصورات الشائعة في فرنسا. سوء الفهم الأول، وهو نموذجي للعمى السياسي الذي اعتاد عليه مؤلفو التعاليق عندنا: الانقلاب من قبل فيالق “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” هو أشبه بانتفاضة شعبية، وتمرد عادل، وثورة ضد التزوير الانتخابي الذي منع دونالد ترامب من ان يعاد انتخابه. يحظى هذا التحليل بشعبية كبيرة لدى اليمين المتطرف، ولا يستند الى أي شيء، باستثناء الرغبة المحاكية في رؤية الشعبوية على النمط الفرنسي تتوج في الانتخابات الرئاسية: استحضار “الربيع الأمريكي” بشكل غنائي، ادانة مؤامرة الدولة العميقة وغافا ضد حرية التعبير والديمقراطية. في النهاية، النظر إلى ترامب من خلال عيون شيمين.
بالنسبة للسديم المحافظ المتطرف، فإن ترامب ليس هو المحرض على اضطراب 6 يناير، ولكنه ضحية قسوة التقدميين الذين يهدفون إلى إذلال أولئك المهمشين الذين صوتوا له. لم يخسر انتخابات نوفمبر، بل سرقت منه. سجله بعد أربع سنوات في السلطة مثير للإعجاب. سيذكره التاريخ كشهيد. وإذا كانت هذه السردية تنبع غالبًا من نفس الجهة، فإن أسطورة الانحدار الاجتماعي التي تميز علم اجتماع الناخبين الترامبيين يتم نقلها في فرنسا بأصوات أكثر تنوعًا، يقدمون على انهم خبراء في السياسة الأمريكية، قريبين من ماكرون بالأمس أو حتى اليوم.
بالنسبة إلى لورانس هاييم، الذي تتمثل صحافته الميدانية في ركوب سيارة أجرة مع أحد الأشخاص المسعورين في مبنى الكابيتول، “فإن مفردات هؤلاء الأشخاص هي عبارة عن “سترات صفراء”، لطبقة وسطى لم تعد تتحمّل بعد الآن”، غضب الخاسرين من العولمة، وقنبلة موقوتة للديمقراطيات الليبرالية؟ “أسطورة السلب العنصري”، تجيب سيلفي لوران في بحثها عن أمريكا الترامبية، البيض المساكين.
ووفقًا لما ذكره لوران أوتافي في مقال عن الكتاب في ماريان، فإن هذا “يشير إلى تدهور المدارس الكبرى والجامعات المرموقة، التي ينخرها التفاضل سواء كان “عنصريا” أو “جنسانيا”، وفي داخله مجموعة من الهوامش والمفاهيم السخيفة تكفي لإجراء “دراسة علمية».
كيف يمكن أن يكون مثل هذا البحث مناسبًا بما أنها يتنزّل في عملية الأمركة هذه التي تلحق ضررًا كبيرًا بالحياة الفكرية والجامعية الفرنسية؟
الآليات العميقة للحدث
إن حقيقة 6 يناير، رغما عن الخبراء في الشعبوية ومؤيدي الاستثناء الفرنسي، هي أن المتمردين في الكابيتول هيل بعيدون كل البعد عن كونهم صعاليك جاؤوا لمحاسبة لوردات قساة ملتحفين بامتيازاتهم: رجل أعمال، كادر في شركة تأمين، مالك طائرة خاصة، عاشق الشمبانيا، مسؤول محلي منتخب، أو ضابط سابق، ملامحهم الاجتماعية والمهنية لا تتناسب بشكل جيد مع كليشيهات شعب صغير ضحية نخبة تقدمية وكوسموبوليتية.
ما يشترك فيه مشاة هذه الأرمادا: النقمة على اعتقالهم والعقوبات التي سيتكبّدونها؛ وقناعتهم بأنهم قاموا بواجبهم فقط، وبالتالي يستحقون العفو من ترامب قبل مغادرته. كيف نسميهم إذن؟ المتظاهرون؟ المتمردون؟ الإرهابيون المحليون؟ الفاشيون الجدد؟ بين الرؤية التبسيطية التي ترفض التعامل بجدية مع مجموعة من الحمقى انحرف تشويشهم وتجاوز حدّه، وبين النسخة المأساوية التي ترى ان الديمقراطية الأمريكية ترنحت، فإن طيف النعوت التي استخدمتها وسائل الإعلام واسعا لكنه لا يسمح لنا بفهم سببيّة ما حدث.
إن حقيقة 6 يناير، بعيدًا عن صورة المظاهرة غير المنظمة، أو قطاع الطرق الودودين وغير العدوانيين، أو المغفلين الذين داسوا عفويا على رموز للسلطة بعد خطاب جذاب لقائدهم الكاريزمي، هو أن الشرطة فتحت الأبواب لمثيري الشغب قبل ان يتحولوا الى حرس شرف لهم في أروقة مبنى الكابيتول والتقاط صور سيلفي معهم. لقد علمت أجهزة المخابرات أن الهجوم كان قيد التحضير: مواقع اليمين المتطرف تحدثت عنه علانية لأسابيع. وقد تم التخطيط لكل شيء، بما في ذلك سلبية الشرطة، والصمت المتواطئ للمسؤولين المحليين، والتأخير في نشر الحرس الوطني.
وحتى ان كان صادما ولافتا للنظر، فإن هذا التواطؤ مع مجموعات صغيرة معادية للسامية ومتآمرية ونازية جديدة، لا يكون سببا للدهشة الا إذا تجاهلنا العلاقة العضوية التي حافظت عليها أيديولوجية تفوق العرق الابيض منذ فترة طويلة، كما أبرزها مسلسل “الحراس”، مع الشرطة والجيش الأمريكيين. ان السيناريو الكرنفالي للمعركة الأخيرة تحول إلى انتفاضة، هو طعم. بهدف إخفاء الآليات العميقة للحدث، الذي نظمته قوة عمرها قرون أقدم بكثير من الديمقراطية الأمريكية العزيزة على إيمانويل ماكرون.
استمرار العنف الاستعماري
في السادس من يناير من هذا العام، ما تم الكشف عنه في وضح النهار هو فقط النظام الأبيض الذي يتحدث عنه المؤرخ أوريليا ميشيل. هذا النظام، الذي سبق ولادة الولايات المتحدة في أمريكا الشمالية، أصبح مرئيًا أيضًا في 25 مايو 2020، عندما نُشر فيديو وفاة جورج فلويد، الذي خنقه ضابط الشرطة ديريك شوفين، ويتجسد كلما يرتكب مسؤول عن إنفاذ القانون عملاً من أعمال العنف غير المشروع أو غير المتناسب ضد شخص غير أبيض.
ان العلم الكونفدرالي، والمشنقة الجاهزة للاستخدام: شعارات ورموز خاصة بنظام الهيمنة والاضطهاد، الذي كان لا يزال منصوصًا عليه في قانون الولايات الجنوبية، بعد مائة عام من الحرب الأهلية، عُرضت كقطع أثرية لأمريكا العظمى التي التزم ترامب بإحيائها. وفي مواجهة هذه اللباقة، التي تغاضت عنها الشرطة، هل حقا من الضروري التأكيد على الاختلاف في المعاملة مع الجهاز الذي استقبل مظاهرات حركة حياة السود مهمة، في بداية يونيو، على درجات نفس الكابيتول؟ هل كان يجب أن نؤكد مرة أخرى على التناقض بين “قمع” الشرطة للجماعات المسلحة المجهزة لاختطاف الرهائن أو الاغتيالات، والرقابة التي تخضع لها هيئات غير البيض في الولايات المتحدة؟
في كثير من الأحيان، نقوم بمقارنات تاريخية للفهم. ولكن، بدلاً من توضيح مسرح الجريمة، فإن الإشارات المتعالمة إلى كيس روما والتشبيه الأرنولدي مع ليلة الكريستال، من اثاره تشويش حقيقة اللحظة، التي أدركتها بقوة ودقة أكبر محاكاة ساخرة لهاملتون على تيك توك.
أن “ما حدث اليوم في واشنطن العاصمة ليس أمريكا”، أكد إيمانويل ماكرون باللغة الإنجليزية في النص. إنه عكس ذلك تمامًا: ما حدث في 6 يناير يسمح لنا برؤية، ليس أمريكا، بل القوة التي تخيّم على التربة الأمريكية منذ خمسة قرون وهي متأصلة في الحمض النووي للولايات المتحدة. - حتى وان كان لا يمكن اختزال هذا الاخير في هذا البعد الوحيد، كما أظهر انتخاب رافائيل وارنوك وجون أوسوف، وهما، على التوالي، أول سيناتورين من السود واليهود في تاريخ جورجيا.
لا يلطخ ترامب التاريخ المجيد لما يسمى بأعظم ديمقراطية في العالم، كما لا يشكل الانقلابيون استثناءً متطرفًا أو راديكاليًا لثقافة ديمقراطية يحكمها حوار الاعتدال والحزبين: كلهم يتنزلون في استمرارية العنف الاستعماري الذي، لئن أصبح متكتما أكثر، فانه لم يتوقف ابدا عن كونه القاعدة.
ان هذه الاستدامة هي التي نسي المسؤولون المنتخبون من الحزبين، الذين صُدموا بتحولهم إلى ضحايا، نسوا ذكرها في مناقشاتهم في 13 يناير، قبل التصويت على لائحة الاتهام الثانية ضد ترامب. الا ان نشر 25 ألف جندي في واشنطن العاصمة، وهي مدينة محاصرة في الأسبوعين اللذين سبقا تنصيب جو بايدن، أعاد عنف التاريخ إلى قلب المشهد السياسي، مذكراً إيانا بان الحرب الأهلية، بمعنى ما، لم تنته في أبوماتوكس في التاسع من أبريل 1865.
سكرة الإفلات من العقاب
مقتبسًا من عالم الاجتماع ستيوارت هول –”أنا السكّر الموجود في قاع فنجان شايهم ... سكّر المزارع الذي عفّن أسنان، تلك الأجيال من الأطفال الإنجليز” -يمكننا القول إن ترامب هو جلد السوط، وعقدة الحبل، ومعدن الرصاص الذي اخترق لحم أجيال من السود والهنود الحمر. ان ما يمثله ترامب جاء إلى الأمريكيتين مع الاستعمار الأوروبي. هذا الشيء كان هناك عند مهبط سفن الرقيق ومزاد العبيد.
لقد قام بمسح المزارع لمراقبة عمل يده العاملة، وطارد العبيد السمر في الغابات والمستنقعات، وعاقب وعذّب واغتصب وأعدم باسم الحضارة والأناجيل. إنه كو كلوكس كلان، ولكنه أيضًا فرقة باكستون بويز في بنسلفانيا، وأندرو جاكسون، ذلك السلف البعيد في البيت الأبيض الذي يعشقه ترامب ويطلق عليه لقب قاتل الهنود الحمر، كراهية جيم كرو تجري في عروقه، ويمكن التعرف على تكشيرته على وجوه قتلة تولسا ومن سحلوا في دولوث.
إن العنصرية المنهجية، التي يعتبر الأمريكيون الأفارقة ضحاياها الرئيسيين اليوم قد دنست الأرض المقدسة للاكوتا من اجل نحت جبل رشمور هناك. وإلى جانب تفوق العرق الأبيض، فإنها تقوم على فكرة أن أمريكا كانت أرضًا بلا مالك -وهي العقيدة العزيزة على مستوطني القوى الأوروبية والنازيين عند استعمارهم لأوروبا الشرقية. قال ترامب لقواته بفخر في 6 يناير، “أنتم الشعب الحقيقي... أنتم من بنوا أمتنا العظيمة “. فهل يمكننا انتزاع الاصل الكولونيالي والعنصري من هذا الخطاب دون تدمير الولايات المتحدة؟
لقد تجنّب الديموقراطيون والجناح الشرعي للحزب الجمهوري، بتركيزهم على مسؤولية ترامب الفردية عن التحريض على التمرد، تجنبوا السؤال. إذا كان من المنطقي أن يجيب الرئيس على أفعاله، وإذا كان من الحكمة وضع سابقة من شأنها أن تثني خلفاءه عن الاستسلام لنفس سكرة الإفلات من العقاب، وإذا كان، من جهة اخرى، عدم أهليته للانتخابات سيمثل مكسبا سياسيا واضحا، فإن طرد الرجل ليس له تأثير على النظام الذي هو مجرد انبعاث منه.
خطاب الأخطاء المشتركة
للقضاء على النظام الأبيض في الولايات المتحدة، يجب أن نبدأ بمعرفة تاريخه -والذي يرقى إلى تأسيس علم آثار بالنظر الى المحو المنهجي الذي جعله غير مرئي وغير مدرك في أعين العديد من الأجيال. كيف تم تنفيذ هذا النسيان؟ يتردد صدى أحد أركانه مباشرة في شعار “أوقفوا السرقة”، الذي أصبح عقيدة ترامب منذ 3 نوفمبر: أسطورة “القضية المفقودة”، التي ولدت بعد الحرب الأهلية، والتي أحياها الجمهوري تيد كروز من خلال إشارته إلى الانتخابات الرئاسية لعام 1876.
ووفق إعادة كتابة التاريخ هذه، فان الجنوب حارب ليس من أجل الحفاظ على العبودية والمصالح الاقتصادية للمزارعين، ولكن للدفاع عن أسلوب حياته والحقوق الدستورية لولاياته -الدفاع عن النفس، بعبارة أخرى. وبعيدًا عن كونه حنينًا هامشيًا، انتشر خيال “القضية المفقودة” في الثقافة الشعبية، من ولادة أمة، ومن تقريظ العنصرية من قبل د. دبليو. جريفيث، إلى ذهب مع الريح، قصيدة رومانسية لمارجريت ميتشل.
وكما توضح مؤرخة الحرب الأهلية الأمريكية كارولين جاني، ترسخت الأساطير الجنوبية بنعومة، سواء بتبخرها او بالتطبيع معها على حد سواء. وهكذا أصبحت، “الليلة التي أسقطوا فيها ديكسي القديمة”، وهو عنوان صدر عام 1969 وأعاد غناءه جوان بايز، أصبحت أحد أعظم نجاحات فرقة ذي باند. وإذا كانت نشأة ومعنى هذه الأغنية، التي كتبها كندي، معقدًا، فإن النجاح الذي حققته، والمكانة التي تحتلها في اللاوعي الجماعي، يلقيان الضوء على مراجعة دائمة وثابتة، مصدر قوتها في انها تنتقل دون الالتفات إلى رسالتها.
يفسر هذا العمى، على سبيل المثال، لماذا ظلت مذبحة عام 1921 في تولسا حتى وقت قريب تعرّف وتصنف على ويكيبيديا في فئة “أعمال الشغب العرقية”، أو كيف تتحدث الشابة نانسي ميس، النائب عن الجمهوريين المنتخبة من ساوث كارولينا، عن “العنف من هذا الجانب وذاك” في خطابها الأول في مجلس النواب.
إن خطاب الأخطاء المشتركة، الذي يبدو ظاهريا معقولاً ومريحًا، هو استراتيجية قديمة قدم الولايات المتحدة لإخفاء العنف الأحادي الجانب الذي خرج منه هذا البلد: العنف الذي تمارسه الشرطة وأيضًا السكان البيض، الذين أصيبوا بالذعر من فكرة خسارة تفوقهم، ومن رؤية السكان الآخرين -السكان الأصليين، السود، اللاتينوس، الآسيويين -يكتسبون مكانة متساوية.
يا له من رعب، سمعناه في الأيام الأخيرة في فرنسا وأماكن أخرى في أوروبا. ومع ذلك، سنكون مخطئين تمامًا إذا نظرنا إلى الولايات المتحدة بازدراء، واعتقدنا أننا محصنون من عللها: إذا كان ترامب وحشًا أمريكيًا، فإن هذا الوحش قد صُنع فعلا في أوروبا منذ القرن الخامس عشر.
وكما أوضح جيمس بالدوين في التلفزيون الفرنسي عام 1976، “لم تنشأ فكرة تفوق البيض هناك “في أمريكا” ؛ ولدت هنا “في أوروبا “. نحن الذين تعلمنا التفكير في العنصرية كشيء أجنبي ينتمي إلى الماضي، محميّون خلف الدرع الفكري للكونية والتنوير، ها نحن مدعوون من قبل الأحداث والاخبار الى إعادة النظر في تاريخنا.
وخلافًا للاعتقاد السائد، لا تُظهر لنا الولايات المتحدة ما سيحدث في أوروبا، في شكل استيراد بعد بضع سنوات: إنها نتيجة وتجسيد مفرط للمشروع الإمبريالي الأوروبي -نوع من فرانكشتاين الجيوسياسي الذي لا يملك أي شخص ولا أي شيء السيطرة عليه.
كبش فداء عالمي
غاضبًا من أن لويس الثالث عشر لم يكن مهتمًا بما فيه الكفاية بالأمريكيتين وبالقوة البحرية لفرنسا، في وقت كانت فيه شركة المائة شريك تسعى إلى تعزيز المواقع الفرنسية في كندا، أعرب ريشيليو عن أسفه: “غالبًا ما تكون لدموع ملوكنا طعم البحر المالح الذي تجاهلوه “. وبعد نصف قرن، وبفضل كولبير، لم تعد المملكة تدير ظهرها للبحر المفتوح. لقد تقدم الاستعمار في الريف، وهو يتقدم على طول نهر المسيسيبي، بينما يوفر الكود بلاك إطارًا قانونيًا لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي والرق. هل كان يمكن للثورة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن أن يسقطا مخلوق النظام القديم هذا؟
الأمر ليس كذلك. أولاً، لأنه إذا تم إلغاء العبودية مرتين، عام 1794 ثم عام 1848، فذلك بسبب إعادة العبودية، التي قررها بونابرت عام 1802. ثم، لأن الاغتصاب الذي فرض النظام الأبيض في الأمريكيتين استمر في ظل الجمهوريتين الثالثة والرابعة، في إفريقيا والمحيط الهندي وآسيا، ثم في ظل الخامسة، فيما وراء البحار وكذلك في فرنسا.
إذا ألقينا باللوم على ترامب كثيرًا، فهذا لأنه، في العمق، تعبير عن ضميرنا السيئ. إن الكراهية والغضب والابتذال التي تظهر منه هو وجنوده الصغار تفجر فقاعة يوتوبيا ما بعد العنصرية التي نريد الاقامة فيها، على سبيل المثال، عن طريق إزالة كلمة العرق من الدستور -وكأن هذه كانت الحقيقة البيولوجية التي رآها هتلر فيه وليس نظامًا للسلطة، وهي بنية اجتماعية-سياسية تتخلل رؤيتنا للعالم وأساليب عيشنا.
وإذا أصبح ترامب كبش فداء عالمي، فذلك لأنه يذكرنا بأن مناهضة العنصرية ليست ذاك الشيء غير المجدي والخطير، تلك النزعة الانفصالية التي نريد أن نراها فيها؛ لأنه يمنعنا من إبعاد العنصرية مايدن أوروبا. إذا نظرنا اليه من فرنسا، فإن الرابط الرمزي الذي يوحده مع كبار شخصيات الاستعمار يعيدنا إلى التاريخ العابر للأطلسي، ويمنعنا من إدامة أسطورة البلد الملجأ والملاذ لضحايا العنصرية، مع تجاهل آثار الاستعمار.
ان ترامب هو النسل البعيد ولكن يليق بكولبير العظيم: إذا كانت هذه القرابة التاريخية تزعج، فمن المؤكد أنها ليست شيئًا سيئًا. إن تذكّر أسلافنا، وإخراج سلالة العنصرية العالمية من الظل، هي الخطوة الأولى لتفكيك النظام الأبيض الذي لا يزال موجودًا على جانبي الأطلسي.
وعلى عكس ما نسمعه بانتظام، مؤخرًا عندما يقدم أحد نجوم البوب بكلماته هدفًا سهلاً للاتهامات المعتادة حول موضوع التنافس على دور الضحية والندم، فالمسألة لا تتعلق بطلب الاعتذار عن جريمة، ولكن لفتح أعيننا أخيرًا على الاتجار والعبودية كجريمة ضد الإنسانية.
انتهت ولاية ترامب المأساوية الأربعاء. وهذه النتيجة تدعونا إلى الخروج من الانكار المتمثل في التلويح بحجة الاستيراد الأمريكي في كل مرة يتم فيها تحديد بقايا استعمارية. ولكن، في الولايات المتحدة، كما في فرنسا، سيتطلب الأمر أكثر بكثير من مجرد انتخابات وتنويع السمات في المناصب الرئيسية لوضع حد لنظام الهيمنة الذي كان رقم 45 هو صورته الرمزية المشؤومة.
روائي، مدرس في كلية برين ماور، بنسلفانيا. كتب عن الإرهاب “الدعوة، الفرنسية” والاغتصاب الاستعماري “دم الرجال الأسود”، ومعد أفلام وثائقية.
-- واقع 6 يناير هو أن المتمردين في الكابيتول هيل بعيدون كل البعد عن كونهـم صعاليـك
-- إذا كان ترامب وحشًا أمريكيًا، فإن هذا الوحش قد صُنـع في أوروبــا منـذ القـرن الخامس عشـر
-- إن ما يمثله ترامب جاء إلى الأمريكيتين مع الاستعمار الأوروبي وكان هناك عند مهبط سفن الرقيق ومزاد العبيد
-- دونالد ترامب هو النسل البعيد ولكن الجدير بالعظيم كولبير
بعيدًا عن الضجيج والغضب، وتحت زبد الصور المنشورة بواسطة الشبكات الاجتماعية والقنوات الإخبارية، ما الذي حدث حقيقة يوم 6 يناير في واشنطن العاصمة؟ بالنسبة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ليس هناك شك: بمهاجمة مبنى الكابيتول من أجل وقف التصديق على انتخاب جو بايدن، غزا الترامبيون “المعبد العلماني للديمقراطية الأمريكية”. ومن مارين لوبان، التي كانت مترددة ومتأخرة، إلى جان لوك ميلينشون، كان رد فعل الطبقة السياسية الفرنسية بالإجماع تقريبًا، وباستخدام نفس شبكة القراءة، يشبه رئيس الدولة. شيكة القراءة هذه ليست غير دقيقة، لكنها سطحية... وسأعود إلى ذلك. ولكن قبل ذلك، من المفيد فحص العديد من التفسيرات والتصورات الشائعة في فرنسا. سوء الفهم الأول، وهو نموذجي للعمى السياسي الذي اعتاد عليه مؤلفو التعاليق عندنا: الانقلاب من قبل فيالق “لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” هو أشبه بانتفاضة شعبية، وتمرد عادل، وثورة ضد التزوير الانتخابي الذي منع دونالد ترامب من ان يعاد انتخابه. يحظى هذا التحليل بشعبية كبيرة لدى اليمين المتطرف، ولا يستند الى أي شيء، باستثناء الرغبة المحاكية في رؤية الشعبوية على النمط الفرنسي تتوج في الانتخابات الرئاسية: استحضار “الربيع الأمريكي” بشكل غنائي، ادانة مؤامرة الدولة العميقة وغافا ضد حرية التعبير والديمقراطية. في النهاية، النظر إلى ترامب من خلال عيون شيمين.
بالنسبة للسديم المحافظ المتطرف، فإن ترامب ليس هو المحرض على اضطراب 6 يناير، ولكنه ضحية قسوة التقدميين الذين يهدفون إلى إذلال أولئك المهمشين الذين صوتوا له. لم يخسر انتخابات نوفمبر، بل سرقت منه. سجله بعد أربع سنوات في السلطة مثير للإعجاب. سيذكره التاريخ كشهيد. وإذا كانت هذه السردية تنبع غالبًا من نفس الجهة، فإن أسطورة الانحدار الاجتماعي التي تميز علم اجتماع الناخبين الترامبيين يتم نقلها في فرنسا بأصوات أكثر تنوعًا، يقدمون على انهم خبراء في السياسة الأمريكية، قريبين من ماكرون بالأمس أو حتى اليوم.
بالنسبة إلى لورانس هاييم، الذي تتمثل صحافته الميدانية في ركوب سيارة أجرة مع أحد الأشخاص المسعورين في مبنى الكابيتول، “فإن مفردات هؤلاء الأشخاص هي عبارة عن “سترات صفراء”، لطبقة وسطى لم تعد تتحمّل بعد الآن”، غضب الخاسرين من العولمة، وقنبلة موقوتة للديمقراطيات الليبرالية؟ “أسطورة السلب العنصري”، تجيب سيلفي لوران في بحثها عن أمريكا الترامبية، البيض المساكين.
ووفقًا لما ذكره لوران أوتافي في مقال عن الكتاب في ماريان، فإن هذا “يشير إلى تدهور المدارس الكبرى والجامعات المرموقة، التي ينخرها التفاضل سواء كان “عنصريا” أو “جنسانيا”، وفي داخله مجموعة من الهوامش والمفاهيم السخيفة تكفي لإجراء “دراسة علمية».
كيف يمكن أن يكون مثل هذا البحث مناسبًا بما أنها يتنزّل في عملية الأمركة هذه التي تلحق ضررًا كبيرًا بالحياة الفكرية والجامعية الفرنسية؟
الآليات العميقة للحدث
إن حقيقة 6 يناير، رغما عن الخبراء في الشعبوية ومؤيدي الاستثناء الفرنسي، هي أن المتمردين في الكابيتول هيل بعيدون كل البعد عن كونهم صعاليك جاؤوا لمحاسبة لوردات قساة ملتحفين بامتيازاتهم: رجل أعمال، كادر في شركة تأمين، مالك طائرة خاصة، عاشق الشمبانيا، مسؤول محلي منتخب، أو ضابط سابق، ملامحهم الاجتماعية والمهنية لا تتناسب بشكل جيد مع كليشيهات شعب صغير ضحية نخبة تقدمية وكوسموبوليتية.
ما يشترك فيه مشاة هذه الأرمادا: النقمة على اعتقالهم والعقوبات التي سيتكبّدونها؛ وقناعتهم بأنهم قاموا بواجبهم فقط، وبالتالي يستحقون العفو من ترامب قبل مغادرته. كيف نسميهم إذن؟ المتظاهرون؟ المتمردون؟ الإرهابيون المحليون؟ الفاشيون الجدد؟ بين الرؤية التبسيطية التي ترفض التعامل بجدية مع مجموعة من الحمقى انحرف تشويشهم وتجاوز حدّه، وبين النسخة المأساوية التي ترى ان الديمقراطية الأمريكية ترنحت، فإن طيف النعوت التي استخدمتها وسائل الإعلام واسعا لكنه لا يسمح لنا بفهم سببيّة ما حدث.
إن حقيقة 6 يناير، بعيدًا عن صورة المظاهرة غير المنظمة، أو قطاع الطرق الودودين وغير العدوانيين، أو المغفلين الذين داسوا عفويا على رموز للسلطة بعد خطاب جذاب لقائدهم الكاريزمي، هو أن الشرطة فتحت الأبواب لمثيري الشغب قبل ان يتحولوا الى حرس شرف لهم في أروقة مبنى الكابيتول والتقاط صور سيلفي معهم. لقد علمت أجهزة المخابرات أن الهجوم كان قيد التحضير: مواقع اليمين المتطرف تحدثت عنه علانية لأسابيع. وقد تم التخطيط لكل شيء، بما في ذلك سلبية الشرطة، والصمت المتواطئ للمسؤولين المحليين، والتأخير في نشر الحرس الوطني.
وحتى ان كان صادما ولافتا للنظر، فإن هذا التواطؤ مع مجموعات صغيرة معادية للسامية ومتآمرية ونازية جديدة، لا يكون سببا للدهشة الا إذا تجاهلنا العلاقة العضوية التي حافظت عليها أيديولوجية تفوق العرق الابيض منذ فترة طويلة، كما أبرزها مسلسل “الحراس”، مع الشرطة والجيش الأمريكيين. ان السيناريو الكرنفالي للمعركة الأخيرة تحول إلى انتفاضة، هو طعم. بهدف إخفاء الآليات العميقة للحدث، الذي نظمته قوة عمرها قرون أقدم بكثير من الديمقراطية الأمريكية العزيزة على إيمانويل ماكرون.
استمرار العنف الاستعماري
في السادس من يناير من هذا العام، ما تم الكشف عنه في وضح النهار هو فقط النظام الأبيض الذي يتحدث عنه المؤرخ أوريليا ميشيل. هذا النظام، الذي سبق ولادة الولايات المتحدة في أمريكا الشمالية، أصبح مرئيًا أيضًا في 25 مايو 2020، عندما نُشر فيديو وفاة جورج فلويد، الذي خنقه ضابط الشرطة ديريك شوفين، ويتجسد كلما يرتكب مسؤول عن إنفاذ القانون عملاً من أعمال العنف غير المشروع أو غير المتناسب ضد شخص غير أبيض.
ان العلم الكونفدرالي، والمشنقة الجاهزة للاستخدام: شعارات ورموز خاصة بنظام الهيمنة والاضطهاد، الذي كان لا يزال منصوصًا عليه في قانون الولايات الجنوبية، بعد مائة عام من الحرب الأهلية، عُرضت كقطع أثرية لأمريكا العظمى التي التزم ترامب بإحيائها. وفي مواجهة هذه اللباقة، التي تغاضت عنها الشرطة، هل حقا من الضروري التأكيد على الاختلاف في المعاملة مع الجهاز الذي استقبل مظاهرات حركة حياة السود مهمة، في بداية يونيو، على درجات نفس الكابيتول؟ هل كان يجب أن نؤكد مرة أخرى على التناقض بين “قمع” الشرطة للجماعات المسلحة المجهزة لاختطاف الرهائن أو الاغتيالات، والرقابة التي تخضع لها هيئات غير البيض في الولايات المتحدة؟
في كثير من الأحيان، نقوم بمقارنات تاريخية للفهم. ولكن، بدلاً من توضيح مسرح الجريمة، فإن الإشارات المتعالمة إلى كيس روما والتشبيه الأرنولدي مع ليلة الكريستال، من اثاره تشويش حقيقة اللحظة، التي أدركتها بقوة ودقة أكبر محاكاة ساخرة لهاملتون على تيك توك.
أن “ما حدث اليوم في واشنطن العاصمة ليس أمريكا”، أكد إيمانويل ماكرون باللغة الإنجليزية في النص. إنه عكس ذلك تمامًا: ما حدث في 6 يناير يسمح لنا برؤية، ليس أمريكا، بل القوة التي تخيّم على التربة الأمريكية منذ خمسة قرون وهي متأصلة في الحمض النووي للولايات المتحدة. - حتى وان كان لا يمكن اختزال هذا الاخير في هذا البعد الوحيد، كما أظهر انتخاب رافائيل وارنوك وجون أوسوف، وهما، على التوالي، أول سيناتورين من السود واليهود في تاريخ جورجيا.
لا يلطخ ترامب التاريخ المجيد لما يسمى بأعظم ديمقراطية في العالم، كما لا يشكل الانقلابيون استثناءً متطرفًا أو راديكاليًا لثقافة ديمقراطية يحكمها حوار الاعتدال والحزبين: كلهم يتنزلون في استمرارية العنف الاستعماري الذي، لئن أصبح متكتما أكثر، فانه لم يتوقف ابدا عن كونه القاعدة.
ان هذه الاستدامة هي التي نسي المسؤولون المنتخبون من الحزبين، الذين صُدموا بتحولهم إلى ضحايا، نسوا ذكرها في مناقشاتهم في 13 يناير، قبل التصويت على لائحة الاتهام الثانية ضد ترامب. الا ان نشر 25 ألف جندي في واشنطن العاصمة، وهي مدينة محاصرة في الأسبوعين اللذين سبقا تنصيب جو بايدن، أعاد عنف التاريخ إلى قلب المشهد السياسي، مذكراً إيانا بان الحرب الأهلية، بمعنى ما، لم تنته في أبوماتوكس في التاسع من أبريل 1865.
سكرة الإفلات من العقاب
مقتبسًا من عالم الاجتماع ستيوارت هول –”أنا السكّر الموجود في قاع فنجان شايهم ... سكّر المزارع الذي عفّن أسنان، تلك الأجيال من الأطفال الإنجليز” -يمكننا القول إن ترامب هو جلد السوط، وعقدة الحبل، ومعدن الرصاص الذي اخترق لحم أجيال من السود والهنود الحمر. ان ما يمثله ترامب جاء إلى الأمريكيتين مع الاستعمار الأوروبي. هذا الشيء كان هناك عند مهبط سفن الرقيق ومزاد العبيد.
لقد قام بمسح المزارع لمراقبة عمل يده العاملة، وطارد العبيد السمر في الغابات والمستنقعات، وعاقب وعذّب واغتصب وأعدم باسم الحضارة والأناجيل. إنه كو كلوكس كلان، ولكنه أيضًا فرقة باكستون بويز في بنسلفانيا، وأندرو جاكسون، ذلك السلف البعيد في البيت الأبيض الذي يعشقه ترامب ويطلق عليه لقب قاتل الهنود الحمر، كراهية جيم كرو تجري في عروقه، ويمكن التعرف على تكشيرته على وجوه قتلة تولسا ومن سحلوا في دولوث.
إن العنصرية المنهجية، التي يعتبر الأمريكيون الأفارقة ضحاياها الرئيسيين اليوم قد دنست الأرض المقدسة للاكوتا من اجل نحت جبل رشمور هناك. وإلى جانب تفوق العرق الأبيض، فإنها تقوم على فكرة أن أمريكا كانت أرضًا بلا مالك -وهي العقيدة العزيزة على مستوطني القوى الأوروبية والنازيين عند استعمارهم لأوروبا الشرقية. قال ترامب لقواته بفخر في 6 يناير، “أنتم الشعب الحقيقي... أنتم من بنوا أمتنا العظيمة “. فهل يمكننا انتزاع الاصل الكولونيالي والعنصري من هذا الخطاب دون تدمير الولايات المتحدة؟
لقد تجنّب الديموقراطيون والجناح الشرعي للحزب الجمهوري، بتركيزهم على مسؤولية ترامب الفردية عن التحريض على التمرد، تجنبوا السؤال. إذا كان من المنطقي أن يجيب الرئيس على أفعاله، وإذا كان من الحكمة وضع سابقة من شأنها أن تثني خلفاءه عن الاستسلام لنفس سكرة الإفلات من العقاب، وإذا كان، من جهة اخرى، عدم أهليته للانتخابات سيمثل مكسبا سياسيا واضحا، فإن طرد الرجل ليس له تأثير على النظام الذي هو مجرد انبعاث منه.
خطاب الأخطاء المشتركة
للقضاء على النظام الأبيض في الولايات المتحدة، يجب أن نبدأ بمعرفة تاريخه -والذي يرقى إلى تأسيس علم آثار بالنظر الى المحو المنهجي الذي جعله غير مرئي وغير مدرك في أعين العديد من الأجيال. كيف تم تنفيذ هذا النسيان؟ يتردد صدى أحد أركانه مباشرة في شعار “أوقفوا السرقة”، الذي أصبح عقيدة ترامب منذ 3 نوفمبر: أسطورة “القضية المفقودة”، التي ولدت بعد الحرب الأهلية، والتي أحياها الجمهوري تيد كروز من خلال إشارته إلى الانتخابات الرئاسية لعام 1876.
ووفق إعادة كتابة التاريخ هذه، فان الجنوب حارب ليس من أجل الحفاظ على العبودية والمصالح الاقتصادية للمزارعين، ولكن للدفاع عن أسلوب حياته والحقوق الدستورية لولاياته -الدفاع عن النفس، بعبارة أخرى. وبعيدًا عن كونه حنينًا هامشيًا، انتشر خيال “القضية المفقودة” في الثقافة الشعبية، من ولادة أمة، ومن تقريظ العنصرية من قبل د. دبليو. جريفيث، إلى ذهب مع الريح، قصيدة رومانسية لمارجريت ميتشل.
وكما توضح مؤرخة الحرب الأهلية الأمريكية كارولين جاني، ترسخت الأساطير الجنوبية بنعومة، سواء بتبخرها او بالتطبيع معها على حد سواء. وهكذا أصبحت، “الليلة التي أسقطوا فيها ديكسي القديمة”، وهو عنوان صدر عام 1969 وأعاد غناءه جوان بايز، أصبحت أحد أعظم نجاحات فرقة ذي باند. وإذا كانت نشأة ومعنى هذه الأغنية، التي كتبها كندي، معقدًا، فإن النجاح الذي حققته، والمكانة التي تحتلها في اللاوعي الجماعي، يلقيان الضوء على مراجعة دائمة وثابتة، مصدر قوتها في انها تنتقل دون الالتفات إلى رسالتها.
يفسر هذا العمى، على سبيل المثال، لماذا ظلت مذبحة عام 1921 في تولسا حتى وقت قريب تعرّف وتصنف على ويكيبيديا في فئة “أعمال الشغب العرقية”، أو كيف تتحدث الشابة نانسي ميس، النائب عن الجمهوريين المنتخبة من ساوث كارولينا، عن “العنف من هذا الجانب وذاك” في خطابها الأول في مجلس النواب.
إن خطاب الأخطاء المشتركة، الذي يبدو ظاهريا معقولاً ومريحًا، هو استراتيجية قديمة قدم الولايات المتحدة لإخفاء العنف الأحادي الجانب الذي خرج منه هذا البلد: العنف الذي تمارسه الشرطة وأيضًا السكان البيض، الذين أصيبوا بالذعر من فكرة خسارة تفوقهم، ومن رؤية السكان الآخرين -السكان الأصليين، السود، اللاتينوس، الآسيويين -يكتسبون مكانة متساوية.
يا له من رعب، سمعناه في الأيام الأخيرة في فرنسا وأماكن أخرى في أوروبا. ومع ذلك، سنكون مخطئين تمامًا إذا نظرنا إلى الولايات المتحدة بازدراء، واعتقدنا أننا محصنون من عللها: إذا كان ترامب وحشًا أمريكيًا، فإن هذا الوحش قد صُنع فعلا في أوروبا منذ القرن الخامس عشر.
وكما أوضح جيمس بالدوين في التلفزيون الفرنسي عام 1976، “لم تنشأ فكرة تفوق البيض هناك “في أمريكا” ؛ ولدت هنا “في أوروبا “. نحن الذين تعلمنا التفكير في العنصرية كشيء أجنبي ينتمي إلى الماضي، محميّون خلف الدرع الفكري للكونية والتنوير، ها نحن مدعوون من قبل الأحداث والاخبار الى إعادة النظر في تاريخنا.
وخلافًا للاعتقاد السائد، لا تُظهر لنا الولايات المتحدة ما سيحدث في أوروبا، في شكل استيراد بعد بضع سنوات: إنها نتيجة وتجسيد مفرط للمشروع الإمبريالي الأوروبي -نوع من فرانكشتاين الجيوسياسي الذي لا يملك أي شخص ولا أي شيء السيطرة عليه.
كبش فداء عالمي
غاضبًا من أن لويس الثالث عشر لم يكن مهتمًا بما فيه الكفاية بالأمريكيتين وبالقوة البحرية لفرنسا، في وقت كانت فيه شركة المائة شريك تسعى إلى تعزيز المواقع الفرنسية في كندا، أعرب ريشيليو عن أسفه: “غالبًا ما تكون لدموع ملوكنا طعم البحر المالح الذي تجاهلوه “. وبعد نصف قرن، وبفضل كولبير، لم تعد المملكة تدير ظهرها للبحر المفتوح. لقد تقدم الاستعمار في الريف، وهو يتقدم على طول نهر المسيسيبي، بينما يوفر الكود بلاك إطارًا قانونيًا لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي والرق. هل كان يمكن للثورة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن أن يسقطا مخلوق النظام القديم هذا؟
الأمر ليس كذلك. أولاً، لأنه إذا تم إلغاء العبودية مرتين، عام 1794 ثم عام 1848، فذلك بسبب إعادة العبودية، التي قررها بونابرت عام 1802. ثم، لأن الاغتصاب الذي فرض النظام الأبيض في الأمريكيتين استمر في ظل الجمهوريتين الثالثة والرابعة، في إفريقيا والمحيط الهندي وآسيا، ثم في ظل الخامسة، فيما وراء البحار وكذلك في فرنسا.
إذا ألقينا باللوم على ترامب كثيرًا، فهذا لأنه، في العمق، تعبير عن ضميرنا السيئ. إن الكراهية والغضب والابتذال التي تظهر منه هو وجنوده الصغار تفجر فقاعة يوتوبيا ما بعد العنصرية التي نريد الاقامة فيها، على سبيل المثال، عن طريق إزالة كلمة العرق من الدستور -وكأن هذه كانت الحقيقة البيولوجية التي رآها هتلر فيه وليس نظامًا للسلطة، وهي بنية اجتماعية-سياسية تتخلل رؤيتنا للعالم وأساليب عيشنا.
وإذا أصبح ترامب كبش فداء عالمي، فذلك لأنه يذكرنا بأن مناهضة العنصرية ليست ذاك الشيء غير المجدي والخطير، تلك النزعة الانفصالية التي نريد أن نراها فيها؛ لأنه يمنعنا من إبعاد العنصرية مايدن أوروبا. إذا نظرنا اليه من فرنسا، فإن الرابط الرمزي الذي يوحده مع كبار شخصيات الاستعمار يعيدنا إلى التاريخ العابر للأطلسي، ويمنعنا من إدامة أسطورة البلد الملجأ والملاذ لضحايا العنصرية، مع تجاهل آثار الاستعمار.
ان ترامب هو النسل البعيد ولكن يليق بكولبير العظيم: إذا كانت هذه القرابة التاريخية تزعج، فمن المؤكد أنها ليست شيئًا سيئًا. إن تذكّر أسلافنا، وإخراج سلالة العنصرية العالمية من الظل، هي الخطوة الأولى لتفكيك النظام الأبيض الذي لا يزال موجودًا على جانبي الأطلسي.
وعلى عكس ما نسمعه بانتظام، مؤخرًا عندما يقدم أحد نجوم البوب بكلماته هدفًا سهلاً للاتهامات المعتادة حول موضوع التنافس على دور الضحية والندم، فالمسألة لا تتعلق بطلب الاعتذار عن جريمة، ولكن لفتح أعيننا أخيرًا على الاتجار والعبودية كجريمة ضد الإنسانية.
انتهت ولاية ترامب المأساوية الأربعاء. وهذه النتيجة تدعونا إلى الخروج من الانكار المتمثل في التلويح بحجة الاستيراد الأمريكي في كل مرة يتم فيها تحديد بقايا استعمارية. ولكن، في الولايات المتحدة، كما في فرنسا، سيتطلب الأمر أكثر بكثير من مجرد انتخابات وتنويع السمات في المناصب الرئيسية لوضع حد لنظام الهيمنة الذي كان رقم 45 هو صورته الرمزية المشؤومة.
روائي، مدرس في كلية برين ماور، بنسلفانيا. كتب عن الإرهاب “الدعوة، الفرنسية” والاغتصاب الاستعماري “دم الرجال الأسود”، ومعد أفلام وثائقية.