رحلتي في الفجر
في البدء كانت الكلمة والكلمة كانت الفجر .. يبدأ يوم جديد يبدد الظلام ويعطي وضوحاً وأملاً في الحياة .. الفجر بنسماته يحث على الانطلاق ، ويبث أنواره في الأرجاء لتوضح كل التفاصيل.
هكذا كانت الفجر في خيالي وخيال كل من قام عليها ولنبدأ فجرنا 1975 في شقة صغيرة في شارع الكترا القديم، كنت تلميذاً صغيراً في المرحلة المتوسطة أو الإعدادية وبحكم أن والدي من المشاركين في تحرير الفجر في ذلك الوقت كنت أتردد على مقر الجريدة بصحبته من وقت لآخر في ذلك المقر الأسبق بشارع الكترا في شقة صغيرة حيث كانت تحرر الفجر وتصدر أسبوعياً وتطبع في الكويت، وقابلت للمرة الأولى رئيس تحرير الجريدة وصاحب الفكرة "عبيد حميد المزروعي" قامة فارعة وشخصية مهيبة، كان رجل مال، وأعمال، وكان يشغل وظيفة مهمة بأحد البنوك، وترك كل هذا إلى عالم الصحافة صاحبة الجلالة ذات السحر الآسر والإبهار باحثاً عن حلم يحققه وهدف يفيد به الناس.
وفي تلك الشقة الصغيرة قابلت عمالقة الإعلاميين في ذلك الوقت منهم المشارك في التحرير ومنهم الزوار أذكر منهم في تلك الفترة: كمال الجويلي الصحفي والناقد التشكيلي (كوميسير)، وأصدر جريدة الوحدة في فترة ما، وعبد المنعم سلام الإعلامي التلفزيوني الشهير رحمهما الله .
تقريبا كنت أشبه بعامل المراسلة في ذلك الوقت أحمل مقال والدي إلى مقر الجريدة أو انتقل من غرفة الى أخرى بين المخرج و المنفذين ناقلاً بعض التعليمات التي يملونها علي .. وكانت أول مرة أسمع كلمة مخرج وهو الفنان المسؤول عن تخطيط صفحات الجريدة، ووضع المقالات والمادة الصحفية في تنسيق متناغم داخل الصفحة وتحديد شكل العناوين وحجمها ومكان وحجم الصور وغيرها من الأمور المهمة لمظهر الجريدة النهائي الذي يوضع في يد القارئ .. وكان لقائي الأول بعمنا الكبير محمد العكش الفنان الشهير وصاحب الكاريكاتير الأسبوعي الذي كنت أنتظره وأفرح فرحا شديدا عندما أرى الكاريكاتير قبل القراء في مرحلة الإعداد للطباعة ، واعتبره انفراداً خاصاً.
وفي تلك الفترة سمعت كلاماً يتردد أن الكاتب الكبير محمود السعدني سيأتي مديراً لتحرير الفجر وفعلاً حضرت اللقاء بينه وبين كوكبة من المحررين في ذلك الوقت، أذكر منهم سهير مراد وشغلت منصب مدير تحرير أخبار اليوم فيما بعد، وأسامة عجاج رحمه الله وشغل منصب مدير تحرير الفجر فيما بعد، ومحيي الدين اللاذقاني وغيرهم، وكنت أجلس مستمعاً ومستمتعاً بحديث عمنا الكبير محمود السعدني، وخفة ظله وسرعة بديهته المعروفة سواء في مكتبه بالجريدة أو في لقاءات بالمنزل حيث كان يزور والدي، أو في أماكن خارجية ومعهم بعض الضيوف من مشاهير الإعلاميين والفنانين أذكر منهم الرسام الكبير جمال كامل، والصحفيين محمود سليمة، وصلاح جلال، وصبري أبو المجد، حرصت في تلك الفترة على حضور هذه الصالونات في منزلنا ، و في الجريدة.
الفجر في 1976 انتقلت إلى مقر جديد أوسع وأفضل، زرناه بدعوة من زميل الدراسة العزيز أحمد عبيد المزروعي وكنا طلبة في ثانوية أبوظبي في تلك الفترة وكان طلبة الثانوي كلهم يعرفون بعضهم البعض لأنها كانت المدرسة الثانوية الوحيدة في أبوظبي وكان معنا أيضا في المدرسة أكرم محمود السعدني الصحفي الشهير الآن .
في تلك المرحلة حصلت الفجر على بناية صغيرة بشارع المطار القديم مكونة من محلات بالأسفل ودور بالأعلى وقسم الدور إلى مساحة مخصصة للجريدة، وأخرى كاستراحة، وكان يشغلها في هذا الوقت الاستاذ آمال راتب المدير المالي للجريدة والذي كان مديرا ماليا في روز اليوسف ولديه خبرة عريقة في هذا المجال.
وفي المساحة المخصصة للجريدة تعددت الغرف فالمكان أوسع من شقة شارع الكترا وتعرفت على عدد من الشخصيات على رأسهم العم هندي غيث القانوني والصحفي الكبير والذي سيشغل منصب مدير التحرير فيما بعد ومن الشخصيات المرحة والمتمكنة من العمل معا، والعم الفنان محمد العكش حظى بمكتب ضخم ملأه بالأوراق والأقلام متعددة الأغراض والفرش والألوان، وفي غرفة أخرى كان عدد من الصحفيين أذكر منهم حسن سلامة، ومحيي نافع، وسليمان وحبيب الصايغ، وسهير مراد، وخيرة الشيباني وغيرهم . والمفاجأة ..أن الفجر ستطبع في مطابعها التي تشغل الدور الأرضي للمبنى بأحدث المطابع في ذلك الوقت ودخلت أتفقدها مع والدي وشرح لنا مزايا المطابع الجديدة مديرها علي كوهية الذي كان يشغل قبلها مدير عدد من المطابع الصحفية المصرية.
وخطرت لنا فكرة إصدار جريدة المدرسة وفي البداية كانت مجلة حائط وقررنا إصدارها بأسلوب جديد على هيئة صفحة جريدة فعلية وليست مادة مكتوبة داخل أشكال هندسية كالدوائر والمستطيلات كما قررنا دعمها بالصور وأسميناها المنهل.
وكان أول اجتماع تحرير لمجلة المنهل في مقر جريدة الفجر الأسبوعية وباستشارة هؤلاء الصحفيين والفنانين الكباروجلسنا كلنا أحمد عبيد، وأنا، وأكرم السعدني، وخالد آمال راتب ومحمود أبوجبارة لإصدار أول مجلة في حياتنا ونجحت نجاجا عظيما وفازت المجلة بجائزة سلمها لنا الاستاذ سميح حرز الله رحمه الله الذي كان مديرا لمدرسة ثانوية أبوظبي في ذلك الوقت.
مرت الأيام وغادر العم محمود السعدني أبوظبي وتولى أسامة عجاج رحمه الله إدارة التحرير، والعم محمد العكش الإشراف الفني والعام ، واستمر الصحفيون الذين ذكرتهم مسبقا في عملهم، كما استمر والدي عبد الفتاح الفيشاوي في كتابة زاويته الفنية باسم الزعل ممنوع، وبدأت هيئة التحرير إعداد الجريدة لتطبع بمطابعها بالدور الأرضي للمبنى بإخراج جديد وحضرت تلك الفترة بمكاتب الجريدة وكانت من أمتع فترات حياتي حيث طالعت خطوة بخطوة ما يحدث من إعادة تصميم للصفحات بقيادة العكش واقتراحات للأعمدة الثابتة وعناوينها بقيادة هندي غيث واستشارات لعبد الفتاح الفيشاوي واقتراحات من محيي نافع وسليمان .. كانت خلية نحل مستمرة في العمل لتظهر الفجر بصورة رائعة بهذا الفريق الرائع، وأول مرة كنت اسمع العدد زيرو فقد بدأت المطبعة تهدر لطباعة عدة نسخ من الجريدة لن يراها أحد إلا العاملون، حيث يكون عدد الجريدة مجرد بروفة تجريبية لكنها كاملة كأنها ستصدر للقارئ وعدد الزيرو يحمل هو أيضا رقم مسلسل زيرو واحد واثنين وهكذا حتى يكشف الفريق الأخطاء والمعوقات التي يمكن حدوثها وتجنبها، وكنت أحب تلك الأعداد وأشعر بخصوصية لصيقة لها فهذه الأعداد لن يراها أحد، وأنا من القلائل الذين يطلعون عليها.
مرت الأيام سريعة كعادتها وكان وقت الفراق المؤقت فغادرت لدراسة الطب بمصر بالرغم من حبي للصحافة، إلا أنني اخترت الطب ربما لاتجاهي العلمي أكثر من الأدبي بالرغم من ثناء مدرسي اللغة العربية على طريقتي في الكتابة، لكن الفراق المؤقت لم يمنعني من الزيارة في عطلة نصف العام والعطلة الصيفية ، ولم يمر العام كاملا انتقلت الفجر إلى مبناها بشارع المرور والذي كان يطلق عليه شارع المطار الجديد في مبنى كبير أنيق فاخر وتحولت للإصدار اليومي وكانت أول زيارة لي للمبنى.
المكان تغير تماماً إلى ثلاثة طوابق: الأرضي تشغله مطبعة متقدمة جدا تطبع الجريدة يومياً وكذلك تطبع مطبوعات لجهات أخرى كنوع من النشاط التجاري المساند ماليا للجريدة ، وفي الطابق الأول كانت المكاتب الإدارية ، أما الثاني فكان مطبخ الجريدة أي المكان الذي يقوم بإصدارها من الألف إلى الياء، ودخلت لأول مرة هذا الطابق فكان كخلية نحل ضخمة زاد عدد المحررين بشكل ملحوظ فالآن الإصدار يومي، وقابلت عدداً من المشاهير أمثال محمد حسين شعبان مراسل جريدة الجمهورية القاهرية في حرب أكتوبر وسيد شحم ونجوى فؤاد من نفس الجريدة، وأحمد جزارين بالإضافة إلى الطاقم السابق يجلسون إى عدد كبير من المكاتب ولكل هاتف خاص به لا يكف عن الرنين ، يحيط بالصالة عدد من المكاتب ذات نافذة زجاجية ضخمة خصصت للمشرفين ليكونوا على متابعة لصيقة لما يحدث في صالة التحرير فشكلت نقلة كبيرة للفجر.
تولى أحمد نافع الصحفي الشهير منصب مدير التحرير والمسؤول عن الإصدار اليومي للجريدة وتوسعت الفجر بعدها بقليل في مكاتبها الخارجية في دبي ورأس الخيمة بالإضافة إلى مكتب العين الذي كان موجودا من قبل .
غادر أحمد نافع إلى القاهرة وأسندت إدارة التحرير إلى محمد غباش الذي قام ببعض التغييرات التكنولوجية في إصدار الجريدة وفي إخراجها وتصميمها، وترك غباش الفجر وتولى ‘دارة التحرير عبد الفتاح الفيشاوي الذي ترك مجلة درع الوطن إلى الفجر، والذي أدخل بعض التعديلات مع رفيق رحلته العكش في الإخراج والتصميم وأعادا الهيئة السابقة للفجر.
وفي تلك الفترة تشرفت أن أكتب زاوية طبية صغيرة عن رمضان والصيام والطب في إجازة قصيرة كنت فيها في أبوظبي وكان أول ما نشر لي في الفجر.
تشرفت بأن أتعرف على مجموعة من الشباب المحررين في ذلك الوقت على رأسهم د. شريف الباسل، ووليد السعدي، وممدوح عبد الحميد، رحمه الله، وماهر شملولي وعبد السلام حمزة، وانضم فاروق حامد للتحرير كصحفي مخضرم في الإمارات ومجموعة من المنفذين الفنيين أذكر منهم: طارق حلمي، وياسر عمر بديع، وعلاء ، وانزلقت قدمي في دنيا الصحافة من بوابة الفجر التي كان يحرص والدي ألا أدخلها ليجنبني متاعبها.
ومع فريق الشباب وأفكارهم استطاعوا إعطاء الفجر ميزة كبيرة ، بالإضافة إى صدور ملحق (فجر الشعراء) كملحق للشعر الشعبي بإدارة مجموعة من كبار الشعراء على رأسهم سالم سيف الخالدي، وانضم إليهم الشاعر معتصم حمزة ، وشكلت قوة ثقافية أدبية في مجتمع الإمارات.
وفي هذا الخضم وفي وسط هؤلاء العمالقة ومن خلال تسللي إلى دنيا الصحافة فكنت أحرر صفحة خاصة للكمبيوتر والتكنولوجيا الحاسوبية وهي هوايتي المسيطرة على تفكيري وصفحة أخرى خاصة بالطب والصحة، وعمود أسبوعي في الصفحة الأخيرة وآخر داخلي باسم كلام دكاترة.
كما قمت بتغطيات خاصة مثل إصدار ملحق مستقل عن معرض أيدكس 93 أول معرض للدفاع أقيم في أبوظبي ، وكنت مسؤولاً عن تغطية أنشطة وزارة الخارجية والسفارات لاستغلال تحدثي بالإنجليزية واليابانية.
وكعادة الأيام كان لابد أن تأتي النهاية وكان القرار بالعودة إلى القاهرة بعد عشرين عاما في الإمارات والفجر، سلم عبد الفتاح الفيشاوي القيادة إلى العم هندي غيث، وفضل العودة للهدوء في القاهرة، وتحدثت مع عبيد حميد المزروعي في رغبتي في العودة إلى مصر، وتناقشنا محاولاً إثنائي، كما دعاني في أحد مقاهي الفنادق وكنا في رمضان عام 1995 وناقشني في رغبتي في المغادرة والاطمئنان على نشاطي المهني في مصر وكان لقاء الوداع وعادت الأسرة كلها.
وفي يوم حزين غادرت مبنى الفجر للمرة الأخيرة قاطعاً الشارع إلى الجانب الآخر لأراه واضحاً .. لأرى مكاناً قضيت فيه أغلب عمري .. صرحاً كبيراً، مكاناً، وعقولاً، لكن للأسف لم أره واضحا، فالدموع التي أغرقت عيني أخفت المنظر، فأشرت لسيارة لتحملني إلى المنزل ثم المطار.
اكتسبت من الفجر عدداً كبيراً من الصداقات داخل الجريدة وخارجها، مازلنا على صلة مستمرة خاصة بعد تقدم وسائل الاتصال، واليوم مر خمسون عاماً على الفجر.. المولود الذي تلقيته بين يدي وأصبح اليوم مخضرماً مؤثراً في الإعلام الإماراتي والعالمي، وتشرفت بكتابة هذه السطور أحاول تسجيل تاريخ محفور في أعماقي لأشاركه القراء، متمنياً للفجر دوام التقدم والازدهار .