تريندز: التكنولوجيا المتقدمة تعيد تشكيل النظام الجيوسياسي العالمي لما بعد 2026

تريندز: التكنولوجيا المتقدمة تعيد تشكيل النظام الجيوسياسي العالمي لما بعد 2026

أكدت دراسة بحثية جديدة لمركز تريندز للبحوث والاستشارات أن العالم يقف أمام تحول بنيوي عميق في طبيعة القوة والسيادة وأنماط التنافس الدولي، تقوده التطورات المتسارعة في مجالات الذكاء الاصطناعي والبيانات والتصنيع الذكي والتقنيات الحيوية والفضاء السيبراني.
جاء ذلك في دراسة تحليلية معمقة أصدرها مركز تريندز للبحوث والاستشارات باللغة الإنجليزية تناولت الدور المتنامي للتكنولوجيا المتقدمة في إعادة تشكيل النظام الجيوسياسي العالمي في مرحلة ما بعد عام 2026.
وجاءت الدراسة استناداً إلى مخرجات مؤتمر دولي نظمه مركز تريندز عبر مكتبه في كندا بمدينة مونتريال في مايو 2025، ضمن أعمال المنتدى السنوي للجمعية الفرنكوفونية للمعرفة، بمشاركة نخبة من الخبراء والباحثين الدوليين، إلى جانب مراجعة تحليلية لأحدث الأدبيات العلمية والأكاديمية في هذا المجال.
وأكدت الدراسة أن مرحلة ما بعد 2026 لا تمثل مجرد تغيير مرحلي في العلاقات الدولية، بل تشكل نقطة انعطاف هيكلية في تطور النظام الدولي، ناتجة عن الأثر التراكمي للتحولات التكنولوجية المتسارعة، التي لم تعد أدوات مساعدة في يد الدول، بل أصبحت بنية حاكمة تنظم الإنتاج الاقتصادي، والسلطة السياسية، والممارسات الأمنية، والعلاقات الاجتماعية، وتؤثر مباشرة في موازين القوى العالمية.
وأوضحت الدراسة أن مفهوم القوة الجيوسياسية يشهد انتقالاً متسارعاً من الارتكاز على العناصر المادية التقليدية، مثل الجغرافيا والموارد والقوة العسكرية، إلى أشكال جديدة من القوة المعرفية والخوارزمية، حيث باتت القدرة على جمع البيانات وتحليلها وتشغيلها عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي معياراً حاسماً في قياس النفوذ والتأثير الاستراتيجي للدول.
وبينت أن التكنولوجيا تحولت إلى بنية سيادية جديدة، تمس جوهر قدرة الدول على أداء وظائفها الأساسية، بما في ذلك الأمن، والإدارة العامة، والحوكمة الاقتصادية، ما يجعل الاعتماد على منصات رقمية وبنى حوسبية خارجية مصدراً مباشراً للهشاشة الاستراتيجية، حتى في ظل بقاء السيادة القانونية الشكلية.
وسلطت الدراسة الضوء على مفهوم "الجيوسياسة التكنولوجية"(Technogeopolitics) بوصفه إطاراً تحليلياً جديداً لفهم التحولات الدولية الراهنة، حيث لم تعد المنافسة العالمية تقاس فقط بالسيطرة على الأرض أو الموارد، بل بالتحكم في البيانات، والبنى التحتية الرقمية، والمعايير التقنية، ونظم الابتكار المتكاملة.
وأكدت أن الذكاء الاصطناعي يمثل البنية المعرفية الأساسية للنظام الدولي الناشئ، بوصفه تقنية عامة تخترق جميع القطاعات الاستراتيجية، من الدفاع والاستخبارات إلى الاقتصاد والصحة والتعليم والدبلوماسية، محذرة من أن التركز الشديد للقدرات المتقدمة في عدد محدود من الدول والشركات الكبرى يعمق فجوات عدم المساواة الجيوسياسية، ويخلق أنماطاً جديدة من التبعية التكنولوجية.
وتناولت الدراسة التحولات المتسارعة في سلاسل الإمداد والتصنيع الذكي، مؤكدة أن أشباه الموصلات باتت مورداً جيوسياسياً استراتيجياً يرتبط مباشرة بالأمن القومي والمرونة الاقتصادية، في ظل تصاعد المنافسة الدولية على السيطرة على سلاسل إنتاجها. كما أشارت إلى التداخل المتزايد بين الأمن التكنولوجي وأمن الطاقة نتيجة التوسع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي كثيفة الاستهلاك للطاقة.
وفي المجال الحيوي، أوضحت الدراسة أن التقنيات البيولوجية، وما يعرف بالترابط الحيوي-الرقمي، أصبحت ساحة جديدة للتنافس الجيوسياسي، بما تحمله من تحديات أخلاقية وأمنية وتنظيمية تتجاوز قدرات الدول الفردية، وتستدعي أطر حوكمة دولية أكثر تكاملاً.
كما أكدت الدراسة أن الفضاء الخارجي والفضاء السيبراني تحولا إلى ساحات مركزية للصراع الجيوسياسي، في ظل الاعتماد المتزايد على الأقمار الصناعية في الاتصالات والملاحة والأمن، وتصاعد الهجمات السيبرانية وحروب المعلومات التي تستهدف البنى التحتية الحيوية والتماسك المجتمعي.
وفي ختامها، خلصت الدراسة إلى أن خريطة النظام الدولي لما بعد 2026 ستتحدد بمدى قدرة الدول على تبني استراتيجيات تكنولوجية سيادية متكاملة، تقوم على الابتكار المحلي، وبناء القدرات المؤسسية، والموازنة بين الأمن والانفتاح، مشيرة إلى تباين النماذج العالمية بين النهج السوقي الذي تقوده الولايات المتحدة، والنموذج الدولتي الذي تتبناه الصين، والنموذج التنظيمي القيمي للاتحاد الأوروبي.
وأكدت الدراسة أن غياب رؤية دولية منسقة قد يؤدي إلى تعميق الانقسام والاضطراب في النظام العالمي، في حين أن توظيف التكنولوجيا ضمن أطر سياسية وأخلاقية رشيدة قد يشكل أساساً لنظام دولي أكثر توازناً ومرونة واستدامة في العقود المقبلة.