جيرار أرو يستخلص عشرة دروس من الماضي:

رفض التفاوض مع بوتين يحكم علينا بحرب أبدية...!

رفض التفاوض مع بوتين يحكم علينا بحرب أبدية...!

-- هذه ليست حرب قيم، والولايات المتحدة تساعد أوكرانيا لأن مصلحة الغرب الجيوسياسية معرضة للخطر
-- في الأحداث التاريخية، هناك دائمًا 5 % من الأحداث غير المتوقعة
-- يعلّمنا التاريخ أن الدبلوماسية وُجدت للتحدث مع الشيطان
-- هذا العالم الجديد يشبه العالم الذي عرفناه حتـى عـــام 1939: عالـــــم القــوى العظمــى
-- نشهد نهاية الهيمنة الغربية على العالم، لقد تغيّر ميزان القوى مع ظهور الصين والهند


   بالنسبة للسفير الفرنسي السابق في الولايات المتحدة، حتى لو تم استبعاد المفاوضات بين كييف وموسكو في الوقت الحالي، يجب على الغربيين الاستعداد لذلك.
   سفير فرنسا لدى الولايات المتحدة من 2014 الى 2019، بعد تمثيل فرنسا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يعرف جيرار أرو طريقة عمل الدبلوماسية تمامًا. وفي كتابه الأخير تواريخ ديبلوماسية “غراسيه، سبتمبر 2022”، يستخلص عشرة دروس مستوحاة من الماضي “لإعادة تسليح” الرأي العام الفرنسي: من الصراع العربي الإسرائيلي إلى البريكسيت مرورا بمعاهدة فرساي أو الوفاق الودي. أحد المعجبين بهنري كيسنجر -الرئيس السابق للدبلوماسية الأمريكية الذي تعرض لانتقادات كثيرة بسبب مواقفه الأخيرة بشأن الحرب في أوكرانيا -يقدم قراءة فريدة لنقطة التحول التاريخية التي فرضها الغزو الروسي. الحوار:

* تقولون في كتابكم إن عودة الحرب إلى أوروبا حطمت أسطورة. أيّ الاساطير هذه؟
   - منذ عام 1945، عاشت أوروبا الغربية في جنة غير تاريخية، حيث اعتقدنا أن الحرب باتت من الماضي، وذلك بفضل الولايات المتحدة، التي ضمنت الدفاع عن أوروبا. وسيطرت فكرة أن كل شيء يعمل بشكل تعاوني. ومن وجهة النظر هذه، فإن الاتحاد الأوروبي هو النموذج، حيث نعتقد أن كل شيء هو مسألة حل وسط وتسوية، على الرغم من الخلافات والمنافسات. لقد انتهى هذا العصر، وقادتنا العديد من الأحداث إلى عالم قائم على علاقات القوة: البريكسيت، وانتخاب ترامب، وتأكيد “أمريكا أولاً”، وفيروس كوفيد -19، والآن الحرب في أوكرانيا.

   ليس فقط أن الحرب تعود، ولكن بقية العالم يقول لنا: “إنها حربكم، حرب الشعب الأبيض، نحن لا نهتم، لا تطلبوا منا الانحياز”. تعتقد جنوب إفريقيا والهند ودول أخرى، أن الغرب انتهك أيضًا القانون الدولي، على سبيل المثال في العراق، ويتمسك بمصالحه الخاصة. إنّ هذه الدول لا مصلحة لها في المشاركة، وعلى العكس من ذلك، فهي تستفيد حاليًا من النفط الروسي الرخيص. ولفهم هذه الحقيقة، من المفيد العودة إلى التاريخ، لأن هذا العالم الجديد يشبه العالم الذي عرفناه حتى عام 1939: عالم القوى العظمى.

   *من بين الدروس العشرة التي تستخلصها في هذا الكتاب، ما هو برأيك الأكثر صلة بالموضوع في ضوء الأحداث الجارية؟
   - واحدة من أكثر الحلقات حيوية في ذاكرتنا اليوم هي دخول الحرب العالمية الثانية والطريقة التي تعاملنا بها مع صعود هتلر إلى السلطة. ما زلنا مهووسين بهذه المأساة المطلقة، وتشعر فرنسا بشكل خاص بهذا الذنب لقيامها بالتضحية بتشيكوسلوفاكيا، “التي أعطيت” لهتلر في ميونيخ عام 1938.
    لذلك عندما يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: علينا التفاوض مع بوتين، نتلقى الرد السخيف من رئيس الوزراء البولندي على أن التفاوض مع بوتين يشبه التفاوض مع هتلر. بسبب هذا الماضي، بمجرد أن تقول إن عليك التفاوض مع ديكتاتور، يتم الرد عليك: “ميونيخ! أنتم تستسلمون!”، لكن من دروس التاريخ أن الدبلوماسية هي التحدث مع الشيطان. إذا رفضنا أي مفاوضات، فماذا نفعل؟ هل نقتل بوتين؟ هل ننتظر منه أن ينتحر؟ لا معنى لكل هذا. إن رفض التفاوض من حيث المبدأ مع بوتين يؤدي إلى طريق مسدودة ويحكم علينا بحرب أبدية.

   *لكن اليوم، يبدو أن التفاوض بعيد المنال ...
   - يعلمنا التاريخ أن ساحة المعركة هي التي تقرر. كيف نُنهي حربا؟ أو بالأحرى، متى يمكن ان نسعى للسلام؟ عندما يكون هناك رابح وخاسر، وعندما يعترف الخاسر بأنه خسر، ويوافق الفائز على ايجاد اتفاق. في أوكرانيا، نحن بعيدون كل البعد عن ذلك. ولهذا التفاوض في هذه المرحلة مستبعد. بل العكس يحدث، إن أوكرانيا تكسب على الميدان، وعندما تتقدم، فأنت تريد أن تمضي الى النهاية. والروس، خاسرون، يريدون استعادة الوضع. وبالتالي، يمكننا للأسف أن نتوقع استمرار القتال في الأسابيع المقبلة، باستثناء أي ظروف غير متوقعة. ففي الأحداث التاريخية، هناك دائمًا 5 بالمائة من الاحداث غير المتوقعة...  

   *في كتابك، تقتبس كثيرًا من هنري كيسنجر، الذي كرست له كتابا سابقًا. في مايو الماضي، خلال جلسة للمنتدى الاقتصادي العالمي، قال الرئيس السابق للدبلوماسية الأمريكية إنه يؤيد إعادة الوضع إلى ما قبل 24 فبراير. بعبارة أخرى، العودة إلى أوكرانيا بدون شبه جزيرة القرم ودونباس تحت الاحتلال.
من الواضح أن هذا الرأي مثير للجدل. ما هو رأيكم؟
   - قالها كيسنجر في مايو، ولست متأكدًا من أنه سيقول نفس الشيء اليوم. مرة أخرى، ساحة المعركة هي التي تقرر. في بداية الصراع، أكد زيلينسكي أنه مستعد لمناقشة دونباس وشبه جزيرة القرم... لقد تغير موقفه، فهو لا يريد التفاوض على أي تنازل عن الأرض، وهذا أمر طبيعي.
   اليوم، نوع “الحل” الذي دعا إليه كيسنجر في مايو ليس فقط غير مسموع، ولكنه لم يعد يتوافق مع الوضع على الأرض.

   *كيف يكون “التعاطف” الذي تدعو إليه في كتابك مفيدًا في الأمور الدبلوماسية؟
   - خذ على سبيل المثال الصين. إذا وضعت نفسك مكان بكين، ماذا ترى؟ أن جميع حدود الصين غير مستقرة: أفغانستان؛ الهند التي هي عدو بحدود غير محددة؛ فيتنام واليابان اللتان كانت الصين في حالة حرب معهما؛ تايوان؛ شبه الجزيرة الكورية، ناهيك عن عشرات القواعد الأمريكية في المحيط الهادئ. تقوم الزوارق الأمريكية بدوريات على بعد 200 ميل من الساحل الصيني. كما قلت للأمريكيين مرارًا: لا توجد زوارق صينية تقوم بدوريات قبالة الساحل الأمريكي! لذلك إذا كنت صينيًا وتعتبر، لأن الصين كانت القوة الأعظم في العالم حتى عام 1750، أن من حقك ان تنعم بالأمن، فأنت ستعتبر أن الوضع ليس جيدًا.
   وانطلاقا من هذه الرؤية، وبما أن أي السياسة الدولية تتطلب الاستعداد للأسوأ، يجب أن تكون الولايات المتحدة قادرة على احتواء الصين والتحدث معها بشكل بناء.
   *فيما يتعلق بعودة القوى العظمى، فإن اللقطات التاريخية التي نشهدها لا تصدق: بوتين يريد تجاوز ستالين، وأردوغان يريد تجاوز مصطفى كمال، وشي جين بينغ على وشك الحصول على ولاية ثالثة غير مسبوقة على رأس الصين...
   - فعلا، نحن نشهد نهاية الهيمنة الغربية على العالم. لقد تغيّر ميزان القوى مع ظهور الصين والهند ... نحن الغربيين لا ندرك كم هو غربي هذا العالم، وكم نحن نسيطر عليه.
 انظر إلى المؤسسات الدولية: يدير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الأمريكيون والأوروبيون. في الأمم المتحدة، المناصب الهامة يشغلها الغربيون ... العالم يتغير والعديد من الدول تقول لنا: “لقد سئمنا من تفوقكم”. ونرى هذا النوع من الجدل خاصة في منطقة الساحل، ولكن أيضًا في الهند.

   *هل عودة لعبة “القوى العظمى” تعني نسخة ثانية من الحرب الباردة؟
   - لسوء الحظ، لدينا القليل من الخيال: برمجية الحرب الباردة يعلوها الغبار بعض الشيء، لكنها موجودة لذا نستعيدها. في رأيي، هذا خطأ في التحليل لسببين: 1 - تعتمد الولايات المتحدة والصين اقتصاديًا على بعضهما البعض، مما يعني أنهما لا تريدان ستارة حديدية أو “ستارة من خيزران».
  - 2 الدول الاسيوية لا تريد، مثل اوروبا في الخمسينيات، الانحياز الى طرف ما.
 إندونيسيا “273 مليون نسمة” وتايلاند وحتى الدول التي تشعر بالقلق من ظهور الصين مثل اليابان وفيتنام، لا تريد أن تضطر إلى دخول الخنادق. من الواضح أنهم قلقون، لكن مصالحهم الاقتصادية غالبًا ما تكون موجهة نحو الصين أكثر من الولايات المتحدة. باختصار، هم بين المطرقة والسندان. هذا هو السبب في أننا، في رأيي، لسنا في حرب باردة جديدة بين معسكرين، ولكن في وضع لزج أكثر .

   *من حيث القيم، ألا نشهد، مع ذلك، “حربا عالمية بين الديمقراطية والديكتاتورية”؟
   - هذه قراءة يريد أصدقاؤنا الأمريكيون فرضها. لكن الولايات المتحدة لا تساعد أوكرانيا في الدفاع عن الديمقراطية؛ هذه ليست حربا من اجل القيم. لو اصبحت قيرغيزستان ديمقراطية غدًا وتعرضت للهجوم من قبل روسيا، لما كنا قد تحركنا!
   *لماذا يدعم الغربيون أوكرانيا إذن؟
   - لأن مصلحتنا الجيوسياسية معرضة للخطر، فليس لدينا مصلحة في أن تتعرض حدود أوروبا للمراجعة بالقوة، ولا أن تصبح أوكرانيا تابعة لروسيا.