حرب بأقل كلفة.. موسكو تشهر سلاحها الجديد في سماء أوكرانيا
تعتمد روسيا بشكل متزايد على تكتيك الإغراق واستنزاف الأسلحة، عبر تكثيف هجمات المسيّرات الرخيصة، كخيار عسكري مدروس يعكس تحولًا في مقاربتها لإدارة الحرب في أوكرانيا.
فبدلًا من الرهان على الضربات المكلفة أو الاشتباكات المباشرة، اتجه «الدب الروسي» خلال الفترة الأخيرة إلى إغراق الدفاعات الجوية الأوكرانية بأعداد كبيرة من الطائرات غير المأهولة، بهدف إنهاكها واستنزاف مخزونها وقدراتها التقنية، وفرض معادلة ميدانية جديدة بأقل كلفة ممكنة.
ولا يقتصر هذا التحول على البعد العسكري فحسب، بل يحمل رسائل سياسية وضغوطًا تفاوضية، إذ يرى الخبراء أن تكثيف موسكو لاستخدام المسيّرات الرخيصة يندرج ضمن ما يُعرف بتكتيك الإغراق، القائم على إنهاك الدفاعات الجوية واستنزاف قدراتها التقنية والمالية، مع تعظيم التأثير الميداني بأقل كلفة ممكنة.
وذكر الخبراء، أن هذا الأسلوب يعكس تحولًا عميقًا في طبيعة الحروب الحديثة، إذ لم تعد الكثافة البشرية أو السلاح التقليدي العامل الحاسم، بل التفوق التكنولوجي، وتدفق المعلومات اللحظي، والقدرة على الضغط السياسي عبر التصعيد العسكري المدروس لدفع الخصوم نحو التفاوض.
قواعد جديدة
ورأى الخبير العسكري العميد ناجي ملاعب، أن «التطور المتسارع في التكنولوجيا العسكرية أسهم في صياغة قواعد جديدة للحروب الحديثة، حيث لم يعد الجندي التقليدي هو العنصر الحاسم في ساحة القتال كما كان سابقًا».
وأضاف في تصريحات خاصة لـ»إرم نيوز»، أن «دور الجندي تغير من مقاتل مباشر إلى مُشغِّل للمنظومات القتالية، في ظل هيمنة التكنولوجيا على طبيعة المواجهات العسكرية».
وأشار إلى أن «أنظمة التحكم والتشغيل عن بُعد أصبحت العامل الفاصل في الحروب، وهو ما أدى إلى تبدّل مفهوم القوة العسكرية مع انتقال الجيوش من الاعتماد على الكثافة البشرية إلى التفوق التقني».
وأوضح ملاعب، أن «إيران، في ظل العقوبات المفروضة عليها وحرمانها من شراء الأسلحة التقليدية، اتجهت إلى تطوير قدراتها الذاتية في مجال التصنيع العسكري».
وأكد أن «المفهوم العسكري الحديث يقوم على أن أفضل وسائل الدفاع هي الهجوم، وهو ما دفع إيران إلى التركيز على تطوير الصواريخ بعيدة المدى والطائرات المسيّرة».
وأشار إلى أن روسيا استخدمت المسيّرات الإيرانية، ولا سيما طائرات «شاهد»، على نطاق واسع في ميادين القتال.
وأضاف ملاعب، أن «اللافت في المرحلة الراهنة هو اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية إلى تطوير مسيّرات قتالية قريبة في أدائها من طائرة (شاهد 136)، بعدما تعرّفت عليها واشنطن عن قرب خلال عمليات إسقاطها في أوكرانيا».
وأشار إلى أن «هذا الواقع يعكس تحولًا جذريًا في طبيعة الحروب وساحات المواجهة، حيث لم تعد المعارك تُحسم على الأرض فقط، بل عبر الآلات والتقنيات المتقدمة، إضافة إلى ما يُعرف بالسحابة القتالية، التي تتيح تدفق البيانات والمعلومات بشكل لحظي إلى المقاتل أو المسيّرة أو الدبابة».
رسائل الضغط
من جانبه، اعتبر ديميتري بريجع، مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، أن «التصعيد العسكري الأخير يندرج في إطار توجيه رسائل ضغط مباشرة لدفع الطرف الأوكراني نحو طاولة المفاوضات، مشيرًا إلى أن الصراع يشهد مرحلة تحول كبيرة في مساره».
وكشف بريجع في تصريحات خاصة لـ»إرم نيوز»، أن «الهجمات الجارية لا يمكن فصلها عن مساعي إقناع القيادة الأوكرانية بجدية التفاوض، وأن المقاربة الأمريكية، ولا سيما في ظل سياسات الرئيس دونالد ترامب، تنظر إلى الحرب الأوكرانية باعتبارها أزمة استنزاف وفساد داخل المنظومة السياسية الأوكرانية، أكثر من كونها مواجهة عسكرية تقليدية».
وأشار إلى أن «طبيعة الاستهداف الروسي، سواء طالت الصناعات العسكرية أو البنى التحتية ووسائل النقل، أو حتى المدن الكبرى مثل كييف ولفيف، تحمل رسالة واضحة مفادها أن رفض التفاوض سيقابله توسيع دائرة الاستهداف لتشمل المنشآت الحيوية والحياة اليومية في المدن الكبرى، بما في ذلك تعطيل شرايين النقل ومقومات الاستقرار».
ولفت بريجع، إلى أن «هذا النمط من التصعيد غالبًا ما يسبق جولات تفاوضية، إذ تشهد المراحل التي تسبق المسار السياسي تصعيدًا ميدانيًا مكثفًا».
وحذر من أن «الملف الأوكراني قد يمتد لسنوات إذا لم تُعالج جذور الأزمة، لا سيما وأن تجميد الصراع لا يعني حله، بل قد يمهد لجولات قتال لاحقة».
وأشار إلى أن «تجربة ما بعد اتفاقية عام 2014 تمثل نموذجًا واضحًا، حيث جرى تجميد العمليات العسكرية دون معالجة الأسباب السياسية، ما أدى إلى تجدد المواجهات لاحقًا».
وأضاف بريجع، أن «روسيا رأت آنذاك أن أوكرانيا لم تلتزم بالإصلاحات المطلوبة، بما في ذلك تعديل الدستور ودمج المتمردين في الحياة السياسية، فضلًا عن قضايا الهوية واللغة الروسية».