حفاظا على الوجود الفرنسي بإفريقيا : ماكرون سيزيفٌ لا يَهدأ !

حفاظا على الوجود الفرنسي بإفريقيا : ماكرون  سيزيفٌ لا يَهدأ !

-- الرئيس الفرنسي يمتلك أوراقا لكسب معركة استرجاع النفوذ الفرنسي بأفريقيا و لكن التهديدات الأمنية كبيرة و العداء الإفريقي لبلاده لم  يخفت 
-- التغيير ليس يسيرا بسبب هيمنة الماضي و شراسة التنافس الروسي الصيني على القارة
-- ماكرون : أفريقيا ليست حديقة خلفية لفرنسا مع وعد أن تغادر  بلاده موقعها كدولة استعمارية سابقة  
-- لا يمكن لفرنســا أن تسـتبعد نفسها من قارة واعـدة و لكن عليهــا تغييـر توجهـاتهـا نحــو بلدان المنطقـة


اختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ، قبل شروعه في رحلة إلى أربع بلدان إفريقية لحضور قمة “ الغابة الواحدة “ المُخصصة للحفاظ على غابات نهر الكونغو ، أن يُلقي خطابه من قصر الإيليزي ، خلافا لخطاب سبق أن ألقاه قبل خمس سنوات من أوغادوغو ،و ذلك تجنبا لإحراج أو اتهام أية دولة من الدول الاربع التي حط  بها رحاله خلال الاسبوع الماضي  ،   بالرغم مما حفل به خطابه من نقد ذاتي  لفرنسا بخصوص ماضِ استعماري لم يَمض بعد .

القطع مع الماضي
في هذا الخطاب  طرح ماكرون “ استراتيجية افريقية للسنوات الاربع المقبلة”  متحدثا عن ضرورة اعتماد نهج جديد في سياسة فرنسا الافريقية و عن خطط لبناء “ علاقة جديدة  متوازنة و متبادلة و مسؤولة “ مع القارة  السمراء .
طي صفحة ماضي سياسة باريس الافريقية  ، في مرحلة ما بعد الاستعمار ،  التي شهدت تواطؤا مع بعض الانظمة الاستبدادية بالقارة و علاقات متوترة مع من يمثلون المنزع السيادي لبلدانهم  ، برفض شكل جديد من الاستعمار ، هذه هي الرسالة التي اراد ماكرون ان يرسلها الى قادة و شعوب البلدان التي زارها او التي يخطط الزيارة لها في غضون الستة أشهر القادمة ، كما أعلن عن ذلك ، و ذلك لمواجهة مشاعر العداء التي تنامت في الفترة  الماضية تجاه  بلده  خاصة من قبل الشباب  الافريقي المتعطش الى “استقلال جديد» .

« لا يمكن إلقاء اللوم على إيمانويل ماكرون لاكتشافه أن إفريقيا قد تغيرت  ،  وأن على فرنسا أيضًا تغيير نهجها تجاه القارة “ كما يقول فيليب جيلي مدير التحرير المساعد لصحيفة لوفيغارو الفرنسية . فبمجرد انتخابه عام 2017  رئيسا للجمهورية الفرنسية ، عبًر ماكرون عن ذلك في خطابه في واغادوغو أمام جمع من الطلاب ؛ وفي العام الماضي ، كرر الرئيس الفرنسي  في قمة مونبلييه ، مرة أخرى أمام الشباب نفس التوجه  ، ومنذ أيام  قدم ملامح سياسة أخرى للقطع مع الماضي الذي لم يمر بعد..

تقليص الحضور العسكري
أولى خطوات هذه السياسة العملية الجديدة إعلان الرئيس الفرنسي عن تقليص الحضور العسكري بالقارة  و دعوته الى مزيد من التعاون و التكوين و المرافقة و التجهيز العسكري ،على إعلى مستوى ،  للقوات الافريقية من قِبل الجيش الفرنسي و الى مزيد “ من الالتحام لجيوشنا” لاستتباب الامن بالقارة .
و تأتي هذه الدعوة  لتوثيق التعاون الامني مع نهاية عملية بركخان لمكافحة الإرهاب  ، في منطقة الساحل ، و انسحاب القوات الفرنسية من مالي و بوركينا فاسو  ، إثر طلب المجْلسين العسكريين بالبلدين ذلك  ، بإلحاح ، في عداء واضح لفرنسا ، و هو قرار عمًق الخلافات بين الطرفين و دفع فرنسا الى التفكير في خطوات جديدة لاستدراك  تقلص نفوذ ها العسكري و الامني  و حتى الثقافي بالقارة  من خلال تغيير سياستها الافريقية  ،و تكييفها مع المتغيرات الدولية التي شهدها العالم ، اثر أزمة الكوفيد  ، و مع انطلاق الحرب الروسية الاوكرانية و دخول فاعلين سياسيين و اقتصاديين الى القارة السمراء .
 من الخطوات الاخرى التي أعلنها ماكرون ايجاد اطار قانوني جديد لاستعادة التحف الفنية الافريقية المنهوبة لدول القارة  ،التي ترغب في ذلك  ،و التعاون في القطاعات الاقتصادية و التكنولوجية الواعدة .

تغيير يصعب تحقيقه
تكمن المشكلة في أن هذا التغيير المطلوب في سياسة  فرنسا الافريقية يصعب تحقيقه  ، كما يضيف المحلل الفرنسي  “ بشكل خاص عندما يكون  هنالك ثقل التاريخ  الذي يحضر في المخيال الافريقي  و تكون هنالك ردود الفعل القديمة لفرنسا “. وهذا ما يحدث اليوم عندما تكون باريس في موقف دفاعي يخيم عليه  الرحيل القسري للقوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو ، والحرب الإعلامية التي تشنها روسيا  .” فهذا هو  فقط الجزء المرئي ،  أما الانزعاج و الضيق فهما أكثر عمقا  كل هذه الخطوات ترافقت مع تاكيد ماكرون أن إفريقيا لا تمثل حديقة خلفية لفرنسا و بوعد يتم “ بكل تواضع” ان تغادر فرنسا موقعها القديم ، كدولة استعمارية سابقة ، لتدخل مجالا جديدا من المنافسة مع لاعبين دوليين جدد و على رأسهم روسيا و الصين ، و على عزم الخروج من منطق “ المساعدة “ الى منطق “ الاستثمار” مبني على رغبة في الدفاع عن المصالح الاقتصادية الفرنسية و على البناء الديموقراطي ببلدان القارة .
مع الاسف ، كما يشرح فيايب جليبي أن هذا الخطاب المليء  بالنوايا الطيبة ، و الذي يمثل صدى لخطاب أوغادوغو عام 2017  ، قبل خمس سنوات “ لا يزال غير مسموع في خضم الدعاية المعادية لفرنسا ، و هو ضجيج تآمري أثارته روسيا و تمً استغلاله من قبل الانظمة التي تبحث عن كبش فداء مثالي « .

لا لقطع العلاقات مع المستعمرات السابقة
تعتمد فرنسا وإفريقيا على بعضهما البعض ، كما يكرر ماكرون دون كلل ، مثل سيزبف ،كما يشبهه  ، أحد المعلقين بالاذاعة الدولية الفرنسية ، إذ  يعود الرئيس الفرنسي  باستمرار الى نفس المهمة و هي التاكيد على العلاقة التاريخية ، و أن شابها كثير من التوتر  ، بين فرنسا و بلدان القارة ، و أن مصالحهما مشتركة و انه لا غنى للقارة عن الدعم الفرنسي طالما يصبو الطرفان الى تجسيد نفس القيم و الى إحلال السلم و الامن بالقارة و الى إنمائها و الحفاظ على المصالح الفرنسية بها . فلا  يمكن لفرنسا أن تستبعد نفسها من قارة مليئة بوعود المستقبل ، ولكي تبقى هناك ، يجب عليها تغيير برامجها و  توجهاتها .
يقول ماكرون  “سيدرك الأفارقة في النهاية أن المفترسين اليوم هم مرتزقة روس ومستثمرون صينيون ، أكثر بكثير من المستعمرين الأوروبيين السابقين» .
 و لكن كم من الوقت سيستغرق  الافارقة لادراك هذه الحقيقة  كما  يتساءل فيليب جيلي .

خطر مزدوج
تراجع الحضور الفرنسي بافريقيا و الاوروبي عامة مقابل هيمنة فاعلين دوليين على اسواق القارة  ، و تاثيرهم على سياسات العديد من بلدانها ، بالاضافة الى الاوضاع الامنية غير المستتبة ، خاصة بسبب نشاط العديد من المنظمات الارهابية و بالذات بمنطقة الساحل ، يمثل أيضا مشغلا أوروبيا  ، إذ يبحث الاتحاد الأوروبي ، بدوره ،عن حلول لإدارة هذا الوضع الجديد ويفكر في نشر قوات أوروبية في النيجر حيث يوجد قرابة ثلاث الاف جندي فرنسي  إلى جانب وجود فرقة أخرى بالتشاد  ،  و حيث    تهدد الفوضى ،   في منطقة الساحل ،  بالانتشار إلى البلدان الأكثر ثراءً واستقرارًا في خليج غينيا ، مثل كوت ديفوار.
 هنالك إذن خطر مزدوج يأتي من الجنوب  بالنسبة لاوروبا ، فمن ناحية  ، هنالك الوجود المتزايد للمنظمات الجهادية التي يمكنها استخدام منطقة الساحل كقاعدة وصول لارتكاب أعمال إرهابية في جنوب أوروبا. و من ناحية أخرى ، الاعتماد المتزايد لدول المنطقة على دعم مجموعة فاغنر من المرتزقة الروس  .
و في تصريح لصحيفة “ لافانغارديا” ذكرت  وزيرة الدفاع الاسبانية  مارغريتا روبلز ، في مقابلة مع هذه الصحيفة: “نحن قلقون للغاية بشأن الوضع في منطقة  الساحل  “ و ألمحت الى الوجود المتزايد   والمتنامي  ، في هذه المنطقة الممتدة بين المحيط الأطلسي والبحر الأحمر ، للتنظيمات  الإرهابية والمخاطر التي ينطوي عليها ذلك على إسبانيا والاتحاد الأوروبي .
و أضافت الوزيرة الاسبانية أن منطقة الساحل ، التي تضم اثنتا عشرة دولة  أصبحت منطقة هجمات تشن فيها منظمات مثل القاعدة وداعش  ، حربًا للسيطرة على المنطقة والتي تلعب فيها مالي دورا رائدا و قد كان للقوات الفرنسية دورا حاسما ، لسنوات ،  في وقف تقدم الإرهابيين  ، لكن لم يعد هناك جنود فرنسيون في مالي بعد طردهم من قبل المجلس العسكري الذي يحكم البلاد   وقد تعرض الانسحاب العسكري الفرنسي  من المنطقة لانتقادات من قبل اسبانيا .
 لأنها تدرك أن هذا الانسحاب  يسهل تقدم الأصوليين ويعزز الوجود الروسي في منطقة الساحل ، لتحل روسيا محل أوروبا.

تهديدات لأوروبا
تُنذر الفوضى الموجودة إذن ، في منطقة الساحل بتوسع نشاط  الجماعات الارهابية  ، ففي هذه المنطقة  يعمل  الإرهابيون على احتلال  المزيد والمزيد من الأراضي ولديهم علاقة وثيقة مع الجريمة المنظمة والهجرات غير  النظامية التي تؤثر على بلدان جنوب أوروبا ، بما في ذلك إسبانيا . و في بعض بلدان الساحل  الضعيفة والمنهارة أو الفاشلة حيث يسود الفساد والافتقار إلى الاستقرار  يسيطر  الجهاديون على مناطق صحراوية كبيرة ويجتذبون المقاتلين من الشباب المسلم الراديكالي بسبب  ضيق آفاق المستقبل ، لهم  ، في بلدانهم,
و الى جانب الوجود المتزايد للمنظمات الجهادية التي يمكنها استخدام منطقة الساحل كمنصة لشن أعمال إرهابية في جنوب أوروبا  ، هنالك ، من ناحية أخرى ، تزايد الاعتماد بدول المنطقة ، حيث تم استبدال الديمقراطيات الفاشلة بالمجالس العسكرية ، على مساعدة مجموعة فاغنر  ، وبالتالي ، روسيا لحماية النخبة الحاكمة و لاستغلال مناجم الذهب والمحروقات وثروة الأخشاب لصالحها .

أوراق ماكرون الرابحة .
  لتحقيق  الطموح الفرنسي الذي يقوده ماكرون لاسترجاع المكانة المفقودة ، أو على الأقل المتراجعة ، بالقارة الافريقية ، و من ورائه الطموح الاوروبي لصد المنافسة الروسية و الصينية  في كسب الدول الافريقية أسواقا و أصواتا بالامم المتحدة بعدم ادانة الاجتياح الروسي لأاوكرانيا , يمسك ماكرون بأوراق ثلاث ، يعتقد أنها ستكون في صالحه  في تطبيق النهج الجديد الذي طرحه في بناء علاقات جديدة مع دول القارة السمراء . أولى هذه الاوراق وجود جاليات إفريقية متنوعة و لكنها هامة بفرنسا  ، و هو ما يُبيح له الحديث عن البعد الافريقي لبلاده . ضمن هذه الجاليات يوجد كُتاب و فنانون و رياضيون و حتى سياسيون و فئات من المجتمع المدني تطالب فرنسا بان تعيد للعلاقات الفرنسية الأفريقية سابق ألقها نظرا لحِقبٍ من التاريخ المشترك بين الطرفين ، رغم ما شاب هذا التاريخ من مقاومة و توترات و مطالب سيادية  ، و لكن أيضا من تعاون فرنسي مع البلدان الافريقية لبناء دول استقلالها .و قد ارتفعت بعض هده الاصوات خلال القمة الفرانكفونية التي عقدت منذ أشهر قليلة بمدينة جربة التونسية .»

 « أوْربة “ السياسة الإفريقية
 اما الورقة الثانية فهي ما يمكن ان نطلق عليه بـ” أوْربة” السياسة الافريقية لدول الاتحاد الأوروبي  حيث لم تعد افريقيا  ،  الفرانكفونية على الاقل ،  شانا فرنسيا بحتا و لا بلجيكيا بحتا ، و بعض الدول الاخرى شانا برتغاليا ، بل إن أوروبا اصبحت كلها معنية بالقارة بسبب التنافس الحاد بينها و بين اللاعبين الدوليين  الجدد على منطقة شديدة الأهمية و الخطورة أمنيا و استراتيجيا .و قد وعد الاتحاد الاوروبي بالعمل على تخفيف العداء الافريقي تجاه فرنسا  ، و بمزيد ضخ مزيد من الاموال في تحديث البنى التحتية بالدول الافريقية  ، وخلق فرص جديدة للاستثمار في قطاعات واعدة  ، و ذلك تجسيدا للشعار الذي رفعه ماكرون بضرورة الانتقال من منطق “ المساعدة “ الى منطق “ الاستثمار « .
اما الورقة الاخيرة فتتمثل في محاولة ردم الهوة بين دول الشمال و  بعض دول الجنوب و التي اتسعت بسبب اختلاف المواقف من الحرب الروسية الاوكرانية ، حيث رفض عدد من دول الجنوب  ، و تحديدا من افريقيا  ، اتخاذ موقف من الهجوم الروسي على اوكرانيا ،  و ذلك حرصا على مصالحها  ، و اعتبارها ان هذه الحرب ليست حربها .و لا شك ان العضوية الدائمة لفرنسا لمجلس الامن يؤهلها للتحرك من أجل جلب مزيد من الاصوات لدعم التحالف الاوروبي لاوكرانيا في حربها ضد روسيا ، و من هنا  إكتست زيارة ماكرون  لجمهورية الكونغو الديموقراطية  التي  تعد من الدول الافريقية القليلة التي أعطت صوتها  لقرار الادانة الأممي لروسيا ، رمزية كبيرة  وكذلك  لعبه دور الوسيط بين  جمهورية الكونغو الديموقراطية و  رواندا في النزاع الذي يحتدم بينهما في منطقة الكيفو حيث تدور حرب طاحنة و هي حرب غفل عنها المجتمع الدولي المشغول حاليا بالحرب الروسية الأوكرانية .

أفريقيا مستقبل
 فرنسا و أوروبا
لقد حرص الرئيس ماكرون على    التأكيد  على  ان افريقيا هي مستقبل فرنسا و مستقبل أوروبا ،  مشيرا الى ان الدولة الفرنسية فاتها  ابراز هذا الجانب من تعالق مصيري الطرفين .لذلك يجتهد ماكرون في الذهاب في اتجاه هذه البوصلة . تبدو المهمة غير يسيرة و لكن سيزيف الفرنسي غير سيزيف الاسطورة , كما تأمل العديد من الاوساط الفرنسية و الافريقية ، فثمة أحقاد يجب أن تُنسى و وعود يجب أن تتحقق بين فضائيين يجمعهما تاريخ مشترك حتى لو كان هذا التاريخ تاريخ حروب و سلب و نهب .